أسعد الحراصي
(لا يخفى على أنّ المهتمين بالفكر الفلسفي - من حيث مساره – لاحظوا أنّ موضوع "الحرب العادلة" صار من المواضيع الأثيرة لدى بعض المفكرين السياسيين المعاصرين). ساهمت الحربان العالمية الأولى والثانية وأحداث الحادي عشر من سبتمبر في زيادة الاهتمام بموضوع الحرب العادلة. وقد خرج لنا محمد الشيخ بمقالة تناول فيها الحديث عن الحرب العادلة في التصور التقليدي الفلسفي العربي محاولا إيضاح ما عانى منه الإسهام الفلسفي كلاسكي العربي من إغفال ولبس.
يفتتح الكاتب محمد الشيخ أستاذ الفلسفة السياسية وفلسفة الدين مقالته بالحديث عن التهميش الذي عانى منه الإسهام الفلسفي الكلاسيكي العربي في موضوع (الحرب العادلة)، فهو يرى أنّ التهميش كان مزدوجًا من جهتين: الجهة الأولى إغفال الكتابات الفلسفية الغربية المهتمة بهذا الموضوع هذا الإسهام دونما الوقوف أو حتى الالتفات إليه. والجهة الثانية أنّه في حالة التطرق إلى الحرب العادلة في الإسلام يكون ذلك من قبيل التركيز على الإسهامات المتعلقة بلاهوت الحرب وآدابها وعدم التطرق إلى ما سواها من أنظار الحرب، التي تكون بمعزل عن لاهوت الحرب. ثمّ ينتقل بنا ليبين الغرض الذي أنشأ مقالتة النقدية والتحليلية من أجله ألا وهو إظهار الإسهام الفلسفي العربي في موضوع (الحرب العادلة) بمعزل عن إرث (الجهاد) والحرابة من جهتين: أولا المدى الذي صار النظر في الحرب العادلة موضوعا مخصوصا في الفلسفة الإسلامية (الفارابي وابن رشد) على وجه الخصوص. ثانيا استشكال هذا الإسهام عن طريق الكشف عن حدوده المثالية الشديدة وإطلاقيته التي غيّبت واقعية الفعل السياسي.
وبما أنّ الحرب ظاهرة لازمت الأجناس البشرية في مختلف العصور نجد أنها حاضرة في خطابات الفلاسفة التي تتباين من زمن إلى آخر، فيستعرض محمد الشيخ كاتب المقالة خطابين أحدهما للفيلسوف الفرنسي إميل الملقب (آلان) وخطاب الفيلسوف الأمريكي فالتزر ليظهر التباين بين الخطابين؛ ففي خطاب (آلان) نجده يرى أن الإنسان يتحول في الحرب إلى (قرد مسلح) بسبب نزعته الراديكالية وعدائيته المتأصلة للسلطة (المواطن ضد السلطة) بينما يذهب فالتيزر إلى ضرورة توجيه الأسئلة التالية عند تناول أية حرب: من يقود الحرب؟ وأية حرب؟ وما الوسائل التي يتبناها؟ وهل هذه الوسائل تتماشى مع الغايات؟ أم أنّها مشروعة بقطع النظر عن الغايات. ولعل التباين يظهر بجلاء في العبارتين.
يشرع بعدها الكاتب في القول بأنّ النظر في أمر الحرب العادلة ساهم في إذكاء ما ينسب إلى بعض الجماعات الإسلامية المتشددة المعاصرة من أفعال إرهابية من ضمنها أحداث الحادي عشر من سبتمبر. الأمر الذي بدوره استحث بعض الكتاب لإعمال النظر وإعادته في تصور الإسلام والمسلمين للحرب وعدم اقتصاره على التصور التقليدي القديم للحرب (الجهاد) أو ما يطلق عليه باسم (الحرب المقدسة). ولكن هذا الاستحثاث لا يخلو بحسب الكاتب من مفارقات منها:
أنّ هذا النظر مركز على تصور الإسلاميين المتشددين للحرب دون سواهم، ولذلك فهو نظر في مسألة شرعية الحرب من جهة النظرة الدينية المحضة التي يمكن أن نطلق عليها (أخلاقيات الحرب). ومن الأمثلة على من نحا نحو هذا النظر هو كلسي في كتابه (مسألة الحرب العادلة في الاسلام) الذي ركز بدوره على التقليد العربي القديم (الجهاد) دونما النظر في أمر الحرب. كذلك الحال عندما يتم استحضار موقف فيلسوف عربي كلاسيكي عن الحرب (ابن رشد) يتم استحضاره على أنه فقيه وليس بوسمه فيلسوفا.
