قيس الجهضمي
ينطلقُ الكاتب ناجي الحجلاوي في مقالته "حركة الاعتماد والوعي المرتخي" -والمنشور بمجلة "التفاهم"- للتعبير عن مقدار رعاية الإسلام للقيم العليا، وبث روح المحبة والأخوة والتعاون بين المسلمين، ونبذ الكراهية والعصبية والتسلط والاستبداد، مُستندا إلى القراءة التاريخية للوعي السياسي الإسلامي من خلال الأحداث من بعد عهد النبوة، وكيف كانت علاقة الدين بالدولة أو علاقة المقدَّس بالدنيوي، وعن حالة الصراع بين هاتين القوتين، والبحث في محور هذه الأطراف في سعيها لأجل امتلاك أدوات السلطة والتحكم فيها؛ إذ يرى الكاتب أنَّ النواة المؤسِّسة للصراعات الفكرية في هذا المجال هي عمومية النص القرآني وطبيعة لغته الإشارية؛ بمعنى أن القرآن لم ينُص صراحةً على نظام الحكم في طبيعته النموذجية، وذلك ليكون للناس مجال مفتوح في اختيار نمط الحكم حسب ما يرونه بعقلهم على أسس من الفهم الديني الذي يشترط قيما إنسانية عُليا؛ مثل: العدالة والمساواة.. والمثال على ذلك: نظام الخلافة؛ فلم يرد في كتاب ولا سُنَّة، وإنما هو نظام ارتضاه الصحابة بحسب إعمال عقولهم.
ويذهب الحجلاوي في قراءته للوعي السياسي الديني إلى أن هذا الوعي قد مر بثلاث لحظات فارقة في نشأته وتكونه؛ وهي كالتالي: اللحظة الأولى هي يوم السقيفة؛ إذ يعتبر يوم السقيفة أول مشكلة سياسية تعترض المسلمين، وكادتْ تشق المسلمين لمهاجرين وأنصار وظهور مدعيي النبوة وقبائل رافضي الزكاة لولا أن المسلمين استقروا على تعيين أبي بكر الذي قام بإخماد هذه الفتن. أما اللحظة الثانية، فكانت الفتنة الكبرى التي قسمت المسلمين إلى شيع وأحزاب، وهي فتنة مقتل الخليفة عثمان بن عفان؛ إذ نشأت من هذه الفتنة العديد من الخلافات السياسية والعقائدية بين المسلمين، وانبثقت منها أهم مسألة سياسية تعد المفصل في علاقة الدين بالسياسة، وهي مسألة الطاعة أو الخروج على الخليفة، وما يتولد عن ذلك من صراع وأحكام؛ إذ يتجلى لنا خروج ثوار من مصر يطالبون بدم الخليفة المقتول، بينما هناك جماعة تناصر الإمام علي بن أبي طالب وتقدمه خليفة للمسلمين، وما حدث من جدال وصراع فكري ديني تحول إلى دماء في معركة الجمل وصفين.. ويرى الكاتب أن هذه الفتنة كانت هي نقطة الانطلاق في الصراع على الحكم، وكان الصراع مُرتديا عَبَاءة الدين، وقد كانت اللحظة الثالثة هي عملية التدوين؛ حيث قام الفقهاء بترسيخ آراء وأحكام وأدبيات؛ باعتبارها أمرا إلزاميا على المسلمين، وتتجلَّى قوة عملية التدوين في إعادة تشكيلها للأحداث في الماضي فذكرت أشياء وسكتت عن أخرى، وبهذا مثلت "إطارا مرجعيا ثقافيا ضاغطا بما تضمنته من مفاهيم وأدوات فكرية ورؤى وقيم جمالية وأخلاقية"، ويعتبر الحجلاوي أن هذه اللحظات الثلاث هي المؤثرات الموجهة للوعي السياسي الذي نجد له امتدادا فعليا في الواقع التاريخي.
ويرى الكاتب أن الممارسة الفقهية هي التي أعطت للوقائع المشروعية وبررت سقطاتها، ومن هذا الأمر بدأ الاهتمام يقل بقيم العدل والمساواة والحرية... وغيرها من القيم العليا بين جميع فئات المجتمع، فظهرت بما يمكن تسميتها بـ"دوائر الفراغ في الوعي الإسلامي"، كما أن من أهم تجليات التأزم السياسي وجود فرق شاسع بين التنظير والواقع في الأحكام كاشتراط أن يكون الخليفة من القرشيين، والواقع فيما تقدم من الزمان كان في الحكم من السلاجقة والبويهين. أما في تعامل العقل مع النص والواقع لإنتاج هذه الخطابات أو الأحكام، فإن "النص فضاء دلالي واسع يتسع إلى إمكانات تأويلية متعددة"؛ لذلك هو ليس مُجبرًا للخضوع لأنماط اجتماعية أو سياسية أنتجها واقع آخر من خلال علاقة العقل بالنص والواقع في تلك الفترة، وهنا يظهر لنا تخبُّط منهجية العقل السياسي؛ بحيث جرى بطش الحكام بتأييد من تقليدية الفقهاء في الاستعمال العقلي في التعامل مع الأحكام بحجة لا اجتهاد مع وجود النص.
