التجديد في «تفسير المنار»

ميا عبدالله

يَبْدأ الباحثُ مُحمد نبيل غنايم، في مقاله المنشور في مجلة "التفاهم"، تحت عنوان "تفسير المنار: دراسة في التقليد والتجديد"، ببحث العلاقة بين التفسير والتأويل، والذي يتحقق ببحث كل من مصطلحي "التفسير"، و"التأويل"؛ فيذكر أنَّ التفسير لا يختلف في مقصوده الاصطلاحي عن استعماله اللغوي -والذي هو البيان والكشف، والتوضيح- إلا في التحديد، والتخصيص بالقرآن الكريم، وبعد ذكره لعدد من تعريفات "التفسير" عند أهل المصطلح؛ يخلص إلى أنَّ التفسير علم يعرف به أحوال القرآن المجيد، ومعرفة مراد الله من نزوله بقدر الطاقة البشرية. ثم يُبيِّن الباحث معنى التأويل لغة، واقتصر فيه على معنى الرجوع. أما اصطلاحًا فاقتصر على تعريف الإمام الغزالي الذي عرَّفه بأنه صَرف اللفظ عن المعنى الظاهر إلى معنى مرجوح، لاعتضاده بدليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الظاهر.

اختلفوا في العَلاقة بين مُصطلح التفسير والتأويل؛ فرأى بعضهم الفرق بين المصطلحين؛ فجعل التفسير للألفاظ، والتأويل للتراكيب والمعاني، أو جعل التفسير للمعاني، والتأويل للأسرار والحكم، أو جعل التفسير للمعاني القريبة، والتأويل للمعاني البعيدة. وثمة فروق أخرى عند من يرى الفرق بينهما، بينما يرى محمد نبيل غنايم وآخرون أنه ونظرا لاتفاق معنى مصطلحي التفسير والتأويل في معنى الكشف عن المعنى المراد، فقد ساوى بينهما كثير من العلماء، وعدوهما شيئا واحدا بالنسبة للقرآن الكريم وآياته، ويستدل بالطبري -الذي سمَّى كتابه في التفسير بـ"جامع البيان عن تأويل آي القرآن"- وكذلك بتعبيره عند ذكره تفسير كل آية بعبارة: "القول في تأويل قوله -تعالى-"، وكذلك يعبر الطبري بقوله: "اختلف أهل التأويل"، وقصده المفسرون. ويخلص الباحث من ذلك إلى أن الصحيح أنهما مصطلحان مترادفان.

ثمَّ ذكر الباحث ما جاء في تفسير المنار، وفيه قسَّم التفسير إلى مراتب؛ أدناها أن يُبين بالإجمال ما يشرب القلب عظمة الله وتنزيهه، ويصرف عن النفس الشر ويجذبها إلى الخير، وهذه المرتبة ميسرة لكل أحد، وأما المرتبة العليا فهي لا تتم إلا بأمور؛ أحدها: فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعها القرآن، بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة، غير مكتف بقول فلان، وفهم فلان؛ فاستعمال الألفاظ للمعاني يتبدل عبر الزمن؛ فعلى المدقق أن يفسر القرآن بحسب المعاني التي كانت مستعملة في عصر نزوله، والأحسن أن يفهم اللفظ من القرآن نفسه، بأن يجمع ما تكرر منه في مواضع وينظر فيه؛ فربما استعمل اللفظ بمعان مختلفة. ويخلص الباحث إلى أن ما ورد في المنار هو أنَّ التفسير عام شامل للتأويل بمعانيه الأولى التي كان مساويا فيها للتفسير، ولكن مع التنبه لما حصل لمعنى التأويل بعد القرون الثلاثة الأولى من تغيُّر.

ثمَّ يعرض الكاتب لموقف الإمام محمد عبده، وتلميذه محمد رشيد رضا، من التقليد والتجديد؛ فرفضا التقليد وقبَّحاه في تفسير القرآن؛ لأنه لا يناسب القرآن الكريم؛ حيث اختلفت العصور، وتغيرت المعاني، وتطورت الدلالات، كما دعيا إلى التجديد في التفسير بعدم الاقتصار على مجادلات السابقين ممن حملوا القرآن رؤاهم، وآراءهم؛ فصار القرآن تابعا لا متبوعا، وحرف عن أصل مقصده وهو الهداية إلى مقاصد المفسرين وفقا لثقافاتهم وآرائهم؛ فنجد من صيَّر القرآن الكريم مسرحا لصراعات السياسيين، ومجادلات المتكلمين، ومصطلحات الحادثين، كما نجد مقاصده مسيرة وفق المرويات المنسوبة للنبي الكريم، وهو منها براء؛ لأنه أمرنا بعرض ما ينسب إليه على القرآن؛ فهما ينبثقان من مصدر واحد، فبكل ما سبق صار مقصد القرآن من الهداية والإنذار والتبشير والإصلاح، وكذلك نبه الإمام محمد عبده مفسر العصر إلى ضرورة مراعاة أحوال عصره؛ فيكون مُلمًّا بأحواله، وملمًّا بثقافاته وعلومه، كما يكون مراعيًا لفُهُوم المخاطبين بتفسيره.