على ضوء ذلك، فإنّ النظر الفلسفي العربي الكلاسيكي في الحرب مغيب مع أنّ هذا النظر يندرج تحت (الفلسفة السياسية الكلاسيكية) التي كانت محط اهتمام الباحثين الذين انقسموا إزاءها إلى ثلاث فئات: منهم من يصورها على أنّها مجرد نسخة باهتة من الفلسفة السياسية الإغريقية، وعلى النقيض من هذا الموقف من يمتدحها ويقوم بإطرائها بشدة، وأمّا الفئة الثالثة فهي تلك التي تقوم بنقد تلك الفلسفة وهي التي استرعت اهتمام الكاتب كونها وسطا بين الفئتين، وهي أيضًا لم تخلُ من اختلاف وجهات النظر حول الفلسفة العربية الكلاسيكية؛ فتارة نجد من يعيب على الفلاسفة المسلمين كونهم كانوا دائما على هامش التاريخ (لقد انتهى الفيلسوف في المجتمع الإسلامي إلى أن يبني مدينته في داخل ذاته ولم يكن يعنيه أن يقدم مشروعا لبناء المجتمع) وتارة نجد منهم من أهتم بفلسفة ابن رشد السياسية لدرجة (وصفه بمفكر الحرب أو مفكرا حربيا) للتدليل على نزعته التي سماها (النزعة العسكرية الرشدية).
وبعد كل ما ذكر آنفا، يطرح علينا الكاتب سؤالا: هل شكل النظر في أمر الحرب العادلة موضوعا مستقلا فيما كتب ابن رشد عن السياسة عند حديثه عن الحرب؟ ولكي نجيب على هذا السؤال وجب علينا البحث عن مظانه أي في ما كتبه ابن رشد وما علق عليه في المسائل التي تخص أمور التدريب في الحرب في جمهورية أفلاطون، حيث نجده يقول في تعليقه (وإذا تبين من هذا القول المقصود من الحرب العادلة) فهذه العبارة مثلما يصرح الكاتب فإنّها تشي بأن ابن رشد بالفعل نظر في أمر الحرب العادلة باعتبارها موضوعا للنظر قائما بذاته، ودليل ذلك أيضًا ما هو موجود في تلخيصه للفقرة الأولى من (كتاب الجمهورية)، أثناء حديثه عن طرق التربية على الفضائل ومنها الشجاعة التي يبين ابن رشد أنّ لها طريقين هما الإقناع والإكراه، فيقول في الطرق الثاني الإكراه : (أما الطريق الثاني فهو السبيل الذي نسلكه مع المتمردين والأعداء ومن لا يتحلى بما يجب له من الفضائل) وبيّن أنّ هذا الطريق لا يستعمل مع أهل المدينة الفاضلة. ويقول أيضًا عبارة تلخص وتوضح تصوره للحرب العادلة وهي (وأما سائر الأمم غير الخيرة والتي لاتجري أفعالها على المجرى الإنساني، فلا سبيل لتأديبها إلا هذه، أعني إكراهها بواسطة الحرب على الأخذ بالفضائل) ومع كل هذا تظل هنالك إشكالات وصعوبات في فهم موقف ابن رشد وتصوره للحرب العادلة.
وخاتمة القول أنه يستوجب أن يعاد النظر في التصور الكلاسيكي العربي للحرب العادلة لما له من دور مهم في فهم التصورالإسلامي للحرب بعيدا عن التصور الحالي المقتصر على الجماعات المتشددة المحسوبة على الإسلام والمسلمين، وألا تكون الحرب العادلة محصورة في (الجهاد) دون أنظار الحرب.
