ميا عبدالله
سبق ظهور الإسلام في المنطقة ثقافات وأديان وقوميات لها خصائصها المتفقة والمختلفة عنه؛ فكان لابد لها أن تقرر نوع العلاقة التي ستتخذها مع هذا الدين الجديد، كما كان على هذا الإسلام وأتباعه أن يحددوا منها موقفًا.
يتتبع المقال المنشور في مجلة التفاهم بعنوان "التفكر الإسلامي في المسيحية الجدال والحوار والفهم المختلف في العصور الوسطى" الموقف الذي اتخذه الجدل الإسلامي من المسيحية في العصور الوسطى، وفي سبيل ذلك يبدأ بعدة منطلقات أطلق عليها "افتراضات"، والتي يبغي من خلالها كشف هذه العلاقة؛ الافتراض الأول: أنَّ المسلمين الذين تجادلوا مع المسيحية فيما بين القرنين الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، والثامن الهجري/ الخامس عشر الميلادي ـ كانوا يعرفون المسيحية العربية معرفة جيدة نسبيا؛ فيعرفون كتبها وفرقها. الافتراض الثاني: أن المسيحية التي تجادل معها المسلمون ما كانت المسيحية في صورتها القرآنية، ولكن لا شك أن الباحث لا يقصد بذلك نفي تأثير الصورة المسيحية في القرآن والحديث على تصور المسلمين للمسيحية وموقفهم منها. الافتراض الثالث: أن مقاربات المسلمين للمسيحية آنذاك اختلفت باختلاف اختصاصاتهم، واهتماماتهم ومقاصدهم، واختار الكاتب أن يكون معنياً في بحثه بالكتابات المعقلنة التي تستفيد من ثقافة المتفلسفة ومصطلحاتهم، ومناهج المتكلمين وطرائقهم. الافتراض الرابع: أن تلك الجداليات ما كانت علاقتها بالواقع الثقافي والتاريخي شديدة الوضوح أو البساطة؛ وذلك بسبب الطبيعة العقائدية للجدال، ومتغيرات الواقع والزمان التي تحيل إلى مرجعية ذلك الواقع؛ بينما تبقى الكتابات العقدية ذات ثبات نسبي تقنع أكثر مما تكشف.
بعد تلك المنطلقات التي حددها الباحث لمقالته أخذ بتتبع تاريخ الجداليات الإسلامية المكتوبة في مواجهة المسيحية؛ فأقدم هذه الجداليات هي الرسالة المنسوبة لمن يسمى (عبدالله بن إسماعيل) الهاشمي إلى صديقه المسيحي النسطوري المسمى (عبد المسيح بن إسحاق) الكندي يدعوه فيها إلى الإسلام، ويرى بعض الباحثين أن كاتب هذه الرسالة والرد عليها واحد، ويرجح الباحث أنه نسطوري في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، ولكن على الرغم من ذلك يمكن أن نستنتج من الرسالة والرد ما كان يعده المسيحيون بعامة مواطن القوة والضعف والمجادلة في كلا الدينين، كما تكشف العلاقة بين البيئات الإسلامية والمسيحية، ونوع العلاقة وطرائق التعامل السلوكي بينهما.
تحددت المعالم الكبرى للجداليات الإسلامية ضد المسيحية من خلال أعمال رجلين اثنين؛ الأول مسيحي نسطوري اعتنق الإسلام، وهو علي بن ربن الطبري (ت: 240هـ/855م)، وألف كتابي: الرد على النصارى، والدين والدولة. والثاني متكلم متشكك ـ فيما يبدو ـ في الأديان كلها، وهو أبو عيسى الوراق (العاشر الميلادي)، وألف في المقالات، وأوائل الأدلة، والرد على الفرق المسيحية الثلاث.
ومن أوساط القرن العاشر الميلادي وصلتنا رسالة الحسن بن أيوب التي يدعو فيها أخاه علي بن أيوب للإسلام بعد أن أسلم هو، وكذلك كان للجاحظ رسالة صغيرة في الرد على النصارى، وكذلك للقاسم بن إبراهيم الرسي، وكذلك شارك الفيلسوف الكندي برسالة في نقد التثليث، وصارت كتب المتكلمين بعد ذلك تخصص فصلا أو فصولا للحديث عن المسيحية والرد عليها، كما تفعل مع أديان ومذاهب أخرى كالزرادشتية، والمانوية، واليهودية، وقد ظهرت المؤلفات الجدالية الكبرى مع الغزوتين الصليبية والمغولية؛ فقد اتخذ المسلمون من رسالة بولس الأنطاكي (1140ـ 1180م) مطران صيدا التي أرسلها لأصدقائه المسلمين ذريعة لبدء حركة جديدة للجدال بلغت ذروتها في ثلاثة ردود على مدى نصف قرن؛ وهي: رد أحمد بن إدريس القرافي (ت 684هـ/ 1285م) بعنوان: الدرر الفاخرة في الرد على الأسئلة الفاجرة، ورد محمد بن أبي طالب الأنصاري (727هـ/ 1327م) بعنوان: جواب رسالة أهل مدينة قبرص، ورد ابن تيمية (728هـ/1327م) التفصيلي بعنوان: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، وتختتم المرحلة الكلاسيكية للجدال المشرقي برسالة ابن القيم الجوزية بعنوان: هداة الحيارى من اليهود والنصارى.