ويعرض الكاتب -بشكل مُقتضب- جدًّا لبعض الدراسات التي تناولت التجديد في تفسير المنار؛ فيشير إلى ما ذكره "ج.جومييه" من أن تفسير المنار يُؤكد تقدير القرآن للعقل والوحي، ويحث على النظر والتأمل، ويثني على العلم والعلماء، كما يشيد بما أثارته مدرسة المنار من دراسة التاريخ، والسنن الاجتماعية باعتبارها من المسائل الكبرى التي ينبغي التركيز عليها في هداية الناس، وكذلك يثني على ما دعت إليه مدرسة المنار من ضرورة فتح باب الاجتهاد، وتبنيها له عمليا؛ فلم تلتزم بحدود مذهب معين، كما أخذت على عاتقها حربها للخرافات والبدع.

وكذلك عرض الباحث لدراسة عبدالله شحاتة عن منهج الإمام محمد عبده، والتي تضمنت ترجمة للإمام، ورصدا للظواهر والاعتبارات التفسيرية التي شاعت في تفسيره، ومدرسة الإمام في التفسير. وقد ذكر عبدالله شحاته أن الأسس في منهج الإمام هي: اعتبار السورة وحدة متناسقة، واعتبار القرآن المصدر الأول للتشريع، وعموم القرآن وشموله، ومحاربة التقليد، وإعمال النظر والفكر، واستخدام المنهج العلمي في البحث والاستنباط، وتحكيم العقل والاعتماد عليه في فهم آيات القرآن، وترك الإطناب عمَّا ورد في القرآن بصورة مُبهمة، والتحفظ في الأخذ بما سُمِّي بالتفسير بالمأثور، والتحذير من الإسرائيليات، والاهتمام بتنظيم الحياة الاجتماعية على أساس من هَدْي القرآن. وأما الخصائص الخمس التي ميزت تفسير المنار؛ فهي: التحقيق العلمي، وتأثر صاحب المنار بابن كثير والغزالي، والتوسع والإطالة، وبيان السنة الاجتماعية، وأسباب التطورات التاريخية، واستنباط ذلك من القرآن الكريم.

ثمَّ ذكر الكاتب ما تضمَّنته دراسة د. محمد شريف عن مدرسة المنار، خلال دراستها لاتجاهات التجديد في مصر، وقد انتهى د. محمد شريف إلى أنَّ الإمام محمد عبده، ومن بعده تلميذه محمد رشيد رضا، نهضا بتفسير للقرآن، لا ليكون نسخة أخرى تتشابه مع سابقاتها من التفاسير، بل ليكون صيحة البعث، ونور الشرق، وأن يظهر الذكر كما أنزله الله، ناصع الصفحة، واضح الغرض، وأن يعالج في ضوئه أدواء من غفلوا عن هديه؛ فإذا جاءت آية في العقيدة عرضها وبيَّنها بيانا ينفي الدخيل عليها في التاريخ، وإذا كانت آية في الأخلاق أبان أثر قيام هذا الخلق في صلاح الأمم، وضياعه في فسادها، وإذا كانت الحالة التي يعرض لها اجتماعية، أوضح أثر هذه الحالة الاجتماعية في حياة الأمم، مسترشدا بالواقع، ومستشهدا بما يجري في العالم. ويلخص د. محمد شريف منهج وغاية الإمام في تفسيره بأن أكثر قيمة له في تفسيره أنه كان يحيي العواطف ويحرك المشاعر، ويتَّجه إلى القلب أكثر مما يتجه إلى العقل واستقصاء المسائل العلمية، وينص على كل ما يرى من إصلاح حول تفسير آيات القرآن الكريم، متأثرا في ذلك بطبيعة الدين نفسه.

... إنَّ المواصلة الحقيقية للتجديد الذي نهض به الإمام محمد عبده لا تكون بتصيير ما وصل إليه الإمام منتهى المقصود من التجديد، بل إن ذلك يكون نكوصا عما دعا إليه الإمام من نبذ للتقليد، ومن ضرورة مواكبة للعصر في فهم القرآن الكريم، بل لا بد من أن نتعامل مع القرآن بما انتهت إليه مناهج الفهم في عصرنا؛ مستفيدين في ذلك من الإنتاج الحضاري المستمر، ومنفتحين على الإرث الإنساني الواسع، وهذا كله مع وعي بالذات، وخصوصيتها الحضارية والتاريخية.

أخبار ذات صلة