في محددات علاقة الدين بالسياسة

صفية الهاشمية

تتنازع أبعاد الدراسات المعرفية للفكر السياسي في علاقته بالدين ثلاثة أنماط معرفية، أو قل: براديغمات معرفية ومنهجية كبرى، بحسب ما تلوح به القراءات الحديثة والمعاصرة: فهناك المنهج الإشكالي المتحدد في منهجية التحليل وتأصيل العلاقة، وكذا المسلك المتوجه إلى منهجية التنزيل وتفعيل العلاقة، ثم المتمحور في نطاق منهجية التطوير وتأويل العلاقة، وحسب قراءة الباحث الحسان شهيد في دراسته "الدين والسياسة : وقفات مع كتاب إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة في الفكر العربي المعاصر-محمد جابر الأنصاري وبرهان غليون نموذجا للكاتب عبد السلام طويل "؛فإنه يحصر دراسة الدكتور عبد السلام ضمن الموقع الأول من تلك المناهج؛ لعلل ثلاث: الأولى؛ لأنه يبحث في طبيعة الإشكال المركزي لعلاقة الدين بالسياسة أو الدولة. والثانية؛ لأنه انتبه إلى إشكالية العلاقة بين الفعل السياسي وبعده الديني. والثالثة؛ لأنه اتخذ قراءتين متباينتين لتلك العلاقة محورا لتحليل الإشكال بينها.

ورغم أن الباحث – بحسب تصريحه في الدراسة- أنه ليس من أهل الاختصاص في الفكر السياسي ولا المشتغلين بأصوله وأبعاده المعرفية ولا حتى العملية، ولكن في إطار التكامل المعرفي يرى الباحث نفسه مدفوعا نحو الكشف عن تقاطعات عديدة ومتشابكة بين الفكر السياسي و الدراسات المعرفية والإسلامية والوصول إلى مقاربات نظرية بينهما من خلال عرض مقدمات إشكالية تتلخص في جملة من التساؤلات الآتية:

أولا: هل تصح المقاربة الجدلية بين الدين والسياسة، أم الأصح المقاربة بين الدين والدولة، أم أصحهما جميعا مقاربة الدين بالعلمانية؟

وحقيقة هذا الاستفهام ينطلق من الاعتبار الشائع أن الدين والسياسة ثنائية متضادة ومتقابلة؛ في حين أن حقيقة المقاربة بينهما لا تصح وفق هذا النسق التقابلي؛ لأن الدين لا تقابله السياسة إذا تم اعتبار السياسة منهجا في التدبير المجتمعي من أعلى مؤسسة هرمية في السلطة، كما أن الدولة لا تقابل الدين في المخيال التاريخي على الأقل لبعض الثقافات الإنسانية، وحتى العلمانية إذا تم تجريدها من أبعادها الإيدولوجية فإنها لن تقوى على استقلالها الكلي باعتبارها شكلا من أشكال الدين في المجتمع.

ثانيا: لماذا غالبا تُفترض مظنة الإشكال في الدين دون غيره كلما تمت معالجة الثنائية التقابلية بين الدين وما سواه من الواجهات المُقابلة سواء أكانت سياسة أو دولة أم علمانية أم ...؟

وقد تتم الإجابة عن ذلك بسؤال آخر: هل الغياب الزمني للدين في النسق الإنساني والاجتماعي المعاصر كرس ذلك الافتراض؟ أم أن القوة والسلطة التي تحظى بها متقابلات الدين تلك وحضورها الزمني أفضى على ذلك حتما وضرورة؟ كما لم تكن تلك الاشكالية معروضة في زمن ما على الأقل في الاجتماع السياسي الإسلامي.

ويتصور الباحث إزاء تلك الوضعية المذكورة للدين أنها تزداد تأزما وإشكالا عميقا كلما دعت الحاجة إلى تفهيم الدين بالصورة المقبولة والمطلوبة.

ثالثا: فيما يتعلق بتنظير السياسة والدين، كثيرا ما يتم نقد نظريات الفكر السياسي في المجال الديني دون تحديد الجوانب المفتقرة إلى المراجعة أو الضبط، لذلك يحق لنا كسائلين باحثين عن حقيقة ما يجري في معترك الصراع الديني وغيره أن نفكك الجوانب الأساسية المكونة للدين كمنهج لا كمعتقد؛ حتى لا نبتسر الموضوع في جوانبه الضيقة، لذا نجد الباحث يتساءل ويقول:

هل المقصود بالدين المعتقدات الشخصية القلبية لدى الإنسان أو المواطن بالمفهوم الحديث للفكر السياسي الخاص بمؤسسات الدولة؟

أم المراد بذلك: المنهج الحكمي؛ أي الأحكام الشرعية المستمدة من المدونة الدينية؟

أم المفهوم من ذلك التعبدات الشرعية والمظاهر السلوكية للدين على أوساط المتدينين، مثال: اللحية، اللباس، الشعائر، الرموز، الطقوس؟