وأما الخط الأندلسي فقد كان مستقلا بعض الشيء في الأسلوب، والمصطلح، والأهداف عن الجداليات المشرقية، وهذا يعود بالطبع إلى الخصوصية الثقافية والجغرافية للأندلس، ونجد في سياقه بداية ابن حزم (456هـ/1064م) الذي كتب في الملل والأهواء والنحل في نقد العقائد والنصوص المقدسة عند المسيحيين، ثم الخرجي (ت582هـ/ 1187م) صاحب مقامع الصلبان، والجعفري (ت637هـ/ 1239م) صاحب: تخجيل من حرف الإنجيل، والقرطبي (ت827هـ/ 1424م) صاحب: الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام وإثبات نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، وأخيرا المؤلف المسمى بعبدالله الترجمان (ت: 827هـ/1424م) صاحب: تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب. أما الموضوعات التي يحاكم فيها المجادلون المسلمون في محاكمتهم للمسيحية فتندرج تحت خمسة عناوين ـ تختلف بعض الشيء من مؤلف لآخرـ تندرج تحت هذه العناوين: التثليث، والتجسد، والصلب والفداء، والكتب المقدسة، والتاريخ والشعائر والأحكام والعبادات، مع اختلاف المناهج في معالجتها، لكن يمكن القول: إن منهجين أو طريقتين سادتا في الأغلب الأعم؛ الأولى: الطريقة النصية؛ وتعنى بمقاربة نصوص العهدين القديم والجديد ومتابعتهما بدقة؛ لاستخراج النقد ووجوه التناقض فيها مع الاستئناس بالقرآن والسنة أحيانا، وغلبت هذه الطريقة لدى المؤلفين الأندلسيين فيما عدا ابن حزم، وبعض المشارقة مثل ابن القيم الجوزية. وأما الطريقة الثانية فهي الطريقة الفلسفية أو الكلامية؛ وهي تنظر إلى المسيحية باعتبارها بنية لاهوتية وعقلية واحدة؛ فتقاربها على أساس فلسفي وكلامي، وتحاكمها محاكمة تستند إلى المنطق العقلي المستفيد من التراث الفلسفي الهيلليني، وسلك هذا المنهج الفيلسوف الكندي، وأبو عيسى الوراق، والجاحظ، والقرافي، بينما حاول ابن تيمية الجمع بين الطريقتين.
تركت نقاشات المسلمين في مسألة التثليث على أمرين، وهما البدء، وفيه يظهر تاريخ المسيحية التي انحرفت من التوحيد إلى التثليث، والجوهر وهو عند المسلمين "ما شغل حيزا وقبل عرضا"، وعند المسيحيين "القائم بنفسه" والذي "ليس هو في موضوع". وأما عقيدة التجسد فسعى المسلمون لدحضها ـ كما يذكر عبد المجيد الشرفي ـ بثلاث طرق: الاعتماد على النصوص القرآنية النافية لألوهية المسيح، وتأويل النصوص الإنجيلية بما يلائم المسيولوجيا الإسلامية، ومناقشة تلك العقائد بالأدلة العقلية، والبراهين المنطقية. وأما في الصلب والفداء فيركز المفكرون المسلمون على تنافي الصلب مع الألوهية المفترضة للمسيح، وكذلك عدم التواتر فيه. وأما في الكتب المقدسة فيركزون على التحريف الذي جرى فيها إما نصا أو تأويلا. وفي التاريخ والعبادات والشعائر والأحكام والأخلاق؛ فيركزون على الانحراف عن الدعوة المسيحية الأصلية، والتي كان فيها المسيح مصدقا لما بين يديه من التوراة، وأن التحول الذي صار في أحكامها وشرائعها إنما كان بسبب بولس المتأثر بوثنية الروم، وكذلك بسبب رجال الدين.
يؤكد الباحث أنَّ الصورة المستخلصة من آراء الجداليين المسلمين في المسيحية، والتي تعدها انحرافًا عن الدين الحق ليست هي الوحيدة في المجال الإسلامي الوسط؛ فهناك صورة إيجابية تمثلت آيات قرآنية تثني على المسيحيين، وأيضًا في فئات إسلامية مثل الصوفية، وكذلك صورتها في كتب أهل الذمة، إن كانت غير محببة إلا أنها أفضل من تلك التي يعرضها الجداليون، وكذلك الصورة التي تعرضها كتب الأدب، والأشعار والسمر، تختلف عن الصورة التي يرسمها الجداليون.
