السلطة الكنسية في عصر التنوير

ناصر الحارثي

يسعى الكاتب محمد علي محمد عثمان في دراسته بعنوان: "الحروب الدينية في أوروبا على مشارف العصر الحديث"، إلى فهم أسباب ومآلات الحروب التي حدثت في أوروبا بين القرن الخامس عشر والقرن السابع عشر، وذلك من خلال دراسة نماذج لعدد من الصراعات الدينية في القارة الأوروبية، مشيرًا بشكل مباشر إلى دور السلطة الكنسية الممثلة في بابا الفاتيكان في وقوع عدد من الحروب الدينية.

لا بد أن مصطلح الحروب الدينية من أكثر المصطلحات إثارة للجدل والنقاش سواء في أوروبا خاصة مع مشارف العصر الحديث أو في منطقة الشرق الأوسط في الوقت الراهن، والبعض يفضل تسميتها بالحروب المقدسة أو الصراع الطائفي، في حين أنّ البعض الآخر يفضل اعتبارها حروبًا سياسية لتباين مسبباتها وكونها غير مرتبطة بالدين، وإنّما هي وسيلة أو أداة تستخدم لمصالح سياسية. مهما كان المسمى الداعي إلى الحرب، فإنّ الجميع يتفق بأنّ الحروب هي وسيلة دمار نفسي واقتصادي واجتماعي ومعرفي وحتى ديني، حيث إنّ الحروب مهما كانت مسوغاتها ما تلبث إلا أن تتمسك بأي خطاب يمكن أن يزيد من حدتها حتى يهلك الحرث والنسل والبلاد وينتشر الفساد وتستشري الأوبئة والجرائم، ويميل الناس إلى ارتكاب أشنع المحرمات ويخفت الضمير الإنساني، ويصبح المال والدين والحكم والبشر هم وقود الحرب، وهذا ما ابتليت به أوروبا من بعد القرن الخامس العشر ميلادي حتى نهاية الحرب العالمية الثانية. ويرى الكاتب محمد علي محمد عثمان أنّ بدايات الحروب الدينية بدأت في أوروبا في عام 1415م عند اشتعال الصراع البابوي البوهيمي عندما رفضت الكنيسة رفضا قاطعا المطالب الإصلاحية التي ترأسها المفكر والمصلح الديني التشيكي جون هيس، حيث وصل الفساد في الكنيسة إلى ذروته عندما أصبح القضاء الكنسي يشترى بالمال، ومنح المناصب الدينية العليا للأقارب، وانتشرت الظاهرة السيمونية والتي تعنى ببيع الوظائف الكنسية، وبيع صكوك الغفران وانتشار الجهل، وحين طالب جون هيس بعدم طاعة سلطة البابا تم استدعاؤه للمثول أمام المجلس الكنسي في كونستانس ومنحه الأمان، إلا أنّه تم الغدر به وسجنه وإحراقه حيا، هذا السلوك المتهور من المجلس الكنسي يكشف عن مدى السلطة التي كانت تتمتع بها الكنسية وعدم قراءتها للمتغيرات الحاصلة في أوروبا إبّان تلك الفترة حيث بدأت الحركة المعرفية تنتشر في أوروبا، كما أنّ وجود خطابين متناقضين تماما نتج عنه اندلاع الحرب البابوية البوهيمية، لتنتهي الحرب بعقد مجلس جديد للكنيسة في عام 1436م واضطرت الكنيسة إلى قبول بعض مطالب أتباع هيس.

