الإيمان علاقة إله بعبده

عبدالله العلوي

إنَّ قضية الإيمان وما يترتب عليه هي قضية جدلية وجودية في نفس الوقت، اختلفت في كنهها الأديان عامة، والمسلمون بشكل خاص، مما جعل مصدره وكيفيته قضية جدلية بينهم. وحقيقة ما يحدث اليوم في العالم الإسلامي من حروب وتشرذم سببه اختلاف مفهوم الإيمان عند كل فرقة من فرق المذاهب الإسلامية، فكل شخص ينظر إلى إيمانه بمنظوره هو، وهذا أمر طبيعي، لكن من غير الطبيعي أنك تجد الآخر إيمانه خاطئ ويجب محاسبته على خطئه بشدة، رغم أنه يدعو إلى غير ذلك، فالإيمان هو علاقة رب وعبد، وهي علاقة مباشرة لا يتدخل فيها أيُّ بشر آخر، فهناك إله وهناك عابد يطلب منه ما يشاء وبطريقة يجدها هي المناسبة، ونجد مقال الدكتور/ "كاظم موسى الطائي" الذي عنونه بـ"الإيمان ودوره في محاسبة النفس في رسائل النور" ضمن أحد المقالات التي تتحدث عن كنه الإيمان وطرائقه وتفسيراته وفوائده وغيرها.

كثرت التعاريف في كتب علماء العقيدة أو من يُسمون بالموحدين، وكلها تصب في ثلاث كلمات، اللسان والقلب والفعل، ولسنا هنا في صدد إيراد التعاريف عند كل مذهب ووجهة نظره، ولكن يُمكن أن نقول إن الإيمان هو قول باللسان واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، رغم أنَّ أبا حنيفة بن النعمان يرى أن العمل هو نتيجة للقول والقلب، ومنهم من يقول إن الإيمان هو اعتقاد بالقلب فقط، وغيرهم باللسان فقط، وكلها آراء علماء ولا نقول بخطئها أبدًا ولكن نقول بشمول الثلاثة، فالقول نابع من اقتناع القلب، والعمل نابع من اقتناع القلب وقول باللسان، فكلها مرتبط ببعضها البعض.

للمُسلمين إيمان حقيقي بأنَّه لا بد لمن دخل في الإسلام أن يكون لديه طواعية وانصياع تام ومكتمل وصادق لأوامر الله، وترك نواهيه كاملة دون نقاش ودون أي تردد، فهم يقولون سمعنا وأطعنا، دون أن يكون هناك تردد في تنفيذها، وعدمها يُخرجك من مظلة الإيمان نهائيًا، لذا فإنَّ قواعد الإيمان هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء خيره وشره، فما جاء من وحي ورسل وكتب يجب أن نؤمن به إيمانًا قاطعًا ونستمع لكل ما يأتينا منه طواعية مطلقة، لذا فهم يرون من يطبق كل هذا الأوامر وينتهي عن النواهي فقد وصل إلى مرتبة عليا، ولا يصل إليها أي بشر حتى ولو كان نطق بالشهادتين.

إنَّ الإيمان والإسلام مفهومان يسيران في نفس الاتجاه ويختلفان في التطبيق، ويكمن الفرق بينهما في قواعد كل منهما، فالإسلام هو استسلام وقواعده هي قواعد عملية وقولية، أما الإيمان فقواعده قواعد عملية قلبية ومضمونها في العمل، ويبدو أنَّ الإسلام أشمل وأعم من الإيمان؛ يقول الدكتور كاظم: "فالحاصل أن الإسلام عند الإطلاق يشمل الدين كله، ويدخل فيه الإيمان، وأنه إذا قرن مع الإيمان فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة من أقوال اللسان وعمل الجوارح وفسَّر الإيمان بالأعمال الباطنة من اعتقادات القلب وأعماله".

يرى المسلمون أنَّ مرتبة الإيمان هي مرتبة عالية، لا يصلها إلا من توفق إليها، لأنَّ العلاقة هي إلاهية مُباشرة، كما أنَّ الوصول إلى هذه المرتبة يؤدي إلى نتائج لها تأثيرها الإيجابي على الإنسان نفسه وعلى المُجتمع من حوله، وعلى استقرار البشرية عامة، فالأمر يبدأ شخصيًا بينما تأثيره كبير جدًا، مع إيمانهم بأنّ من يصل إلى هذه المرتبة يستحق أن يستقبل جائزة إلهية ألا وهي الجنة، وقد أورد صاحب المقال تعريفا للنورسي للإيمان فيقول: "هو الانتساب إلى الصانع سبحانه، فتعين بذلك قيمة الإنسان على مدى بروز تلك الصنعة الربانية فيتحول هذا الإنسان إلى مرتبة أسمى المخلوقات قاطبة، حيث يصبح أهلًا للخطاب الإلهي وينال شرفًا يؤهله للضيافة الربانية في الجنة".

