السعادة، عند فلاسفة اليونان والإسلام

أمجد سعيد

في المقالة الفلسفية لأستاذة الفلسفة منى أحمد أبوزيد والمعنونة بنظرية "السعادة" ووسائل تحقيقها في الفلسفتين اليونانية والإسلامية، طرحت الكاتبة موضوعًا من شأنه أن يثير الكل وليس البعض، ألا وهو السعادة. تُعد السعادة من الأمور التي شغلت فكر الإنسان منذ القدم واهتم بها ولا يزال يبحث عنها ويترصد لها. والبشر جميعًا ينشدون السعادة حتى وإن لم يدركوا ماهية السعادة التي يبحثون عنها. وكانت نظرية السعادة في أساسها نظرية أخلاقية، شغلت اهتمام مُفكري الأخلاق قديماً، وما زالت تشكل محورا أساسيًا في الفكر الأخلاقي حتى يومنا هذا، وهي تُمثل الغاية التي ينشدها الإنسان من وراء سلوكه. وقد جرت العادة على تناول مواضيع السعادة في إطار الفلسفة الأخلاقية، ولكن في الواقع أنَّ هذا الموضوع أوسع بكثير من أن يتم حصره في مذهب فكري من مذاهب الفلسفة الأخلاقية المتشعبة، فهو موضوع لا يقتصر على المجالات الفكرية والفلسفية، ولا حتى في مجالات الدين والسياسة والسلوكيات النفسية، بل يتعداها لمضمون النفس البشرية كذات واعية ومُستقلة. وبهذا الإطار الفضفاض يتعدى موضوع السعادة الفلسفة الأخلاقية، فهو موضوع يهم كل إنسان من حيث هو إنسان لتحقيقه، ولا يقتصر موضوع السعادة وتحقيقها على الفيلسوف أو المفكر. علاوة على كل ما ذكر من المجالات الفضفاضة التي تغطي موضوع السعادة فإنَّ المهتم الأول بتتبع ودراسة هذا النمط والسعي لإيجاد سبل تحقيقه هو فيلسوف الأخلاق، إذا اعتبرنا أنَّ فلسفة الأخلاق هي في مجملها البحث والتقصي في مبادئ سلوك الإنسان وغاياته؛ لأن السعادة تدخل في غايات هذا السلوك.

لا يُعد مفهوم السعادة ككل المفاهيم السلوكية والفكرية عامة مفهومًا مطلق المعنى والمضمون، بل إنَّ مضمونه يختلف من حضارة إلى أخرى، ومن فلسفة إلى غيرها. وللفلاسفة في حقيقة السعادة آراء مختلفة؛ فقد ذهب السفسطائيون إلى أنَّ السعادة هي الاستمتاع بالأهواء، أما سُقراط فيرى أنَّ السعادة ليست في الجمال ولا في القوة ولا في الثراء أو المجد، ولا هي في المظاهر الخارجية؛ ولكنها حالة معنوية خالصة؛ فالسعادة عنده ليست في إشباع اللذات، وإنما في التمسك بالفضيلة.  واتبع أفلاطون مسار سُقراط معلمه، وقال إنَّ السعادة في اتباع الفضيلة. ويلاحظ القارئ لفلسفة أفلاطون الأخلاقية أن مفهوم السعادة يختلط عنده كثيرا بمفهوم الخير المطلق، وهو ما نادى به في كتابه الجمهورية، وقد فرق في ختام محاورة فيدون بين لذات نافعة هدفها تحقيق الخير، ولذات لا توصل إلى الخير، وينتهي إلى أن من يعرف ما هو الخير يصل إلى طريق السعادة التي تليق بالإنسان العاقل. أما أرسطو فقد نقد تصورات الناس حول السعادة في كتابه "الأخلاق" قائلاً: إن الناس اختلفوا في حد السعادة؛ فقال بعضهم: إنها شيء من الأمور الظاهرة البينة؛ مثل اللذة أو الغنى أو الكرامة، وكثيرًا ما يصفها بعضهم بعدة أشياء مختلفة، فإذا مرض قال إنَّ السعادة هي الصحة، وإذا افتقر قال إنها الغنى. أما السعادة الحقيقية عنده فهي التي تحقق للإنسان الخير المطلق أو الخير الأسمى.

أما عن مفهوم السعادة في الفكر الإسلامي، فقد اشتركت عدة عوامل في توضيح هذا المفهوم، ولا شك أنَّ للكتاب والسنة المرجعية الحقيقية والدعامة الأساسية أثر في توضيحه، إلى جانب استفادته مما طُرح في الحضارات والفلسفات السابقة، فهو كأيِّ فكر إنساني قد أثر فيما حوله من أفكار سابقة ولاحقة عليه وتأثر به. ذهب بعض الفلاسفة إلى أنَّ السعادة هي نوع من الاستكمال، مثل المريض الذي يظن أنَّ السعادة في استرداد الصحة أو الفقير إذا حصل على المال، ولكن السعادة ليست بديلة لشيء آخر، بل هي مطلب قائم بذاته ولذاته. وعلى ذلك يُعرِّف الفارابي السعادة بأنَّها من الخيرات أعظمها خيرا، ومن بين المؤثرات أثرا وأكمل من كل غاية سعى الإنسان نحوها. ولذا سمى السعادة المبنية على الثروة أو الكرامة أو الصحة بالسعادة المظنونة. وهناك من ذهب القول به إلى أنَّ السعادة هي التمام والراحة. ويتجنب أبو الحسن العامري هذا التعريف والأخذ به؛ لأنه من المُحال أن يكون الحرص والتعب من أجل الراحة، فليس الفعل من أجل الراحة بل الراحة من أجل الفعل.

يرتبط تصور السعادة عند كل مُفكر بتصوره لماهية الخير الإنساني. وهذا الربط بين السعادة والخير هو ما بدأه فلاسفة اليونان؛ فقد ذهب سقراط وأفلاطون إلى أنَّ الخير هو السعادة، وخير الإنسان عندهما هو في تحقيق الفضيلة. وتحقيق الفضيلة يلزم الفرد بالسيطرة على القوى المختلفة بداخله كقوة العقل والنفس، وقام أفلاطون بتطبيق هذا التحقيق المراد من الإنسان بالسعادة على المدينة كما على الفرد؛ إذ إنَّ المدينة السعيدة هي التي يتولى قيادتها الحكيم، ويتحقق العدل بين طبقاتها، وتتولى كل طبقة العمل الذي يصلح لها. وبهذا تتحقق العدالة والانسجام بين طبقات المجتمع، بحيث لا تطغى ولا تثور طبقة على أخرى، ولا تحاول أي طبقة القيام بمهامها الوظيفية التي هي من شأن الطبقة الأخرى التي تأهلت لها بسبب استعدادها الطبيعي.

إنَّ الإنسان لكي يحقق السعادة لا يكفيه فقط أن يعرف ماهية السعادة وطرق الحصول عليها؛ بل إنّ لتحقيق هذه السعادة عوائق وموانع قد تمنعه وتحد من سعيه وراء الغاية الأسمى وهي السعادة، فالخير المطلق والفضلية والمعرفة التامة العميقة للأشياء، والتحول من كائن حيواني إلى كائن عقلاني مستقل بعقله ونفسه، كل هذه الأسلحة قد يتسلح بها الفرد لنيل السعادة والذي قد ينتج من جراء هذا السعي مواجهة الشر والشقاء، فلتحقيق السعادة يجب التسليح بنقيض الموانع التي تقف عائقاً في طريق المتلهف لها والتي في مجملها تتلخص في الخير والفضيلة والحكمة.

أخبار ذات صلة