مشروع السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني.. يد ممدوة للحوار والحرية

أسماء القطيبية

يستهلُّ أستاذ الدراسات الإسلامية رضوان السيد، مقاله "القيمة والحق وتداولية المؤتلف الإنساني"، بالحديث عن فكرتيْ القيمة والحق وتحول علاقتهما عبر التاريخ؛ حيث كانتْ الفكرتان تتقاربان وتتباعدان وفقا لآراء الفلاسفة واعتقادات المجتمع حتى طرأ التحول الكبير بظهور المجتمعات الكبرى والديانات السماوية الثلاث. فقد احتاجت المجتمعات الكبرى لما ينظم علاقة الأفراد ببعضهم، وعلاقات الأفراد بالمنظومة الإدارية لارتباطهم بمصالح مشتركة لا يُمكن ضبطها إلا بقوانين تكفل الحقوق بقيم العدالة والمساواة. أمَّا الأديان السماوية، فقد أضفتْ على القوانين البشرية صفة القداسة والشرعية الإلهية، وأكدت على قيم المساواة الإنسانية التي بلاشك تعني حقوقا متساوية بغض النظرعن الاختلافات الظاهرية. وهذا التلاقي بين القيمة والحق هو فكرة أساسية انطلق منها إعلان السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني، الذي بحث في معانيه وأهدافه الأستاذ رضوان السيد في مقاله.

وبالبحث في المعجم العربي، نجد عدة معان لكلمة مؤتلف منها الاجتماع والتوافق والانسجام. كما أنها تبعث على استحضار معاني الاتحاد والتفاهم والتلاقي الطوعي؛ لذا جاء اختيار عنوان المشروع الذي أمر به جلالة السلطان الراحل قابوس بن سعيد، وأعلن عنه في نوفمبر 2019 (مشروع السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني). وهو بمثابة دعوة للعودة إلى المعاني الجوهرية للاجتماع البشري، ولإبطاء الخطى المتسارعة للعالم المادي من أجل تحقيق غايات السلام والسكينة. فالجانب المظلم في ظل التسارع التكنولوجي والعلمي -كما يرى المشروع- جعل من وتيرة الحياة تتضاعف بشكل لم يسبق له مثيل مسببا خللا في نظام الحياة خاصة الجانب الأخلاقي والروحي فيها. كما أنَّ الأمن العالمي بات مهددا بشكل مستمر بفعل الصراعات بين القوى العظمى التي تتحكم في مصائر الناس دون وعي وانضباط ومسؤولية أخلاقية، وظهور التطرف النابع من أيدلوجيات ومذاهب تكونت بفعل تصدع المنظومة وخلل في التواصل واختلال العدالة.. وهذا ما شكل أزمة إنسانية ينبغي الوعي بها.

يدعُو الإعلان عن مشروع السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني إلى ثوابت وقيم محددة كالآتي: العقل الرشيد (وهو الذي يوازن بين القيمة والحق) والكرامة الإنسانية والسلام والعدالة وأخلاق المعروف والتفاهم والمسؤولية؛ كون الإنسانية اليوم تعاني من ضعف الوعي بها أو تجاوزها أو تجاهلها من قبل أصحاب القرار. وبدون إيلاء هذه القيم الاعتبار في القرارات الكبرى لن يتمكن العالم من تحقيق التوازن الذي تتطلع إليه البشرية وتستشرف به على المستقبل. كما جاء الإعلان ليؤكد على قيم السلام والعدالة واضعا السلام شرطا سابقا للعدالة ومعللا ذلك. يقول الأستاذ رضوان السيد: "وذلك لأنَّ السلام هو الأرضية الممهدة والضرورية للعدالة، وقبلها وبعدها للحياة الإنسانية، التي لا تكرم أو تكتمل بالفعل إلا بالكرامة والعدالة"، ومن الممكن أن نرى ذلك في المجتمعات التي تعاني من الحروب المستمرة؛ فهي لا تنشد إلا مكانا آمنا، وما يبقي رمق الحياة من قوت. وتتراجع أهمية الحقوق الأخرى لما بعد تحقيق هذا الشرط".

كما ناقش إعلان مشروع السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني الحوار والتداول؛ باعتباره وسيلة تفاهم على مستويات عدة قسَّمها كالآتي: الحوار الوطني، والحوار العالمي، والحوار المدني العالمي، والحوار في الإقليم، وحوار الوساطة والتوسط، والحوار الديني. ناقشها الإعلان على ضوء النظرية التداولية التي وضعها الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس التي تسعى لتأسيس حوار جدي على ضوء المصالح المشتركة على كافة المستويات من أجل التنعم بعيش أكثر سهولة. ويرى الإعلان أن الحوار في هذا العصر أكثر من أداة؛ كونه صار متاحا على نطاقات واسعة وصار يخضع للضغوط الشعبية والمحاكمات الاجتماعية؛ وبالتالي فتفعيله واستثماره مكسب للوصول لمؤتلف إنساني تطمح إليه البشرية.

ومن رأي شخصي، فإنَّ ما يميز مشروع السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني عاملان يتوفران فيه لا في غيره. أولهما: أنَّ هذا الإعلان لا يرفض المتغيرات العالمية في مجالات السياسة والاقتصاد ولا يقدم نفسه بمعزل عنها أو يتجاهلها، بل يشجع على الانخراط فيها ومواكبتها. لذا؛ فالإعلان لم يكن خطابا فلسفيا بعيدا عن الواقع، بل إنه عدد القضايا المعاصرة حتى تلك المتعلقة بالبيئة والمناخ مع إعطائها أهمية تساوي أهمية القضايا الإنسانية الأخرى. أما العامل الثاني، فهو أنَّ هذا المشروع حمل اسم جلالة السلطان قابوس -رحمه الله- الذي كان رجل سلام طوال فترة حكمه التي قاربت الخمسين سنة. وهو أول حاكم عربي يحصل على جائزة نوبل للسلام نظير جهوده في الحفاظ على السلام في بلده التي تهددها الأخطار والصراعات في المنطقة بتطبيق سياسة الحياد وعدم التدخل في شؤون الغير وعدم السماح للآخرين بالتدخل في شؤون البلاد. واستطاع السلطان الراحل إخماد الثورة في ظفار في بدايات السبعينيات، كما كانت حكمته كافية لاحتواء مطالب شعبه والحيلولة دون وقوع فتن أو ثورات في البلد. ولعل الدليل الأقرب على هذه الإصلاحات الكبيرة التي تمَّت في الدولة بعد مُطالبات شعبية تزامنت مع ثورات الربيع العربي. هذا بالإضافة لدوره كوسيط في المنطقة؛ ومنها: استضافة السلطنة مباحثات أطراف النزاع في اليمن عام 2019، كما لعبت السلطنة دور الوساطة بين إيران والولايات المتحدة فيما يتعلق بالملف النووي. وعملت السلطنة جنبا إلى جنب مع الكويت لحل الأزمة الخليجية ومد الجسور بين الأشقاء والتي أثمرت مؤخرا عودة وصلحًا.

لذا؛ فإنَّ مشروع السلطان قابوس للمؤتلف الإنساني بما يحمله من خطاب منطقي عصري وتجربة واقعية للسلطنة وسلطانها الراحل هي يد ممدودة، ودعوة صادقة لإعادة ترتيب الأولويات ووضع الإنسان بكرامته وحريته وحقه في العيش بأمان في مقدمة هذه الأولويات من أجل حاضر ومستقبل أفضل.

أخبار ذات صلة