أسماء عبدالله القطيبي
يَسْتشهد ألكسندر ماكفي في مقاله المعنون "الهجوم على الاستشراق" -والمنشور في مجلة "التفاهم"- بمقوله شهيرة للعالم إعجاز أحمد؛ يذكُر فيها أنَّ الهجوم على الهيمنة الثقافية الاستعمارية قديمٌ قِدم الاستشراق نفسه. ويعدُّ ماكفي واحدا من الكُتَّاب المعنيين بالتاريخ المعاصر للشرق الأوسط. وفي هذا المقال -الذي ترجمه بشار بكور- يتناول ماكفي بتفصيل ومناقشة أربعة أعمالًا يعتقد أنَّها كانت الأبرز والأكثر صراحة في هجومها على الاستشراق، وهي مقالة لأنور عبدالملك عنوانها "الاستشراق في أزمة"، ومقالتان لعبداللطيف الطيباوي هما "المستشرقون الناطقون بالإنجليزية"، و"نقد ثان للمستشرقين الناطقين بالإنجليزية"، وكتاب إدوارد سعيد "الاستشراق:التصورات الغربية عن الشرق"، وكتاب بريان تيرنر "ماركس ونهاية الاستشراق".
وفي مقاله "الاستشراق في أزمة"، يُقرُّ أنور عبدالملك بإسهام الاستشراق في جمع وتوثيق المخطوطات العربية وفي دوره في تأسيس منهج للبحث، أسفر عن مؤتمرات وأعمال مهمة أضافت للمكتبة الشرقية والمكتبة الغربية على حدٍّ سواء. لكنه بالمقابل ينوه إلى أن الاستشراق تعرض بشكل كبير للتحيز؛ حيث مال المستشرقون إلى جعل "العربي" في الشرق -على سبيل المثال- مادة للدراسة، يُقابلها الأوروبي بوصفه المثال السوي المتصف بالعلو. ويعتقد عبدالملك بأن المستشرقين تجاهلوا -عن عَمْد- البحث بشكل أعمق في اللغة والدين، اللذين يعدان عُنصرين مهمَّين في أي ثقافة، على نفس مستوى تجاهلهم لأعمال العلماء الذي ينتمون للشرق تقليلا من شأن نتاجهم العقلي. وأثنى عبدالملك على توصيات المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الذي دعا إلى تبني نهج جديد للاستشراق "يقضي على المركزية الأوروبية، ويعترف بحق شعوب آسيا وإفريقية في ألا يكونوا موضوعات في التاريخ، بل أنْ يكونوا هم صانعيه". ورغم اتفاقي التام مع ما ذكره أنور عبدالملك، إلا أن ثقته الكبيرة في كون المستشرق فعل ما فعل من تجاهل لبعض المكونات المهمة للثقافة العربية والآسيوية، وتجاهله لبعض الدراسات التي كتبها كتاب الشرق ثقة لا يمكن المجازفة بها؛ لأنها تستند إلى رأي ظني حدَّده حكم سابق عن المستعمر وهدفه من دراسات الاستشراق، والتي يعتقد عبدالملك أنَّها جمع للمعلومات الاستخباراتية التي تُعِين الكيان الأوروبي في خططه للسيطرة على الشرق.
