الأيديولوجيا العربية المعاصرة

عاطفة المسكرية

تعدُّ رائعة ابن خلدون "المقدمة" من الكُتب المهمَّة في فهم التاريخ؛ حيث إنه أغنى المعرفة من خلالها بالكثير من النظريات؛ من بينها: نظرية بناء الدولة وأطوارها. ويستفتح ابن خلدون النظرية بالجزء المتعلِّق بالظفر بالسلطة ونشوء الدولة وارتقائها، مرورا بمرحلة الازدهار والتطور، ومن ثمَّ الفساد، انتهاءً بسقوط الدولة وانهيارها.. ونجدُ كل هذا ينطبق على الحضارات والدول عبر التاريخ؛ مما يجعل نظريته من المسلمات التاريخية، ويكاد يتفق الأغلبية على ذلك. فأفول الحضارات وشروقها يعد من ضمن قسريات النظرية الخلدونية، ولكن ما الذي يجعل الشعوب تستمر بالقتال في سبيل تغيير واقعها؟ إنَّها الطبيعة البشرية التي لا تكل عن البحث عن سبل التطوير والتقدم، حتى وإن أدركت أنها في وضع مُسلَّم به. لقد فُطِر الإنسان على مقاومة الظروف الصعبة والتحديات لاستمرارية العيش، وإلا لما قامت الحضارات وبُنيت الأمم من الأساس. وفي سياق محاولة فهم أيديولوجيا الإنسان المكوِّن للحضارات العربية المسلمة والمعاصرة تحديدا، يذكر الباحث التونسي محمد الحداد في مقال له بعنوان "القيم الدينية والتنمية وإنسانية الإنسان"، والمنشور بمجلة "التفاهم"، تصنيف المفكر المغربي عبدالله العروي للرموز الثلاث التي تعكس هذه الأيديولوجيات، والتي تُسهم في دعم عناصر التكوين الحضاري.

 

فالرمز الأول هو الإمام محمد عبده، الذي اختصر فيه المفكر شخصية الشيخ الذي يرتبط  بالتيار الديني، والرمز الثاني كان الأستاذ لطفي السيد مُمثلا لشخصية السياسي، والرمز الثالث والأخير هو سلامة موسى الذي يعكس جانبَ دعاة اتباع القوانين الغربية الجالبة للحداثة.. نُنَاقش رأي الباحث التونسي في كل ما ذكر؛ لمحاولة فهم نظرته تجاه الأيديولوجيا العربية المكونة  للحضارة.

أولا: كان الإمام محمد عبده ذا نزعة تجديدية ونهضوية في الدين؛ حيث كان يرفض الجمود الفكري الذي يزعُم أصحابه أنه ناتج عن الدين. ولطالما دعا محمد عبده لفهم العلوم المعاصرة وتسخيرها لازدهار الأمم، وإذا ما تمَّ قياس الوقائع التاريخية مُقارنة بما نحن عليه الآن في الحاضر، سنجد أن الدين كان حاضرا في كلتا المرحلتين: مرحلة شروق الحضارة الإسلامية، ومرحلة أفولها التي هي أقرب إلى زماننا الحالي. ما يجبُ أن يتم أخذه في الحسبان أن القرآن الذي نزل على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والرسل، راعى الظروف التي كانت تمر بها أمة محمد في تلك الفترة، مثله كمثل معجزات باقي الأنبياء؛ فسيدنا موسى مثلا أحد مُعجزاته أن يلقي بعصاه فتتحول إلى حية تسعى، المعجزات كانت دائمًا تتناسب مع عقول الأمم التي أُرسل لها الأنبياء؛ فقوم موسى اهتمُّوا بالسحر فكانت معجزته تخاطب اهتماماتهم وعقولهم، وكذلك معجزة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- القرآن، تُخاطب أهل الفصاحة والبلاغة والشعر في تلك الفترة؛ فمن كفر أنكر، ومن آمن فسره استنادًا للمعطيات التي كانت بيده في تلك الفترة. إنَّ حتمية التغيير للظروف الزمكانية يتحتم عليها مراعاة الأمر فيما يتعلق بالتفسيرات كذلك؛ فالتجديد مطلب هنا، ناهيك عن كَون التفسيرات اجتهادات بشرية آخر الأمر، قد تُصيب وقد تخطئ؛ حيث تُشير كل الدراسات إلى أنَّ الإنسان لا يستطيع الانفصال عن عاطفته، أصله وخلفيته التي تربى عليها، يتحتَّم على ذلك عدم مقدرته على تفسير النصوص بموضوعية مطلقة.