أم المقصود بذلك؛ الحدود والعقوبات المرسومة في المدونات الدينية، والتي غالبا ما تثار فزاعة في معارضة الدين؟

أم المرام من ذلك تاريخ الدين وحضارة الدين كما حُفظت عبر الكتابات التاريخية والأسطورية؟

بعد تحقيق النظر في المسألة جليا، لا يجد الباحث ثمة فروقا جوهرية تستدعي التهويل من تلك المتقابلات وشساعتها إلى درجة يتم بها إلغاء التصور الديني باعتباره حرية، أو الفكر الديني باعتباره منهجا في التدبير السياسي، وإقصاء الاختيار الديني باعتباره أسلوبا لدى فئة عريضة من الناس توافقت آراؤهم في التدبير الحياتي الجماعي على ذلك.

أمّا ما يرمي إليه التساؤل الخاص بدلالات المعتقدات الشخصية القلبية فما من سبيل إلى تأكيد نكران أهل السياسة أو العلمانية لمعتقدات شخصية أكان لها طابع ديني أو جماعي أو مدني أم قانوني، فالمعتقد روح فكرية لا تستقيم حركة الإنسان في مواقع وجوده دون أثر لها أو شبيه بها. ومعرض الحديث هنا لا عن طبيعة المعتقد لأنّ ذلك من صميم الحرية، بل عن أصل فكرة المعتقد، لذا يبقى الرهان في البرهان الصراعي على فكرة الاعتقاد رهان غير سليم، بل ظالم فكريا.

وفيما يشير إليه التساؤل المبني على توهم الدين أحكاما شرعية له استمدادات ومراجع في المدونات الفقهية والتاريخية، فهذا لا يليق حجة في التوجس خيفة من الخلفية القانونية للدين؛ لأنّ كل التشريعات الدستورية والقضائية المعتمدة في الأنظمة السياسية المتصفة بغير الدينية لها امتدادات تاريخية أو عرفية أو دينية أو عرفانية لدى عدد من الشعوب، وما ينهض ذلك معارضا على الاختيار السياسي أو القانوني لتلك الشعوب، ولا فرق بين الأمرين بعد التأمل.

أمّا التساؤل الثالث المستند إلى التعبدات الشرعية والمظاهر السلوكية لأهل الدين وملتزميه؛ فليس من العلمي إدخال ذلك في النظر السياسي، لأن من الواضح أن الأنماط والتقاليد تختلف في المظاهر بين مجتمع وآخر ولا علاقة له بالسياسة في ذلك.

وعن التساؤل الرابع المتعلق بطبيعة الحدود والعقوبات المرسومة في المدونات الدينية، والتي غالبا ما تثار فزاعة في معارضة الدين؛ فإن الجزاءات الموكولة للجنايات المرتكبة والجرائم المقترفة تتباين طبيعتها من مجتمع لآخر بحسب معتقداته واختياراته، بل إن بعضا من المجتمعات السياسية العلمانية تجدها أقسى من غيرها من الأنظمة ذات الطبيعة الدينية، لذلك فإن القسوة الجنائية- إن صح التعبير- مسألة نسبية في الجرائم؛ لأنها لا تتماثل بين المجتمعات الإنسانية، وهناك من الأنظمة السياسية التي ترفض إلغاء عقوبة الإعدام مثلا، رغم دعوات المنظمات الحقوقية، فكيف تكون مسألة الحدود محددا محرضا ضد الدين في السياسة؟

أما المفهوم الخامس من ذلك بأنه تاريخ الدين وحضارة الدين كما رسمت عبر المدونات التاريخية، فعلى افتراض صحة كل المدونات التاريخية، وعدم انفلات صحة أخبارها وعدم اجتزائها وتسييسها؛ فإن تاريخ الدين وحضارته جزء من تاريخ الإنسانية، وكل الأنظمة السياسية بما فيها الأنماط العلمانية المختلفة تعد امتدادا تاريخيا للدين والمجتمعات الدينية، وما عرفه تاريخ الدين من حروب عقدية ونزاعات اجتماعية لا يختلف كثيرا عما عرفته المجتمعات غير الدينية أو الموالية لغير الدين.

بعد كل هذه التساؤلات الواردة والأفكار المفترضة يختم الباحث متسائلا، هل يمكن القول: إن الحقيقة المضمرة هي أننا أمام مقاربة تختلف عن تلك المقاربات ما دام الدين ليس في مقابل السياسة ولا الدولة؟ كما يستفهم مرة أخرى بعد إمكانية تعارض الدين مع العلمانية، هل يمكن القول: أننا أمام مقاربة بينه وبين مسألة الحكم باعتباره منهج سلطة، وليس باعتباره قيمة؟

 

 

أخبار ذات صلة