ناصر الحارثي
تسعى منى أحمد أبو زيد في دراستها بعنوان "نظرية السعادة ووسائل تحقيقها في الفلسفتين اليونانية والإسلامية"، إلى سبر أغوار مفهوم السعادة من زاوية فلسفية قديمة، لتكشف أن مفهوم السعادة والقضايا المرتبطة بها ليس حديث هذا العصر بمختلف منابره الإعلامية أو الدينية أو المعرفية أو حتى التسويقية، لتكشف في دراستها عن أهم التصورات حول مفهوم السعادة في الفلسفتين اليونانية والإسلامية.
يكاد لا يمر عليك يوم وأنت تتصفح صحيفة أو تقرأ أحد المواقع الإلكترونية أو تفتح أحد وسائل التواصل الاجتماعي إلا وتجد موضوعا أساسيا أو جانبيا حول موضوع السعادة، حتى أصبح هذا الموضوع يدخل في معظم قضايا حياتنا سواء الطبية أو النفسية أو العلمية أو التجارية أو الدينية وحتى العملية، وهو ما جعل الدول والمجتمعات تتابع التقارير والإحصائيات حول مستواها التصنيفي في السعادة؛ بل وتعدى الأمر إلى إنشاء بعض الدول وزارة مستقلة حول السعادة، وفي خضم هذا الحديث اليومي حول مفهوم السعادة تأتي أهمية هذا المقال وسعيه لدراسة مفهوم السعادة من زاوية مختلفة نوعا ما، حيث سعت الكاتبة إلى قراءة مفهوم السعادة في الفلسفتين اليونانية والإسلامية؛ إذ ارتبط مفهوم السعادة في الفلسفتين على فعل الخير والفضيلة وضدها الشقاوة، وهو ما يمكن فهمه من الآية القرآنية من سورة هود "وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ" وقد سبقتها آية حول أهل الشقاء في نفس السورة "فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ"، وعند تأمل مفهوم السعادة عند المفكرين المسلمين نجد تأثرهم الكبير بالسياق الديني بطبيعة الحال وبالفلسفة اليونانية حول مفهوم السعادة.
السعادة في الفلسفة اليونانية
يرى السوفسطائيون أنّ السعادة هي الاستمتاع بالأهواء والملذات، أمّا سقراط فإنه يذهب بعيدا عن المعنى الظاهري للسعادة ويرى أنّه معنى داخلي ويرمز إلى الفضيلة، ولقد شاطر أفلاطون نسبيا رأي سقراط حيث رأى بأنّ السعادة هي الخير الأسمى ولقد رد على السفسطائيين بأنّ الأهواء لا توصل أحيانا إلى الخير في الإنسان، وأضاف أرسطو أيضًا لهذا المفهوم موضحا أنّ الأهواء والرغبات الظاهرية غير مرتبطة بمفهوم السعادة الحقيقية؛ فالصحة والمرض والغنى والفقر هي أشياء حسيّة بينما السعادة مفهوم داخلي مرتبط بالخير الأقصى، ويبدو أنّ اعتراض الفلاسفة اليونانيين على أنّ اللذة لا تعني السعادة لأنّ اللذة نسبية وهي أداة من أدوات الوصول إلى السعادة وليست الغاية الأسمى والمعنى المطلق للسعادة، أمّا أبيقور وهو صاحب المدرسة الأبيقورية المعروفة والتي تسعى للوصول إلى الحياة السعيدة من خلال الطمأنينة وعدم الخوف، فيعتقد أنّ السعادة هي غياب الألم، وأمّا اللذة التي يسعى إليها الإنسان في مفهوم أبيقور فهي أقصى درجة ممكنة من اللذة وأطولها وليس اللذة اللحظية قصيرة المدى. أمّا المدرسة الرواقية فذهبت إلى بعد آخر وهو التوافق مع الطبيعة والتعايش معها في وئام ليصل الإنسان إلى السعادة. من خلال مفهوم السعادة يمكن استنتاج طرق تحقيق السعادة والتي تمثلت في ثلاثة اتجاهات وهي اللذة، والفضيلة، أو الخير الأسمى، وكذلك الانسجام مع الطبيعة. ولكن الإشكال حاصل في ماهية الفضيلة، وهل هي مرتبطة بفعل الخير، أم الحكمة، أم أنّه مرتبط بمعنى آخر وهو القناعة والتصالح مع الذات، ولقد استمر هذا الإشكال حول طرق الوصول إلى السعادة عند المسلمين وتأثروا بالفلسفة اليونانية تأثرا كبيرا.