... إنَّ المحرِّكين الأساسيين -برأي الكاتب- للوقائع والتاريخ الإسلامي هُما التنازع على السلطة والتطلع للخلافة؛ إذ نرى أن أربعة خلفاء راشدين من أصل خمسة قُتِلوا بأيدي معارضين لهم مسلمين؛ مما يدل على أن نور النبوة كان يخفت في نفوس الكثيرين منذ وفاة النبي، ويرى الكاتب أيضا أن المؤسسة السياسية تحولت في اعتمادها على النظام العمودي "التوريثي" بدل الأفقي "الاختيار الحر" باستعمال التهديد والتسلط؛ إذ يظهر أول الأمر في قضية التحكيم وفي فعل المغيرة بن شعبة حين قام خطيبا، فأشار إلى معاوية؛ فقال: هذا أمير المؤمنين، ثم أشار إلى ابن معاوية يزيد قائلا: فإن مات فهذا، ثم أمسك بسيفه وأشهره، قائلا: ومن أبى فهذا. وقد كان لبني أمية السبق في تغليب القيم الدنيوية والمصالح السياسية الآنية على القيم الدينية والسياسية الشرعية وتعصبهم للعروبة؛ مما جعل المسلمين من غير العرب يشعورون بأنهم أناس من درجة ثانية، ثم ظهر ما يعرف بالشعوبية وهو تيار يهاجم الماضي العربي، ويطعن فيه: فكرا، وثقافة، وحضارة.
إنَّ الاستبداد والبطش السياسي إذا استند إلى الدين يُنتِج أسوأ نماذج العنف والقهر في المجتمعات البشرية، وما كان حصول الكثير من الثورات السياسية والاجتماعية في العهود المبكرة للدولة الإسلامية إلا دلالة على أن هناك اختلالا في التوازن السياسي والاجتماعي والقضائي في هذه الدولة، وقد كانت هذه الثورات عبارة عن تطور الاختلاف إلى حلبة يصارع فيها المسلم أخاه، وبسبب إعلاء القيم الدنيوية على القيم الدينية في هذه الدولة تفككت البنى الاجتماعية، وظهرت صراعات بين الموالي والعرب، وقد اتخذت هذه الصراعات أشكالا مختلفة؛ فشكلٌ ظهر كحربٍ ثقافية وقيمية كأدب بشار بن برد وأبي نواس، وشكل تجلى بالبطش والتشفي في زمن ضعف فيه الخلفاء.
ويرى الكاتب أن كتب التاريخ كانت تذكر أن الأساس الذي تمسك به هؤلاء الملوك هو حبل الله المتين ودينه القويم، متعمدين الخلط بين القيم السياسية والمفاهيم الدينية، واستند تصورهم للفعل السياسي إلى الأخذ بفكرة من اشتدت وطأته وجبت طاعته، وقد عمد الجهاز الإداري والعلمي لهذه الدولة المتمثل في الولاة والفقهاء على الهيمنة على الدين، فأضحى صلاحه في صلاحهم، ليقوموا بتوظيف الدين باعتباره مصدرا إلهيا غير قابل للجدل، وتمييع الفرق بينه وبين السياسة لخدمة الصراع لأجل السلطة، متناسين أن الدين جاء ليبث في الناس القيم الإنسانية العليا ويعرفهم على الحقائق الإيمانية، بينما السياسة هي قائمة على أحداث تحدث تحت ظروف معينة، ويرى الحجلاوي أن الخلل المعرفي كان في تعثر العقل السياسي؛ حيث ركز على بُعد واحد في القضايا المتشعبة الجوانب؛ مما أَوْجَد فراغًا معرفيًّا في أغلب القضايا، ويرى أن ملء هذا الفراغ يتحمله المثقف العربي من خلال تداخله في الوسط الاجتماعي وأعماله القائمة فيه على التنمية البشرية، وأرى أن فهم التوازن بين الدنيوي والديني والتعامل مع القضايا الإنسانية بواسطة إعمال العقل وما تقتضيه ظروف الواقع هو المفصل في الخروج من هذه الأزمة؛ إذ كما يُقال الإسلام دنيا ودين، وهذا دور الفقيه قبل المثقف؛ كونه يتحدث بمصدر علوي لا يملك الكثير من المجادلة في المجتمعات الإسلامية بسبب تراكم الآراء القديمة في العقل الجمعي الإسلامي، مقارنة بصورة المثقف في هذه المجتمعات.
