أم كلثوم الفارسي
من خلال مقال للأستاذ أحمد محمد سالم أستاذ الفلسفة الإسلامية والفكر العربي بجامعة طنطا – الذي جاء بعنوان "الدين والعمران" والذي تناول فيه أهم نظريات العمران البشري التي قدمها مفكرون مسلمون على رأسهم ابن خلدون، حيث خلص مقاله إلى حقيقه مفادها أن معالجات مدونات الأخلاق الإسلامية لمسألة العمران لم ترق إلى مصاف إمكانية وجود نظرية متكاملة؛ ولكنها كانت معالجات جزئية اختلفت من فيلسوف لآخر، ولكن ما اتفق عليه جميع المفكرين في هذا الجانب أن الدين عبر كل الأزمنة كان المحرك الأساسي للمجتمعات مهما كانت طبيعته الوجودية (نقصد بذلك منشأ الدين سماوي أو وضعي) فضرورة الدين في المجتمع من ضرورة الاجتماع نفسه أي لا يحدث الاجتماع (وجود مجتمع من غير دين)؛ فالاجتماع لا يكون إلا عن طريق الدين، حيث إن من خلاله يتم تفسير وتقبل الرموز والسلوكيات والعلاقات الاجتماعية، وحتى الثقافة لا يمكننا أن نتصور وجودها بدون الفكرة الدينية؛ فالعلاقة بين الدين والثقافة علاقة تأثير وتأثر في نفس الوقت.
والمجتمع يستمد وجوده وفق تلك المعتقدات الدينية والتفسيرات العقائدية للوجود والفناء على حد سواء؛ فالدين تنظيم يشبع الأفراد من خلاله أغلب احتياجاتهم وفق محددات ثابتة للسلوك من الناحيتين الواقعية والغيبية، وهو بذلك نظام اجتماعي يتشكل من قبل أفراد المجتمع أنفسهم، أو عن طريق غزو ثقافي يحدث بين المجتمعات المختلفة، أو صراع داخلي يزيد من التكامل والوحدة بين أبناء المجتمع الإنساني. فالعلاقة بين الدين والمُجتمع تبادلية توافقية كل يؤثر بالآخر؛ فهما عنصران متلاصقان في كيان المجتمع الإنساني ومن الصعب الفصل بينهما؛ لأنَّ العلاقة تاريخية وبيولوجية وفسيولوجية وسيكولوجية وفكرية ووجدانية. ومن خلال علم العمران الذي عرضه الكاتب بشيء من التفصيل في مقاله نسلط الضوء على الدور الإيجابي للدين والشريعة في إرساء دعائم المحبة والأنس بين الأفراد؛ فمما لا شك فيه أنَّ للإنسان حاجات يود قضاءها، ومطالب يرجو تحقيقها، ومصالح يتمنى نجاحها. وللإنسان ميول وأهواء وشهوات يحاول إرضاءها وإشباعها والتمتع بها وكل من ساعده على قضاء حاجة أحبه ومن وافقه على هواه مال إليه ومن عاكسه في مصالحه أو صادمه في أهوائه كرهه وأبغضه ونفر منه وباعده، فالحب والبغض من طبيعة الإنسان، ومن صفاته المتأصلة الملازمة لا مفر منهما ولا عاصم. ولم يخل إنسان من حب أو بغض ولن يتجرد مخلوق من الميل والتأثر فقد وجد الحب مع أبينا آدم عليه السلام وكان الحب والبغض بين أولاده سبباً في القتال بين قابيل وهابيل، وشربت الأرض دم أوَّل قتيل نتيجة حب القاتل لأخت المقتول فتولد البغض لأخيه وأنتج جريمة القتل، فيصدر عن الحب الائتلاف والمودة والتعاون والرحمة وتقوية الرابطة وتمكين الصلة فتسعد الأفراد والجماعات والأمم، ويصدر عن البغض القطيعة والهجران والتفرق والاختلاف والخذلان والقسوة والشدة.