السعادة في الفلسفة الإسلامية
تأثر الفكر الإسلامي بالنص الديني وبالحضارات المجاورة في مفهومه حول السعادة، لذلك أنتج الفكر الإسلامي دلالات ومعاني أكثر للسعادة، فقد رأى البعض أنّ السعادة هي استكمال لما ينقص عن حاجة الإنسان كالمال للفقير والصحة للمريض فالسعادة مطلب وليست وسيلة، ولقد رأى الفارابي أنّ السعادة هي الخير والغاية العليا كما هو عند أفلاطون وسقراط، في حين رأى أبو الحسن العامري أنّ السعادة في تمام الراحة والطمأنينة بينما الخير والفضيلة فهي وسائل للسعادة وليست غاية لذاتها وهو ما نجده في المدرسة الرواقية، وهناك من ربط بين السعادة واللذة تأثرا بالمدرسة الأبيقورية، ولقد رد ابن سينا على من يرى أنّ اللذات الحسية هي الأكثر تأثيرا على الإنسان حيث اعتبرها مجرد لذات لحظية لا علاقة لها بالسعادة، ولقد رأى الكندي أنّ السعادة في طهارة النفس. أما مسكويه فقد قسم السعادة إلى نوعين سعادة أدنى وهي السعادة الخلقية وهي ليست غاية بل وسيلة، وسعادة قصوى وهي الخير المطلق والغاية الأسمى، ويقول مسكويه عن السعادة أيضًا: "وهي التي لا يكون فيها تشوّق إلى آت، ولا تلفت إلى ماض، ولا تشيع لحال ولا تطلع لناء، ولا فزع من أمر ولا طلب لحظ من حظوظ الإنسانية، ولا من الحظوظ النفسانية أيضًا، ولا ما تدعو الضرورة إليه من حاجة البدن والقوى الطبيعة ولا القوى النفسانية"، ولقد أشار بعض فلاسفة المسلمين كإخوان الصفا إلى وجود مطلبين في السعادة، وهما السعادة الدنيوية والسعادة الأخروية، وقد يحصل الإنسان على أحد المطلبين أوكلاهما أو يحرم منهما معا، في حين أنّ العامري سرد خطوات الحصول على السعادة وهي مجانبة الجسد وعدم الانشغال بلذاته، والتزام العفة، وترقية العقل، ومعرفة الخير الحقيقي، والصبر، ومجاهدة النفس، والاستمرار في العلم.
ومن هنا نجد أنّ هناك توافقًا إلى حد كبير في أنّ السعادة هي الغاية المطلقة والخير الأسمى والفضيلة العليا التي يسعى إليها الإنسان، ولكن الاختلاف الأكبر في طرق ووسائل السعي للوصول إلى السعادة، فالوسائل والأدوات نسبية، فلا يمكن أن يكون المريض غير سعيد فقط لأنّه مصاب بعلة جسدية، ولا الفقير شقيا لأنه لا يملك حفنة من المال، ولا يمكن أن يكون المؤمن سعيدا فقط لمجرد إيمانه، والملحد شقيا لمجر إلحاده، وكذلك العالم والجاهل، ولكن في الآن ذاته لا يمكن أن نقول بأن غياب الصحة والمال والعلم لا تأثير لها في طريق سعى الإنسان إلى السعادة، وإنما تبقى هي مؤثرات متغيرة ونسبية تبعا لتغير الظروف والزمان؛ فحتى طرق السعادة للإنسان الواحد تختلف مع الأيام فكيف بالبشر بمختلف أطيافهم واهتماماتهم.
لقد طرق كل فيلسوف من الفلاسفة في مختلف الحضارات بابا من أبواب السعادة، وللسعادة أبواب شتى، لذا أستغرب من سعي الكاتبة بعد جهدها في استقراء وتحليل السعادة إلى اعتماد مفهوم واحد للسعادة وهو المفهوم الوعظي التقليدي والذي يصف السعادة بأنّها" "إعمار الأرض وحسن عبادة الله" دون إشارة واضحة حول سبب اعتمادها على هذا المفهوم ولماذا نسبته إلى التصوّر الإسلامي وهو نوع من التعميم دون استدلال أو تبرير؛ خاصة وأنّها أوردت الكثير من المعاني للسعادة في الفلسفة الإسلامية.