أمَّا عبداللطيف الطيباوي، فقد أبدى في مقاله الأول "المستشرقون الناطقون بالإنجليزية" الكثير من الغضب تجاه كيفية تناول المستشرقين للدين الإسلامي؛ حيث إنهم لا يريدون الاعتراف بالدين الإسلامي كدين سماوي تنزل عن طريق الوحي، ولا بالرسول مبعوثا من الله للعالمين. وهذا ما جعلهم يبحثون -أكاديميا- عن الجذور المسيحية واليهودية للإسلام، عِوَضًا عن دراسة الدين نفسه. كما أن عدم تقبل المستشرقين لكون النص القرآني غير قابل للتعديل والتبديل ولد إشكالية أخرى حسب رأي الطيباوي. وعِوَضًا عن ذلك، امتدت الإشكاليات لتشمل تحيز الأوروبيين ضد القومية العربية لرفضها النموذج التحرري الذي قدمه الغرب للشرق، ودعمهم لإسرائيل، وأمور أخرى سياسية واقتصادية لا يتَّسع المجال لذكرها. وفي مقاله الآخر "نقد ثان للمستشرقين الناطقين بالإنجليزية"، يواصل طيباوي تأكيده على فكرة رفض المستشرقين التعرف على الدين كما ينظر إليه أتباعه، ويعيب على المستشرقين في الوقت الحالي تكاسلهم عن تحقيق المخطوطات العربية، والاكتفاء في دراساتهم بتحقيق مقالات تحوي الكثير من الأخطاء. ومن هذه الدراسات -على سبيل المثال- "موسوعة الإسلام"، و"تراث الإسلام"، المعروفان لدى الباحثين في هذا المجال. ورغم أن رأي عبداللطيف الطيباوي قد يبدو للقارئ رأيا متشددا يُصوِّر الدين وكأنه العنصر الأساسي في الثقافة العربية، مُتَجاهلا تداخله مع العناصر الأخرى، ومتجاهلا التنوع الديني في المنطقة، إلا أننا يمكن أن ننظر لدعوة الطيباوي هذه كونها دعوة للنظر في العمق، وعدم تجاهل الأثر الكبير للدين في الثقافة العربية بكامل مكوناتها. وهذا يتلاقى في نقطة ما مع رأي أنور عبدالملك في عدم التعالي على الثقافة العربية ومعتقدات الفرد العربي بطبيعة الحال.
ويرى إدوارد سعيد -الفلسطيني البروتستانتي- أنَّ الاستشراق لم يكن يوما موضوعا جديدا في الحضارة الأوروبية؛ فقد مثلت الأساطير والملحمات الغربية مادة خصبة لمعرفة نظرة الغرب للشرق. ومن الواضح أن شخصيات مثل: كليوباترا، وعشتروت، وإيزيس، هي شخصيات عاشت في النصف الشرقي من العالم، وارتبطت في أذهان الناس بالفراغ والضياع والدمار. ويتتبع إدوارد في كتابة "الاستشراق" عددا كبيرا من الكتب والدراسات التي عَنِيت بالاستشراق، قبل وأثناء وبعد الحربين العالميتين، ويخلص بحثه فيها إلى أن دراسات الاستشراق اتصفت جميعها بالعنصرية، بل إنها لا تسعى إلا لمزيد من السيطرة، وتعزيز مفهوم الفوقية الأوروبية. وحتى أولئك المستشرقين الذين حاولوا أن ينصفوا الشرق فإنهم لم يضعوا في الحسبات التغيرات التي تطرأ على الثقافة الشرقية، بل بنوا دراساتهم على نصوص كلاسيكية ودراسات إسلامية عتيقة. وهذا ما يُمكن مُلاحظته بوضوح في تقديم الإعلام الغربي للرجل الشرقي، والذي غالبا ما يكون أحمقَ غير مواكب لعصره، وغير قادر على إدارة شؤونه.
ويبدو بريان تيرنر في كتابه "ماركس ونهاية الاستشراق" أكثر حدة في نقد الاستشراق؛ حيث وصف الاستشراق بأنه نظام مترف مفرط في التوسع، وأنَّ الهدف منه تعزيز فكرة مثالية الغرب، والتأكيد على نجاح النموذج الديمقراطي الغربي، أكثر من محاولته فهم الشرق والوصول للأسباب الحقيقية لتأخره. ويبدو رأي بريان تيرنر مُهِمًّا كونه أتى من عالم إنجليزي متخصص في المجال، ولأن رأيه يتوافق بشكل كبير مع آراء الباحثين العرب الذين يمكن أن يتهموا بالتعصب لثقافتهم.
من اللافت للنظر أن جميع الأعمال التي تناولها ألكسندر ماكفي في مقاله "الهجوم على الاستشراق"، تؤكد كون الاستشراق إحدى أدوات المستعمر التي يريد بها إحكام قبضته على الشرق. ومن هذا المنطلق، يبني الكُتاب المذكورون انتقاداتهم. وهذا ما قد يوقعهم في تحيز هو نفسه الذي حذروا منه في معرض حديثهم عن الدراسات الغربية للشرق. ولعلَّ هذا ما يدعو إلى نظرة أكثر إنصافا، خالية من أي حكم مسبق على البحوث الاستشراقية، وتكميل النواقص فيها من أجل الوصول إلى نظرة مجهرية، وأعمال أكثر تأصيلا وأقرب للحقيقة.
