الائتلاف الثقافي

عاطفة المسكرية

تستدعي بعض القراءات التاريخية تمعنا في مسألة الاندماج الثقافي بين الأقوام السابقة. فاليوم وفي ظل الظروف التي تختبرها الكثير من الشعوب حول العالم يبدو الأمر مختلفا عما كان عليه في السابق، وتحديدا من جانب تقبل واقع هذا الاندماج باختلاف أسبابه. إنّ القراءة في هذا المجال وتحديدا لمقالات البروفيسور فكتور الكك فتحت باباً لهذه المقارنة، حيث كتب عن الأحداث المتعلقة بالشعوب السالفة في فترات الحرب والسلم- كالإفرنج والمسلمين - في مقال له بعنوان "العلاقات الثقافية بين المسلمين والفرنج أكملت حبات العقد الذي طوق جيد النهضة الأوروبية بلؤلؤة صقلية وواسطته الأندلسية". تحت هذا العنوان يشرح البروفيسور مستوى الاندماج بين المسلمين والفرنج والمنظور الذي يرى فيه كل طرف نحو الآخر.

فالحروب التي قامت في تلك الفترة بين الطرفين حالت دون حدوث قدر كبير من الاندماج فلم تتوسع التجارة – المعروفة بكونها عاملا رئيسا لدمج الثقافات والمجتمعات – إلا بين فئات محدودة. وحدثت في تلك الفترة صداقات بين النبلاء، عدا أنها لم تكن كافية لتخرج ثقافات أكثر تداخلا من ذي قبل، فظلت الفجوة حاضرة ما بين المسلمين والإفرنج. إن الحروب والاستعمار والاحتلال كلها مبررات عداء بين الأقوام، فالحروب الصليبية مثلا كانت أشبه بالحروب الاستعمارية لكن نتائجها لم تكن مشابهة لأوضاع الدول المستعمرة في وضعها ما بعد الاستعمار.

فالاندماج الثقافي غالبا ما يكون حاضرا خاصة في فترات الاستقرار بعد أن كان قسريا وحتميا. ربما يشير البعض هنا إلى اختلاف العناصر المؤدية للحرب ما بين الإفرنج والمسلمين وباقي الدول التي تم استعمارها بالكامل والآلية التي تمت بها العملية. من منطلق أن هناك واقعا ينعكس فيه "حكم القوي على الضعيف" من خلال بديهية امتداد أيادي المستعمرين لمحو ملامح الدولة المستعمرة التي سوف تنصاع بلا حول ولا قوة. وهذا ما حدث بالاستعمار الفرنسي للجزائر حيث أن الجزائر وعلى الرغم من تحررها من أيدي الاستعمار، لا زالت آثار الاستعمار حاضرة فيها في نواح عديدة منها الجانب الثقافي – اللغة تحديدا – فالأهالي والأبناء لا زالوا يتحدثون باللغة الفرنسية في تعاملاتهم اليومية في بعض الأحيان وإلى يومنا هذا. قد يتم طرح بعض التساؤلات هنا تجعلنا ننظر نحو الدمج الحاصل كنتيجة طبيعية أو قسرية في السابق أو هدف مخطط له اليوم في الدول التي قادتها الظروف لتقبل وجود ثقافات وأقوام تختلف عنها اختلافا جذريا؛ فتعيش بعض شعوب العالم اليوم أزمة حروب بالوكالة وحروب أهلية وتدخلات خارجية لأسباب مختلفة مؤدية للإضرار بطبيعة الحياة لسكان هذه الدول. ويعد الشعب السوري إحدى ضحايا هذه الحروب التي أدت لهجرة سكانها لدول مختلفة وتحديدا الدول الأوروبية. وتعتبر ألمانيا من أوائل الدول التي شرعت أبوابها لهؤلاء المهاجرين "المسلمين" وسارعت باستقبالهم على الرغم من أنّ التهديد يعد حاضرا فيما يتعلق بالصدام الثقافي المحتمل بين السكان الأصليين والمهاجرين بسبب الخلفية العقائدية والثقافية والاجتماعية التي أتوا منها. ومن هذا المنطلق يحق لنا أن نتساءل عن ماهية الأسباب التي دفعت ألمانيا لاستقبال اللاجئين. تشير الأرقام والإحصائيات وفقا لمؤشر الأمم المتحدة في معدلات المواليد والتركيبة السكانية لدولة ألمانيا إلى انخفاض في معدلات المواليد منذ عقد ونيف مما يجعل قمة الهرم السكاني أكثر اتساعا من قاعدة الهرم – التي تعكس الفئات العمرية  الصغيرة (الأطفال تحديدا).