وإن استطاعت الكنيسة إخراس أحد الأصوات التي كانت تعاني من ظلم وفساد الكنيسة إلا أنّ هناك أصواتا كثيرة بدأت تظهر في أوروبا معلنة التمرد والعصيان ضد الكنيسة إلى أن تشكل الحزب البروتستانتي داعيا للانفصال عن الكنيسة، ليكون المذهب البروتستانتي بقيادة الحركة اللوثرية صفعة مدوية أمام غطرسة الكنيسة الكاثوليكية، وصارت الكنيسة تأخذ التحركات البروتستانتية في ألمانيا محمل الجد، مما دفعها لتشكيل الحلف الكاثوليكي بمشاركة الجيوش ودعم من الأمراء والملوك للقضاء على التوجه الفكري الجديد، ولكن لأن الدوافع لم تكن دينية عقدية بحتة، خاصة وأن الكنيسة بسبب سلطتها الاستبدادية جلبت العديد من الأعداء والخصوم سواء في الجانب الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي، إذ تضخمت ثروة الكنيسة بصورة هائلة منذ العصور الوسطى من خلال المنح والهبات ومواريث الأثرياء والأوقاف الكنسية المنتشرة في كل بقاع أوروبا، مما ولد سخط الكثير من أصحاب الأعمال الذين كانوا يدفعون أموالا باهظة للكنيسة، وكذلك الأمراء والملوك فقد كانوا بحاجة ماسة إلى المال لإدارة الحياة المدنية والتزامهم الإجباري في الحصول على الرضا من الكنيسة، أمّا في الجانب الاجتماعي فلقد أزعج الناس ظاهرة التحرّش عند رجال الدين والثراء الفاحش الذي كانوا يتمتعون به، وهناك سبب آخر للتمرد والصراع السياسي وهو انزعاج القوميات التي بدأت بالظهور بشكل جلي وانزعاجهم من الضرائب الكبيرة التي ترسل للكنيسة البابوية، حيث يقول أحد الأساقفة الألمان: "يجب ألا يستنزف الإيطاليون دماء الهيئة الكهنوتية بسلب الذهب على دفعات"، ومن الأسباب أيضا للتمرد على السلطة الكنسية هو تحول المجتمع من مجتمع زراعي إلى اقتصاد نقدي تجاري يعتمد على نظام السوق بدل نظام الاقطاع الذي كان سائدا في العصور الوسطى. في ظل الصراع الكاثوليكي البروتستانتي كان للامبراطور الدور الكبير في حسم عدد من المعارك بين المعسكرين، خاصة وأنّ الإمبراطور كان يوازن بين سلطته المستمدة من الكنيسة وبين رغبته في المحافظة على العرش والسيطرة، فكان ينتصر حينا للكنيسة وأحيانا للصوت المعارض مستندا للمقولة السياسية المعروفة ليس هناك أصدقاء دائمون ولا أعداء دائمون ولكن هناك مصالح دائمة، توازن القوى والرغبة الملحة إلى الإصلاح أنتج حروبا دينية في فرنسا وخطابات منادية للإصلاح في كل من السويد وإسبانيا والدنمارك.    

 

يرى الكاتب أنّ الحروب الدينية التي حدثت في أوروبا لا ضرورة لها وأنّها لم تكن حتمية، حيث إنه كان بإمكان الكنيسة أن تتجنبها لو قامت بالإصلاح الديني، وهذا رأي لا يتناسب مع نسق الأحداث والصراع الكبير حول الثروات والسلطة، فقيام الكنيسة بالإصلاح يعني التنازل الطوعي عن هيمنتها وسلطتها وثروتها التي كانت تستمد عن طريقها السلطة في أوروبا بل وامتدت إلى خارج القارة الأوروبية، ومن الطبيعي ألا تقوم الكنيسة بالإصلاح خاصة وأن التغيير مهدد لمصالحها، فقد كانت الكنيسة تتمتع بثراء فاحش وسلطة قاهرة ومعرفة محتكرة، وأمّا الذهاب إلى النتائج بشكل مباشر حيث فقدت الكنيسة الكثير من صلاحياتها وهيمنتها، وصار دورها محايدا من خلال التوجه العلماني أو مستبعدا من خلال العلمانية اللائكية في فرنسا، فهو توجه غير منطقي ولا يتناسب مع السياق الزمني. كما أنّه لا يمكن القول بأنّ الحروب الدينية أسقطت النظام الإقطاعي وأدت إلى ظهور الرأسمالية، لأن سقوط النظام الإقطاعي نتيجة حتمية للتغير نحو الثورة الصناعية وتطور العلم وهذا ما نجده في الكثير من البلدان التي انتقلت من النظام الإقطاعي إلى نظام دولة المؤسسات دون الدخول في حروب سواء اجتماعية أو دينية. ونخلص في هذا المقال إلى أنّ الحروب التي تتدثر برداء الدين تكون عادة نتجية تأثير السلطة أو الخطاب الديني على أنساق الحياة الاقتصادية أو الاجتماعية والسياسية بشكل واضح وجلي، وكلما كان الخطاب الديني محايدا بين جميع الأطراف كان أبعد ما يكون عن استخدامه كأداة أساسية في الحروب والصراعات.

أخبار ذات صلة