عبدالله العلوي
يُعطينا الباحثُ المغربي رشيد العفاقي في مقاله "الصحافة اللبنانية المهاجرة إلى طنجة 1889-1911"، والمنشور بمجلة "التفاهم"، نموذجًا مهمًّا جدًّا من نوعية الهجرة وثقافة الهجرة، وهذه الهجرة تختلف عن بقية الهجرات؛ فغالبًا عندما نسمع عن الهجرة تذهب مخيلتنا إلى الهجرة للدول الأوروبية والأمريكيتين، ولكن هذه المرة هي هجرة عربي إلى دولة عربية. وعموم القول إنَّ هذه الهجرات غالبًا ما تكون بسبب طلب الاستقرار: النفسي، والاقتصادي، والأمني، والسياسي، والاجتماعي، بعد ما مرت بها البلاد العربية في القرنين الماضيين من مآسٍ جمَّة وظروف قاسية جدًّا، وكل ذلك سبَّب فراغا سياسيا ومجتمعيا؛ مما اضطر إلى انتقال البعض من بلده الأم لدولة أكثر أمنًا، حتى ولو كانت عربية، وهذه ذاتها الظروف التي جعلت اللبنانيين يُهاجرون إلى المغرب العربي وغيرها من الدول المجاورة؛ بسبب الظروف السياسية في تلك الحقبة من الزمن، وأنشأوا فيها صُحفا ومجلات وأدبيات، وظهر الكثيرُ من الصحفيين اللبنانيين في المغرب؛ منهم من ذكره العفاقي في مقاله آنف الذكر، ومنهم ما مرَّ مرور الكرام على المغرب تمهيدًا لخروجه إلى أوروبا.
لم يتخلَّ الصحفيون الشوام عامَّة -سواء السوريين أو اللبنانيين- عن دورهم الصحفي في مهجرهم، بل لعبت الصحافة المهاجرة دورًا مهمًّا في الحديث عن الثقافة والمجتمع والسياسية؛ فنشأت صُحف ذات اختصاص واحد، وأخرى ذات اختصاصات متنوعة؛ فبعضها كانت إخبارية وأدبية وعلمية؛ مثل: جريدة "المغرب"، والتي أنشأها اللبنانيان عيسى فرح وسليم كسباني في المغرب، وبعضها كانت أدبية وعلمية وسياسية وتجارية مثل جريدة "الصباح"، التي أنشأها الصحفي اللبناني وديع كرم، وهناك صُحف مختلفة الاختصاص أوردها العفاقي في مقاله سابق الذكر.
سارتْ الصَّحافة المهاجرة -سواء في الدول العربية، أو أوروبا، أو الأمريكيتين- وفق المصالح السائدة حينها؛ سواء كانت مصلحة تجارية يتمُّ دفعها من قبل الحكومات أو حكومات الانتداب، أو سياسية تخدم حكومة عن غيرها، والوقوف في صف حُكم معين، وغالبا ما يتم إسقاط مثل هذه الجرائد مثلما حصل لجريدة "لسان المغرب"، عندما أوقفها النائب السلطاني بطنجة السيد محمد الكبّاص، وطرد صاحبيها فرج الله نمُّور وأرتور نمُّور بعدما كانت مُوالية للحكومة، وإمَّا أن تلعب دورَ الحياد بين هذه وتلك، وغالبا ما تبقى دون غيرها، بينما هناك نوع آخر مختلف عن الاثنتين وعلى أكبر تقدير يُكتب لها البقاء وهي الصحف التي اهتمت بالمجتمع والأدب والفنون وأحوال المغتربين وكتاباتهم المختلفة؛ سواء الشعر، أو القصة، أو المقال... وغيرها، وتجد هذا النوع عند شعراء المهجر في الأمريكيتين؛ سواء في زمن جبران خليل جبران أو في الحقبة التي جاءت بعده، ومن أهم الصحف التي ظلَّت طويلا بسبب اتجاهها لمثل هذه المواضيع مجلة الفنون التي أنشأها الأديب نسيب عريضة، ومجلة "السمير" التي أنشأها الأديب إليا أبو ماضي التي عنيت بشؤون العرب في أمريكا.