حيث إنّ المشاكل الناتجة في عدم اتزان الهرم السكاني – الافتراضي – تتمحور حول عدة أمور لها صلة بزيادة الفئات العمرية غير المنتجة على الفئات المنتجة في المجتمع. وبالعودة لتفحص الأوضاع في ألمانيا من الجلي أنّ شيخوخة السكان تعد تحديا لألمانيا في كيفية مواجهة المستقبل والاستمرار على مستوى عال من الإنتاجية مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى؛ فمسألة الأيدي العاملة أصبحت تلوح في الأفق، ومنها خلقت الحاجة لأيدٍ عاملة أجنبية. وبالطبع لا يعد هذا عنصرا وحيدا لفتح الأبواب أمام اللاجئين عدا أنه من الأسباب الرئيسية والمهمة التي أدت لاتخاذ هذا القرار. وكان على متخذي هذا القرار أيضا الالتفات لمسألة تشويش الهوية واندماج الثقافات، فالصدام في هذا الجانب قد يخلق إشكاليات داخلية يصعب تجاوزها، وحينها تكون الأمور قد خرجت عن السيطرة. إنّ العجز في ألمانيا وصل لنسبة 3% بين المواليد مقارنة بمعدلات الوفيات في مرحلة ما بالإضافة لتدني معدل الخصوبة لتصبح من بين أقل الدول خصوبة عالميا. ويترتب على هذا الأمر تراجع في أعداد ومخرجات التعليم بسبب عدم وجود عدد كاف من الأطفال. من جهة أخرى هناك تزايد في معدلات التقاعد بنسبة تفوق الأطفال الملتحقين بالمدارس؛ مما يعني زيادة في أعداد المسنين الذين يحتاجون للرعاية والتأمينات الصحية التي ستأخذ حصة كبيرة من ميزانية الدولة. ناهيك عن مسألة الإنتاج والاستهلاك المحلي والضرائب من ناحية أخرى.

تشكل هذه المسائل كلها ولا سيما الأخيرة منها أمرا فائق الأهمية وتحديدا في الدول التي تعتمد على الضرائب في بناء متطلبات السكان الأساسية من تعليم وصحة وخدمات البنى التحتية. ومن هذا المنطلق كانت الوجهة الرئيسية للمهاجرين في دولة ارتأت في استقبالهم حاجة ملحة لتحقيق المصلحة القومية، فيتم سد الفجوات الناتجة من التركيبة السكانية للسكان الأصليين بالمهاجرين. ومن جانب آخر لم تغفل أيضا عن مسألة خلق كل الفرص الممكنة لتسهيل عملية الدمج بين اللاجئين والألمان لدرجة تقديم تسهيلات تستهدف من يريدون الزواج من المجتمع الآخر؛ حيث أنّه من صالح أي دولة أن يتم الدمج الكامل – على الرغم من صعوبته - بين الأطراف لمنع تشكل مجتمعات موازية بداخل المجتمع الواحد. فمن شأن ذلك أن يخلق تنافسا بينهم لأن كل ثقافة تمتلك نمط حياة مكتمل له جوانبه المختلفة من تعليم وثقافة ودين وسلطة كذلك. ومع مرور السنوات وتزايد أعداد اللاجئين الذين سوف يصبحون مواطنين في دولة ديموقراطية، يسير الأمر نحو مسألة من يمتلك السلطة مستقبلا في حال تحقق سيناريو المجتمعات الموازية. فكانت الحكومة الألمانية سباقة في تفادي ذلك عبر تسهيل بل ودفع المجتمعات للاندماج. وعليه، نرى أن مسألة دمج الثقافات - مستندين على بعض التجارب التاريخية المحدودة - تشير إلى أنّ الأمر يعتمد على السلطة ما إذا ارتأت أن تخلق الفرص أم الحواجز أمام هذه المحاولات.

 

أخبار ذات صلة