أمجد سعيد
نَشَر نيكولاس بورسيل وبيرجن هورتن مَقالًا في العام 2006م؛ ذكر فيها حرفيًّا ما يلي: "يمكن للمقارنة النسقية بين البحار أن تُوحِي بتصوُّر جديد للتاريخ، ستمكنه من أن يصل إلى مستوى عالمي شمولي. والحال أنَّ مفهوم البحر أو المحيط قد بدأ من هنا مفهومًا واعدًا ومهمًّا". في المقال البحثي بقلم هانز غاوبه بعنوان "دراسات المحيط الهندي"، تمت مناقشة أهمية المسطحات المائية كالبحار والمحطيات بالنسبة لتتبع التاريخ، وقد بدأ هذا التمحص في المحيطات المائية من المفاهيم الاصطلاحية لها، كلفظ البحر أو المحيط، حيث إن الاصطلاح "علم تاريخ البحار" (Thalassology). واشتقاق هذا الاسم جاء من اللفظ اليوناني القديم الدال على معنى البحر(Talassa). عبارة مثل هذه كانت ستبدو مستحدثة، وإن كُتبت قبل خمسين سنة من هذا التاريخ؛ وذلك لأنه كانت قد ظهرت عام 1949م النشرة الأولى لكتاب فرناند لروديل "البحر الأبيض المتوسط في عهد الملك فيليب الثاني".
والحال أنَّ النشرات المستحدثة المستجدة لهذا الكتاب وترجماته إلى العديد من اللغات جعلت شهرة كتاب بروديل تجول العالم، ولم يكن ذلك بالأمر الفجائي؛ ذلك أنه وفضلا عن موقف بروديل الموسوعي الأكاديمي، فإنَّ لغته ركزت في العديد من أجزاء عمله على الصلة ما بين البحر والبر وبين البر والبحر: "موصولة هي حياة البحر بحياة البر، وشعر البحر أشبه ما يكون بشعر البادية، نصفُه بدوي الطبع، وبحَّارة البحر يمكن أن يستحيلوا إلى مزارعين حسب الفصول. وإنه لبحر أشجار الكروم والزيتون تماما مثلما هو بحر السفن الشراعية ذات المجادف الضخمة، وسفن التجار المستديرة. وتاريخه لا يُمكن بأي حال أن ينفصل عن تاريخ البر المحيط به مثلما ليس من الممكن فصل الطين عن يدي الطيان التي تشكله".
ومهما يُقال، فإنَّ أفكار بروديل قد أسهمت إسهاما حاسما في التأثير على ما صار يعرف فيما بعد تحت مسمى "مدرسة الحوليات التاريخية"، كما أسهمت هي في توجيه مباحثها بقوة. على أن هذا لا يمنعنا من القول إن أفكار بروديل صبت في مجرى المؤرخين المحدثين الذين اكتشفوا بشكل مفاجئ ما كان أبجديا معروفا منذ أمد بعيد. على أن دراسات بروديل البحرية قد ركزت واتكأت على مساحة خلقها البحر الأبيض المتوسط. وقد ترك لبعض الباحثين فرصة توسيع نظرتهما والأخذ بعين الاعتبار النظر للمحيط الهادي والمحيط الأطلسي؛ بسبب أنهما وحدتان تاريخيتان واقتصاديتان وثقافيتان، ونتيجة لذلك فإنه ليس من المفاجئ للجميع بالمرة أن تكون وجهة النظر هذه قد لامست وامتدت لتطال المحيط الهندي وتشمله ضمن مخطط الدراسات البحرية كذلك. وقد وضع البعض هذه المقاربة ليس لشيء وإنما كانت الحدث الرائج آنذاك، والبعض كان على تمام الدراية بفوارق المناطق المذكورة آنفا؛ وذلك لأن المحيط الهندي كان مسرحا أقدم بكثير للاتصالات الاقتصادية والثقافية التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ والشعوب الشرقية البائدة.