إنَّ الصحافة العربية المهاجرة في عصرنا هذا، خاصة في أوروبا، تنعم بانتعاش ملحوظ، وتتميز بقوة كبيرة جدا، خاصة الصحف التي انتهجت نهج السياسة؛ مثل: جريدة "رأي اليوم" التي تصدر من العاصمة الإنجليزية (لندن)، وجريدة القدس العربي والتي يتمُّ طباعتها في لندن ونيويورك وفرانكفرت وتوزَّع في العالم أجمع؛ فهذا النوع من الصحافة لاقى قبولا من الجمهور العربي والعالمي؛ نظرا لأنها تتحدث عن العالم دون التركيز على دولة معينة، كما أنها تتحدث بلغات مختلفة، ورغم أن اهتمامها الأكبر هو الوطن العربي، لكنها لا تقف على توجهها هذا، بل تنتقل بين العالم، وتتحدث عن القضايا السياسية في العالم أجمع؛ لذلك لاقت رواجا كبيرا وانتشارا واسعا، ولها تأثير كبير حتى على مستوى الحكومات، وقد يكون سبب انتشارها هو حق الحرية المفتوح للكتابة فيها دون رقابة ودون شرعنة للنص، كما أنَّ هناك صحفا لها اهتمامات مجتمعية لاقت قبولًا من شريحة كبيرة في المجتمعات العربية؛ مثل: حرية المرأة والبطالة...وغيرهما. ويقول الدكتور محمود عاصم: "تولِي الصحف العربية المهاجرة اهتماما واسعا لقضية فلسطين وحرب العرب مع إسرائيل، وتتبوأ قضايا المرأة في الصحافة المهاجرة مكانا خاصا ينم عن المساواة والحب والتحرر وتكافؤ الفرص والمناصرة في المجتمع، كما أنها تركز جل عنايتها على موضوعات قلما تتناولها الصحف العربية الصادرة في العالم العربي، وهي تنطوي على حرية التعبير والفساد المستشري والبطالة المتفشية في الوطن العربي..."، ونقلًا من ذات المقال آنف الذكر للدكتور محمود، رُبما نتفق شيئا ما مع ما نقله عن الدكتور حلمي القاعود في كتابه "الصحافة المهاجرة: دراسة وتحليل"؛ حيث يقول: "إن الصحافة العربية المهاجرة هي بمثابة أقلام مأجورة من بعض الأنظمة لخدمة مصالح الحكومات العربية، ويدلل ذلك انهيار بعض الصحف المهاجرة التي اعتمدت على تمويل بعض الأنظمة".
لم تكُن الصحافة العُمانية المهاجرة أقل مستوى عمَّا ذكرناه سابقا؛ فقد أثبت نفسها في مهجرها؛ فكان دورها جوهريا جدا خاصة في سواحل إفريقيا، ولاقت توسعا مهما جدا، واهتماما بالغ الأثر من العمانيين المهاجرين إلى زنجبار، فأنشأوا الصحف من أجل نشر الدين الإسلامي، وإذكاء روح العروبة، ونشر العلم والثقافة العربية، كما أنها اهتمت بالقضايا الاجتماعية والسياسية والأدبية والعلمية والاقتصادية المختلفة، وتعد جريدة "الفلق" أهم جريدة قام العمانيون بإصدارها في المهجر الإفريقي، والتي يعود إصدارها إلى العام 1929م، وقد قامت الجمعية العربية في زنجبار بإصدارها، كما ظهرت عدة جرائد للمهاجرين العمانيين؛ مثل: جريدة "النجاح"، وجريدة "النهضة"، وجريدة "الإصلاح" والتي أسسها الشاعر العماني أبو مسلم البهلاني، مع العلم أنه رغم الظروف القاسية التي كانت تعاني منها حركة التواصل الدولي في ذلك الوقت، فإن الجرائد تصل إلى مسقط ومصر ولبنان وسوريا... وغيرها من الدول العربية، ونشير هنا إلى مقال "الصحافة العُمانية في زنجبار"، الذي تمَّ نشره في جريدة "العرب" في العدد 9957؛ حيث يقول صاحب المقال: تعتبر الصحافة العُمانية رائدة على المستوى العربي، وحرصت منذ بدايتها في مطلع القرن الماضي على الحفاظ على المفاهيم القومية، وتكريس الثقافة والأدب، عبر استقطاب كُتَّاب ومفكرين عرب بارزين، إضافة للعمانيين، وبعدة لغات".
يعد دُور الصحافة المهاجرة العربية قديمًا وحديثًا دورًا مهمًّا جدًّا؛ فهو وإن تغيَّرت مسمياته وطرائقه وأساليبه ومعانيه وغاياته، فإنه يستحق أن يعطى أهمية حقيقية واهتماما ملحوظا؛ سواء في القضايا التي يتناولها أو طريقة تناولها؛ فالكاتب فيها يكتب بلسان المغترب الذي خرج من بلاده ليجد قوت يومه أو كلمة حرة يقولها بدون خوف، وإهمال مثل هذه الأقلام لا يعني بالضرورة إسكاته، بل رُبما يكون قنبلة موقوتة ستنفجر يوما ما؛ بسبب إهمالك لها.