وكل حركاتنا وأعمالنا وصفاتنا ناتجة عن الحب والبغض، فيؤلف الحب بين الزوجين والصديقين والأقارب. وقد كان الدين متصدرا مشهد دعم العلائق الاجتماعية وترسيخ دعائم المحبة بين الناس وذلك من خلال الشريعة، واتخاذ الدعوات والاجتماع في المآدب ليحصل لهم هذا الأنس، والجدير بالذكر أن الشريعة أوجبت على الناس أن يجتمعوا في مساجدهم كل يوم خمس مرات، ليحصل لهم الأنس الطبيعي، كما أوجبت على أهل المدينة أن يجتمعوا بأسرهم في كل أسبوع يوما بعينه في مسجد يسعهم ( صلاة الجمعة ) ليجتمع شمل أهل المحال والسكك كل أسبوع، ثم أوجب أيضاً أن يجتمع أهل المدينة مع أهل القرى والرساتيق (القرى الصغيرة) المتقاربين في السنة مرتين في مصلى -صلاة الأعياد-، ويتجدد الأنس بين كافتهم، وتشملهم المحبة الناظمة، ثم أوجب أن يجتمعوا في العمر كله مرة واحدة في الموضع المقدس بمكة –الحج- ولم يعين من العمر وقتا مخصوصا ليتسع لهم الزمان، فيجتمعوا بذلك إلى الأنس الطبيعي وإلى الخيرات المشتركة ويتجدد بينهم محبة الشريعة. ويؤكد – ابن مسكويه- على أن المحبة هي أساس المجتمع البشري؛ لأن نظام الموجودات كلها وصلاح أحوالنا معلق بالمحبة ويرى أن المحبة ناتجة عن ميل الإنسان إلى الأنس، وذلك " لأن الإنسان آنس بالطبع، وليس بوحشي، ولا نفور"، وينبغي أن يعلم أن هذا الأنس الطبيعي في الإنسان هو الذي ينبغي أن نحرص عليه ونكتسبه مع أبناء جنسنا حتى لا يفوتنا بجهدنا واستطاعتنا فإنه مبدأ المحبات كلها.
وإذا كان الإسلام يركّز على العلاقة الإنسانيّة في دائرة التعارف الحيويّ في الحاجات، فإنه يثير الجانب الحركيّ في هذه العلاقة، ليدعو المؤمنين والمؤمنات إلى التعاون على البر والتقوى، بحيث يتكامل الجميع في تحقيق هذين العنوانين الكبيرين في الواقع، اللّذين يمثّلان الخير كله في علاقة الإنسان بالإنسان، وفي المفاهيم الأصيلة في الإيمان والعدل والتّكافل الاجتماعي، والمراقبة المنفتحة على الله في دائرة السّلوك الفردي والاجتماعي للإنسان على أساس الضّوابط الروحيّة والعمليّة، وليبعدهم عن التعاون على الإثم والعدوان اللّذين يمثلان الشرّ في نطاقه الفكري والحركي، وقهر الإنسان الآخر في كلّ أبعاده وأوضاعه.
إنّ الدين على هذا الوضع يدعو إلى الوئام لا الشقاق، وإلى الحب لا الخصام، وإلى عمل الخير لا عمل الشر، وإلى الإكثار من الخير وتلافي الشر حيث يرى الماوردي أن الدين من أهم القواعد في صلاح الدنيا - والعمران البشري، وهو وحده عليه صلاح الآخرة، وتكمن أهميته في أنه " يصرف النفوس عن شهواتها، ويعطف القلوب عن إرادتها، حتى يصير قاهراً للسرائر، زاجراً للضمائر، رقيبا على النفوس في خلوتها، نصوحا لها في ملماتها، وهذه الأمور لا يوصل بغير الدين إليها، ولا يصلح الناس إلا عليها".