ومن هنا، يُصبح الاجتهاد والتجديد ضرورة؛ بالتالي تصبح هذه الأيديولوجيا تتجه نحو الاتجاه الصحيح في دعم عناصر تكوين الحضارة العربية المعاصرة. ثانيا: ذكر المفكر المغربي عبدالله العروي الرمز الثاني المتمثل في الأستاذ لطفي السيد، ذي الشخصية السياسية، وهو إحدى الشخصيات المساهمة في تكوين الأيديولوجيا العربية. يعدُّ الأستاذ لطفي من الشخصيات التي تأثرت بالفكر النهضوي التجديدي للإمام محمد عبده، وسُمي بـ"أبو الليبرالية المصرية"؛ حيث كان يُنادي بحرية الأفراد ونبذ الاستبداد، وكان يرفض ربط أي كيان بالآخر؛ أي أن لا تربط مصر وتذوب فردانيتها في الصورة الجماعية للعالم العربي، كما نادى بأهمية تعليم المرأة أيضا. كما يعدُّ السيد أنموذجا لفكر لا يزال يُنَادَى به حتى يومنا هذا. على الرغم من حدوث الكثير من التطورات، وأن الكثير من الدول والمجتمعات قطعتْ شوطا طويلا فيما كان ينادي به، إلا أنهم لم يصلوا للمرحلة المراد منهم وصولها. لكن من الجدير بالذكر في هذا السياق أن هذه الأيديولوجيا أصبحت حاضرة بشكل قوي في أذهان الأجيال الناشئة.

وأخيرًا، ذكر المفكر الشخصية الداعية لمواكبة الحداثة الغربية، وهو "المصلح" سلامة موسى، الذي قادته بعض الظروف في حياته للتوجه إلى أوروبا، وفيها قرأ العديد من المؤلفات وتعرف على شخصيات من أمثال فولتير وكارل ماركس، ثمَّ انتقل إلى إنجلترا وقابل بعض الشخصيات البارزة آنذاك منهم جورج برنارد شو، وتأثر بأفكار تشارلز داروين كذلك. فعاد الى بلاده متمسكا بالأفكار الغربية، بل داعيا لقطع كل الصلات بالعالم الشرقي آنذاك. وأيضا كان محملا ببعض الأفكار العنصرية تجاه الزنوج ومزاوجة نساء الغرب لتحسين النسل. كما أنه روج كثيرا للاشتراكية وتحرير المرأة، وخرج بالعديد من المؤلفات في مختلف المواضيع نتيجة اطلاعه الواسع؛ كونه كان يُجيد بعض اللغات الأجنبية؛ مما أتاح له القدرة على الوصول للكثير من المصادر الغربية. مما لا شك فيه أن الاستفادة من الحضارات المتقدمة والتسليم بذلك، رغبة في امتثال نفس النهج، لهو أمر إيجابي، لكن أن يصل الأمر إلى إنكار الذات، وتقديس الغرب لدرجة التطرف وعدم إبصار مكامن الضعف، لهو أمر غير مرغوب؛ كونه يعكس نوعا من التبعية والتبني لسياسات رد الفعل  دائما، واللهاث وراء التغييرات بدل استشرافها وتأسيسها. يعيدنا ذلك إلى تصريح أحد السياسيين المتطرفين، وقد ذكر أن الأمم المتخلفة ستبقى دائما تتبعنا وتنتظر الفعل منا لتحلله وتستنتج تبعاته، بينما نكون قد انتقلنا  لمرحلة أخرى ولفعل آخر؛ مما يبقي هذه الأمم في الصفوف الخلفية دائما. فلا هدف من استعمال المكتسبات العلمية دون حضور الروح العلمية الخاصة بنا، والنابعة من رغبتنا في تطوير أنفسنا، وخلق نجاحات تتعلق بنا نحن؛ لأن الاستفادة تكمُن في تخصيص المميزات المكتسبة من حضارات متقدمة لتتناسب مع واقع حضارتنا وقدرتنا على توظيفها لحل مشكلاتنا الخاصة. فلنتذكر دائما أن الغرب المتقدم اليوم كان مُتأخرا في السابق، وأن المسلمين كانوا في موقع الريادة. ولنا أن نستعيد هذه المكانة يوما ما إنْ طالت المدة أو قصرت، فقط ينبغي علينا مواصلة الاجتهاد ودمج الأيديولوجيات العربية  التي تخدم فكرة التقدم، إضافة لتسخيرها لإيقاظ الضمير العربي وإشعال الهمم.

أخبار ذات صلة