بعد أن تمَّت مُعالجة معظم البحوث التاريخية المتعلقة بالمحيط الهندي، أشار بروديل إلى نتيجة مفصلية؛ مفادها: هناك حاجة ملحة لمواجهة مشكلتيْن أساسيتيْن إذا أردنا أن نكتب تاريخا مُقنعا للهند والمحيط الهندي؛ أولا: نحن بحاجة لتعيين الحدود الجغرافية للمحيط الهندي بدقة، ثانيا: علينا أن ننظر بعامة إلى المواضيع والنزوعات المشتركة، وأن نرى إلى أي مدى يمكننا التحدث عن الوحدة في المحيط الهندي. بقدر ما تعلق الأمر بالحدود الجغرافية للمحيط الهندي، جاء الرسم الجغرافي الدقيق لحدود المحيط الهندي كحل بسيط نسبيا؛ وهو: أن المحيط الهندي يبتدئ من رأس الرجاء الصالح في الغرب إلى القطب الجنوبي في الجنوب، ويضم بحريْن معا؛ هما: البحر الأحمر وبحر الخليج؛ ويتخلى عن بحرين معا؛ هُما: بحر جافا وبحر جنوب الصين. وهكذا يُصبح المحيط الهندي المجال المائي الواقع شمال هذه. وفي الشمال الغربي، تمتد الحدود من المدخل الجنوبي إلى قناة السويس نزولا للساحل الإفريقي الشرقي وإلى رأس غولهاس، ومن هناك جنوبا إلى الحدود الشمالية للمحيط الجنوبي، وشرقا من السويس. فأما الحدود الشمالية فتتبع الساحل الآسيوي في كل اتجاه محيط حول مضيق مالاي في الحد الأقصى للجنوب الشرقي. أما المنطقة الصعبة التي تشكل الخلاف، فهي إندونيسيا. واذا ما تم النظر إلى المجال نظرة شاملة، وجدنا أن المحيط الهندي يضم في مجاله المائي بحارا عديدة؛ منها: بحار يافا وفلويس وتيمور وباندا وأرافورا وسيرام وحدودها التي تتبع الخط الساحلي الأسترالي من رأس لويوين في كلِّ الاتجاهات نحو رأس يورك، ويمتد على طول الامتداد الواقع بين خط الاستواء ومالايا.
وإذا تمَّت الإشارة المختصرة إلى هذا الأمر؛ ستظهر لنا المشكلات مرة واحدة. ومنها أنه إذا ما ذهبنا نحن إلى البحر الأحمر، فإن التساؤل المطروح: لماذا لا نذهب أبعد من البحر الأبيض المتوسط؟ وماذا يقال بالنسبة إنْ ذهبنا للحدود الشرقية للمحيط الهادي التي تم ذكرها آنفا؟
مُعظم المسافرين على صفحة المحيط الهادي لا يعلمون شيئا عن هذه الحدود الجغرافية الاصطناعية التي ذكرت هنا؛ وهذا كل ما يحتاجه الأمر، وهو تكوين فكرة حقيقية لأبعاد المحيط الهندي الذي لا تقل أهميته وتاريخه عن المحيطات الأخرى؛ فلو ذهبنا إلى أبعد من هذه الحدود الجغرافية وتوغلنا في تاريخ الأراضي التي تشكل حدود هذا المحيط الضخم لاستغرقنا الكثير والكثير في البحث عن العوامل الإنسانية والتجارية والدينية؛ فما يُشكل حدود الأشياء ونخص هنا المحيطات والمحيط الهندي بالذات هو التاريخ الذي بدوره صنع شيئا فشيئا هذه الحدود من أفواه الذين أبحروا على متنه ومن المسافات المحددة التي قطعتها سفنهم؛ سواء كان ذلك لهدف إنساني نبيل أو لأسباب أخرى جعلت هذه الحدود قابلة للرصد والتأريخ.
