التحديات المعاصرة للائتلاف الديني

أسماء القطيبي

 سعت العولمة خلال العقود القليلة الماضية إلى دفع المُجتمعات لاتخاذ نمط عيشٍ مُتسارع، فغدا الفرد أكثر عملية وواقعية في تدبير أمور حياته، وكرس للعمل وقتاً أكثر من أيِّ شيء آخر. وهذا ما جعل المجتمعات تتخلى شيئاً فشيئاً عن مُمارسات دينية فردية وجماعية كانت تضفي شيئا من الروحانية على الجو السائد. ولكن هذا التَّخلي عاد بالسلب عليها فيما بعد. فبرغم توفر الماديات وبذخ العيش شعر النَّاس بخواء روحي وفراغ نفسي جعلهم يُعيدون التفكير في طريقة معيشتهم وكيفية قضاء أوقاتهم. وخلال السنوات الماضية بدأت الأصوات ترتفع أكثر للمُناداة بالعودة للمقدس.

أصوات لم تأتِ من دور العبادة وإنما من النَّاس بمختلف دياناتهم حول العالم؛ فبدأ الحديث عن ذلك كنوع من الثقافة وكمشروع إنساني، وهو ما دفع رجال الدين والمُهتمين للمطالبة بضرورة الحوار بين الأديان، والمناداة بالتنوع الديني باعتباره ثروة وليس عقبة في سبيل تحقيق مصالح العالم المشتركة. وفي بحثها (المسيحية المعاصرة ومسارات الائتلاف الديني) المنشور في مجلة التفاهم، تناولت الباحثة في اللاهوت ماريا أديلي رودجيرو مسارات الحوار والمواقف التي اتخذها الدين المسيحي مع الأديان الأخرى والتحديات التي واجهته وتواجهه ومساعي الكنيسة لمواكبة المتغيرات التي تتقاطع مع بعض ثوابتها.

تعتقد الباحثة الإيطالية ماريا رودجيرو أنَّ أي حوار بين الأديان يجب أن يتضمن عدة شروط حتى يؤتي ثماره ويحقق غاياته أهمها اعتراف المحاور بدين الآخر وباختلافه، بمعنى ألا يخضع  الدين الآخر لنقده، بل أن يقبل به ويعترف به كما هو مهما بدا له غير مُقنع. أما الشرط الثاني فهو معرفة المحاور لديانته والاعتزاز بها، فالغاية من حوار الأديان كما يقول جاك ديبوي:" ليس تسطيح الهويات الدينية أو نفيها وإنما الانفتاح الحواري بقصد الاغتناء المشترك عبر التحاور". أما الشرط الأخير فهو ضرورة اعتراف المحاور بالتساوي بين المشاركين في الحوار. وهذا الأخير حسب وجهة نظري هو الشرط الأصعب لأيِّ مُؤمن في أي ديانة وذلك لأنه تشرب منذ صغره النصوص الدينية التي توحي له بأنَّ دينه هو الذي يملك الحقيقة دون الأديان الأخرى وأنه الطريق الوحيد للخلاص. كما أنَّ التنشئة الدينية تسعى لحماية الفرد من الإعجاب بكل ما يمت لدين الآخر بصلة، وهو دور تقوم به الأسرة أولاً ثم تتولاه المؤسسة الدينية. ولكن السؤال المهم الآن كيف يمكن أن يقام هذا الحوار؟ وما هي النتيجة المرجوة منه؟ وكيف نقيس نجاحها من عدمه؟  تقول الباحثة ماريا أديلي رودجيرو إنَّ للحوار أربعة مستويات تتخذ شكل الهرم فعلى مستوى عالمي مثلا فإنَّ حوار الأديان يمكن أن يكون على شكل مؤتمرات وتجمعات مثل (المؤتمر العالمي من أجل السلام) ليناقش فيه كبار رجال الدين قضايا تشغل العالم ويخرجون فيه بتوصيات تقلص الهوة بين الأديان وتفيد في حل المشاكل العالمية الكبرى. أوعن طريق أداء طقوس دينية رمزية مثل الصلوات المُشتركة والتي تعبر عن تفاهم ضمني وتقبل للآخر. أو في الحوارات التخصصية للمهتمين بالشأن الديني مثل الحوار العقدي والذي يعنى بالتجارب الذاتية في الأديان المتعددة والهدف منه الاغتناء بهذه التجارب والاستفادة بما تنتجه من انفتاح نحو أفكار في صلب العقيدة مثل الاعتقاد الذاتي في الألوهية. وعلى مستوى أكثر شمولية: حوار المعاش وهو يتعلق بواقع التعايش بين الناس في التعاملات اليومية وفي علاقات النسب والمصاهرة. ففي كثير من المجتمعات حول العالم يعيش الناس من ديانات مختلفة في نفس المنطقة الجغرافية، وهذا ما يجعلهم يتعاملون مع بعضهم البعض بشكل دائم، ويخلق هذا التعامل اليومي حوارات ومواقف تبين مواقفهم من الآخر؛ فبينما يبدي الكثيرون انفتاحهم على الآخرين لمستوى يصل لعلاقات المصاهرة يظهر البعض رفضه أو استياءه من هذا الاختلاف. وهو ما يمكن لمسه في الدول الأوروبية ذات الأغلبية المسيحية بسبب الأعداد الكبيرة من المهاجرين فيها. ففي أمريكا مثلاً يتخطى عدد المسلمين المليون وفي فرنسا خمسة أضعافهم حسب أحدث الإحصائيات وهو ما يُشكل تحدياً أمام المسلمين في إظهار انفتاحهم على الآخر صاحب الأرض.   

