أم كلثوم الفارسية
ناقشَ الكاتب مُحمَّد المنتار في مقاله "علاقة الإيمان بالعمران في الرؤية القرآنية" -والمنشور بمجلة "التفاهم- فكرة أن المجتمع بلا إيمان هو غابة لا أخلاق فيها؛ لأنَّ الحياة فيها للأقوى، لا للأفضل والأعلم، وهو مجتمع هابط، غايات أهله لا تتجاوز شهواتهم، وبالتالي يكون مجتمعا معطلا لدور الإيمان في تربية العقْل المؤمِن، وتَحرير فكره من اتباع الهوى ومن الاستعباد للمادة أو لذوي السُّلْطان والجاه، وأثره كبير في ترْبِية الضَّمير الحيِّ أو القلْب السَّليم للفرْد؛ ممَّا يجعله حارسًا يقظًا، يحرس صاحبَه أن يغفل، ويحرسه ألاَّ يضعف أو يحيد عن الطَّريق المستقيم، وهذه اليقظة والشُّعور بالمسؤوليَّة أهمّ وقاية من ظواهر الغشِّ والاختِلاس والتَّهاوُن في أداء الواجب؛ فالإيمان بلا شك مفتاح صلاح العمران.
الإيمان قوَّة روحيَّة في القلب مستمدَّة من الارتِباط بالله القويِّ المتين؛ إنَّها تحْصين ومناعة داخليَّة ضدَّ الانحِراف، وليْستْ هروبًا من الواقع وما يكتنِفه من مغريات ومنزلقات، وبها تصحَّح العقيدة وتخلص من النفاق ومن رواسِب الإرْجاء وما أشبه.
كما تجدُر الإشارة إلى أنَّ الإيمان الموجِّه المعنوي لخطوات الأُمّة نحو البناء؛ لأنه هو الروح المؤثِّرة في تحريك وتوجيه الإنسان والمادّة، فإذا كان معتقداً صحيحا اًصلح العمران واستمر، وإن كان معتَقدا مزيفا ومنحرفاً يكون العمران وبالا على أهله كما هي حال الحضارات السابقة التي اندثرت بسبب فسادها وطغيان القائمين عليها، وهذا ما بينه قوله تعالى: "وَالْفَجْر وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (سورة الفجر). فالآيات الكريمة لخصت نهاية أكبر الحضارات مدنية وعمراناً في وقتها، لأنها لم تقم على أساس التقوى والإيمان بالله عز وجل؛ فكانت نهايتها الفناء.
العُمران المكتمل هو المستند إلى دينٍ جامعٍ أو دعوة خيرٍ سامية؛ فالعمارة تعني تعمير الأرض؛ بإنشاء حضارة ومدنية، مبنية على قيم الخير، والعدل والصلاح، ويعتبر الإيمان الأساس الذي ينبغي أن يبنى عليه الصرح كله. وبالعودة إلى القرآن الكريم، فإننا نرصد معرضا من المشاهد الكبرى لنجاح نهج الترابط بين الإيمان والعمران، وهذا الأمر تؤكِّدُهُ الآية الكريمة: "وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ" (الأنبياء:115). وفي الآية ملحظٌ شديد الأهمية، وهو ربْط الإصلاح بالصلاح. والصلاح قد يعني في هذا السياق الكفاءة والتأهُّل لعمليات الإعمار الكوني والإنساني، والفردي أيضاً. أما الملحظ الآخر فيعبّر عنه القرآن بالاستبدال: "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ" (محمد:38). وبذلك؛ فإنّ العمران المكتمل أيضاً قد يصبح أنواعاً: العمران المستند إلى الإيمان والمراجعة الدائمة وتلمُّس الحق والخير والصواب؛ والعمران الذي يزدهر ظاهراً ازدهاراً هائلاً؛ لكنه يظلُّ عُرضةً للانتكاس؛ لعدم استناده إلى الإيمان والصلاح والإصلاح. والعمران الذي يقع بين بين بسبب التردُّد بين النهجين أو بين نهج الاستخلاف الصالح، والآخَر المغتر بالنجاح السريع، وقدرات السيطرة والسطوة، على طريقة: "أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا" (الكهف:34).
وهذا الاهتمام من الإسلام بتأسيس العمران على أصول الإيمان التي من شأنها أن تستدعي العمل الصالح فيدفع بالوعي الهادف إلى تأسيس عُمرانٍ مزدهرٍ في الأرض يقوم على الإصلاح والصلاح، بمعنى استقرار الحضارة واستمرارها. هذا الاهتمام بلا شك يعكس عناية الرسالة الخاتمة بإقامة مجتمعات مدنية صالحة؛ إذ القيم الخلقية هي القاعدة الصلبة التي تقوم عليها الأمم وتستند إليها الحضارات. إن قوانين المجتمعات وسلطان الحكومات لا تكفي لإقامة مدينة فاضلة، تُحترم فيها الحقوق، وتؤدَّى فيها الواجبات على الوجه الأكمل؛ فإن الذي يؤدي واجبه رهبة من السوط أو خوفا من السجن، أو هربا من العقوبة المالية، لا يستمر في ذلك طويلا، متى أمن واطمأن. إنَّ الإيمان والعقيدة الدينية تكسب القانون سلطانا أدبيا به يأمر وينهى، كما تلهب المشاعر بالحياء من الله محبة له والخشية منه، ولا ريب في أن هذا الإيمان هو الأقوى تأثيرا في النفس الإنسانية والأشد مقاومة لأعاصير الهوى وتقلبات العواصف، والأسرع نفاذا في قلوب الخاصة والعامة.
فإذا كانت بنية الدين الكلية تتشكل من: الإيمان والعمل الصالح معا، وإذا كان الإيمان روحَ الدين المسؤول عن بقائه حيا نابضا، بمعنى أن يكون الإيمان هو الحافز والمنطلق إلى الأعمال الصالحة؛ فإن هذا الإيمان إذا ما فعل تفعيلا صحيحا، أو شغل تشغيلا حقيقيا يزهر، ومن ثم يعطي ثمرته التي تنفع صاحبَها، وتنفع الإنسانية كلها بلا تفرقة أو تمييز. فإنسان بلا إيمان هو إنسان حائر، متخبط في كل واد، ضائق الصدر، خائر العزيمة والإرادة، وعندما يتمكن الإيمان من نياط القلب فإن صاحبه يناطح الجبال بهمته، ويعيش سعيدا مطمئن القلب.
وختاما.. فإنَّ الإنسان -حين يفعَل إيمانه- يكتسب إيجابية عظيمة واهتماما كبيرا بالمشاركة الفاعلة في الشأن العام، كما يصحو ضميره أو نفسه اللوامة وإدارة المحاسبة الذاتية فيه، وتزدهر أخلاقه الحميدة، ويمتلئ بكل معاني السكينة والاستبشار والتفاؤل والطمأنينة القلبية، ويتحقق له التوازن النفسي والعقلي، كما يُشرق عقله ويصح فكره، وتنشط همته وعزيمته للإحسان والرحمة والخير والصلاح والإصلاح، ويُدرك أن حقائق إيمانه تفرض عليه التضلع من العلم والبحث، والانهماك في العمل النافع المنتج. وبهذا، يتخلص الإنسان من الفقر والعوز والتخلف والانحطاط، كما يُدرك أن من قيم الإيمان تعزيز الحرية والشورى والديمقراطية والعدالة والمساواة والتسامح، وكل ذلك يعالج ضَنْكَ الاستبداد والإرهاب والشقاق، وبذلك يحيا الإنسان إنسانا، ويستمتع بحياة طيبة هانئة.