إذن يُعد الإيمان بمثابة المحرك الديناميكي للبشرية، فهو يمنح القوة والعزيمة الإيجابية لهم، كما أنه يرفع قيمتهم وينير دروبهم، ويجعلهم في مرتبة سامية وعالية، ويميزهم عن باقي المخلوقات، فهو فرق جوهري بين الإنسان والحيوان، يقول الدكتور كاظم "فهو قوة تزيد في صقل شخصية الإنسان ويزيد لديه حدة الشعور بالمسؤولية ومحاسبة النفس"، كما أنه يبقيه قريبًا من ربه بالدعاء، فهو وسيلة ودلالة ثبات الإيمان، وهو كلٌ ومتصل بعضه ببعضه، ولا يُمكن تجزئته، والإيمان والأخلاق أمران لا يُمكن فصلهما فالعلاقة بينهما "علاقة متلازمة قوية، وكلما كانت أخلاق المؤمن عالية قوي إيمانه، وعكسه صحيح"، فتلك القيمة التي جعلها المسلم في أهمية الإيمان مآلها إلى محاسبة النفس وتجنبها المساوئ والأخطاء، فالسارق عندما يكون في قلبه إيمان بالله يعرف أن إلهه لا يعجبه هذا الفعل فهو لا يفعله، فيجنب نفسه ومجتمعه وأمته والبشرية هذه الجريمة، كما أنَّه يزكي النفس ويجعل صاحبها مخلصًا في عمله، ولا يستهين بأعماله الدنيوية والأخروية ويتجنب نواهيه.

ضاع مفهوم الإيمان في العصور المُختلفة فما عاد ذاك الجوهر الذي نستقي منه استقرار المجتمع، وما عاد له تلك الوظيفة التي من أجلها أوجبه الله على البشرية، ومن أجله كان رسولنا الكريم متحملًا لعذابات قريش، ومن أجله بلال بن رباح تحمل حجرًا حارًا في صحراء قاحلة، فذلك قلبه تعلَّق بربه، ولم يتعلق ببشر، يقول صاحبا كتاب الإيمان بين الغيب والخرافة: "فالإيمان كلمة نرددها كثيرًا، إلا أنها بفعل عوامل الزمن تحولت إلى همهمات وطقوس جعلت من الإيمان قولاً بلا عمل ولا معنى...... وإن الإيمان الذي جاء به القرآن الكريم ومارسه النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته كان حركة في الحياة، وتفاعلًا مع سننها، وبه يتحقق الفلاح في الدنيا والآخرة"، وفي جانب آخر من الكتاب نفسه يقولان: "إنَّ ذلك الإيمان السمح الذي فهمه وتفاعل معه العالِم والإنسان العادي على السواء، قد تاه في الزحام، فغزته الفلسفات العقيمة، واخترقته الإسرائيليات الخرافية، وضيعته الروايات الكاذبة، ففقد صفاءه ونقاءه، وتحول إلى ماديات جوفاء لا روح فيها، ولا حياة"،  لقد أصبح المسلمون منشغلين ببعضهم فهذا قائل هذا مؤمن وهذا كافر وإيمانه خاطئ وفي غبش، وما عرفوا أنَّ علاقة الإيمان هي علاقة إلهية لا دخل للبشر فيها أبدًا، وكل له طريقته في العبادة، فقد تجد من هو منعدم الحال لكنه قريب إلى ربه أكثر ممن هو في مصلاه ليلًا ونهارًا، وفي الحديث النبوي الذي رواه الترمذي يقول: "رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره".

إنَّ أهل الإيمان ليسوا خوارق بشرية، أو هم آلات وضعهم الرب نائبين عنه، بل هم بشر كباقي البشر، ولا يوجد لديهم خوارق وقدرات تتخطى العقل والمنطق، وإنما هم بشر تقربوا إلى ربهم، فأحبوه وأحبهم، وليس كما شاع بين النَّاس من قصص أسطورية وخرافية، يقول صاحبا كتاب الإيمان بين الغيب والخرافة: "إن الكثيرين اليوم – بسبب نظرتهم المادية- لا يتصورون الإيمان إلا بوجود جن يتلبسون بالإنسان، ويمكن رؤيتهم، وسحرة لهم قدرات لا حدود لها يفرقون بين الناس، ورقى يعالجون بها مختلف الأمراض من السرطان إلى الزكام، وكرامات خارقة هي معيار الولاية والقرب من الله تعالى".

ختامًا يقول سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي في كتابه "إعادة صياغة الأمة": "إن الأمم إنما تقوم – أول ما تقوم- على التصور الصحيح، لذلك كان هدم التصورات الباطلة أول شيء يضطلع به المرسلون، فما من رسل الله سبحانه إلا وقد واجه تصورات باطلة عششت في الأذهان، واستحكمت في النفوس، وسيطرت على الألباب، وقادت الأمم إلى حافة الانتحار، فكان أول شيء يدعون إليه بين أممهم هو أن تعرف هذه الأمم من أين جاءت، وإلى أين تنتهي، وماذا عليها أن تعمل فيما بين المبدأ والمنتهى، لتقوم حياتها على التصور الصحيح".

 

أخبار ذات صلة