يكمن التحدي الأكبر لدى الدين المسيحي في قبول الآخر هو موقف الأديان السماوية الأخرى من المسيح. فالإسلام مثلاً يرى المسيح على أنه بشر بينما ترفعه الديانة المسيحية لمرتبة الإله. هذا الأمر أحدث إرباكاً في الكنيسة اللاهوتية فهناك من اتخذ موقفا أصولياً برفض الحوار بين الأديان ورفع شعار (لا خلاص خارج الكنيسة) ، بينما قبل مجموعة منهم تلك الأديان التي تحمل تشابهًا ما يمكن القبول به لأنه يتضمن روح المسيح، وفي موقف أكثر تسامحاً قبل مجموعة من اللاهوتيين منهم البروتستانتي جون هيك الأديان جميعها لأنها تدور حول مركز الألوهية وأعلن صراحة بأن الأديان لا تدور حول المسيحية بل حول الله. الغريب في الأمر أننا يمكن أن نرى مثل هذا الانقسام بين المسلمين أيضًا فهناك التيار الأصولي الذي انبثقت منه الجماعات المتطرفة الذي يرفض الحوار  مع جميع الأديان ويكفر من يتساهل في الأمر. وهناك من يدعو إلى التعقل والحوار مع الآخر في حدود ما يسمح به الدين وضمن المصالح المشتركة وهو الموقف المعتدل الذي يتبناه غالبية رجال الدين. وهناك موقف أكثر تسامحًا يرى أنَّ (الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق) ويدعو إلى الانفتاح على الديانات كافة دون محاذير.

إنَّ الخطوة الأهم قبل حوار الأديان هي الفهم الصحيح لروح الدين من أتباعه، وتمثل قيمه ومبادئه. فالأديان في روحها محبة وسلام. لكنها سلاح ذو حدين فذات النصوص التي يجدها البعض مقربة للمسافات، يراها البعض الآخر سبباً للرفض والشقاق. وفي عالم يرفض الحدود، يبدو أنَّه لا مناص للأديان من الحوار الفكري الذي يمهد لمؤتلف عالمي يُعلي من شأن الإنسانية ويحتفي بالتنوع. كما أن حوار الأديان يبدو هو المخرج الذي سيخلص العالم من التطرف والإرهاب باسم الدين ويبني قاعدة من التسامح للأجيال القادمة.

 

 

أخبار ذات صلة