قيس الجهضمي
يتناول مايكل كوك في مقالته بعنوان "هل الحرية السياسية قيمة إسلامية؟" تحليلا لمفهوم الحرية في النطاق السياسي بما يخص الدولة الإسلامية عن طريق تحليله للوقائع التاريخية، إذ يرى أنَّ معظم المجتمعات البشرية تبتكر العلاقة التقابلية بين السيد والعبد، وأن هذه العلاقة راسخة في ملكات البشر الذهنية يقيمونها على مماثلات كثيرة في حياتهم، وإن كان توزيع السلطة بين الطرفين غير تناظري كعلاقة الزوج بالزوجة، ومنها نختص هنا بعلاقة الحاكم بالمحكوم فليس بالضرورة أن يكون المحكوم عبدا حسب المفهوم العام، ويستدل بذلك بواقعة في الأندلس حينما أراد ابن حفصون أن يثور على حكام الأندلس العرب قال في كلمته للأندلسيين من غير العرب "أريد أن أحرركم" مشيراً ضمنياً بأن العرب استعبدتهم وهم في الحقيقة أحرار.
يذهب مايكل كوك إلى التفريق بين ثقافتين، فثقافة تقوم بصنع هذه المماثلة بشكل غير تنظيمي وهامشي، والأخرى تجعل منها مماثلة مركزية وجوهرية في مجالها السياسي، وقذ ذكر الكاتب أن تيتوس ذكر في كتابه "تاريخ روما" أن مهتمه رسم تاريخ شعب حر يكون حكامه موظفين لدى الدولة يعملون على تطويرها كمثال على الحرية السياسية بأوروبا، وفي بحثه عن أمثلة لشعوب مارست الحرية السياسية يجد أن شعب دولة واجو قد صنعوا قديما هذه الحرية السياسية بعد أن اخترق أحد حكامهم بندا من بنود حريات الناس، لذا اتفق هذا الشعب على بنود حريات تخصهم تشهد عليها آلهتهم وهي أن لا يتدخل أحد في أمنيات الآخرين، وحرية التعبير، وحرية التنقل كيفما شاءوا بالبلاد، لذا يخلص الكاتب إلى أن دعوى فكرة الحرية السياسية ليست مخصوصة بأوروبا فقد كانت موجودة بشعوب أخرى.
ويرى كوك أن معظم التيارات الإسلامية كان يحضر فيها مفهوم العبودية على أنه وضع يجنب تجنبه، لكن لم يوجد حضور خاص لمفهوم الحرية في هذه التيارات باعتباره وضعا تتوق إليه، وبهذا الأمر يخلص إلى أن الحرية ليست قيمة إسلامية أصيلة، ومن الأمثلة الجلية في هذا الشأن قصتا مبعوثي رستم ربعي بن عامر الذي قال له بأننا جئنا لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله عزّ وجلّ، والمغيرة بن شعبة الذي حين أقبل جلس مع رستم على سريره ووسادته فلما أنزلوه وعنَّفوه قال وكان أحسن مما صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، ويتجلى لنا من هذين المثالين أن هناك صيغة خطاب تدل على وجود نزعة المساواة لدى العرب. وفي الخطاب الديني، الكل عباد لله وليس هناك بشر عبيد لأحد بحسب رأي كوك، وكان سبب تشكل هذه النزعة لدى العرب هو البيئة المعوزة لديهم ومستوى المشاركة السياسية العالي داخل القبيلة وغياب التراتبية الشكلية بينهم، وحينما نشأت الدولة الإسلامية تميزت بثلاث سمات: كان الحاكم عادلا، ولم يكن الحكم وراثيا، وكان كل أصحاب الدولة سواسية بمعنى ما، فيرى الكاتب فكرة أن المسلمين شعب حر غير موجودة وإنما الفكرة أن على المسلمين أن يعاملوا بأنهم أحرار.
وقد قيض للحكم الاستبدادي التوريثي بعد الخلفاء الراشدين أن يسود، لذا يرى باراني أن من شأن السلطان أن لا يستقيم أمره من غير هيبة وجلال السلاطين، بيد أن القيم المعادية للاستبداد وللسلطة التوريثية التي كانت مع السياسة المبكرة ما كان لها أن تصير منسية بل كانت جزءا من الإرث الإسلامي، وفي محاولة للكاتب للمقاربة بين هذه القيم والقيم الأوروبية يرى أنه لا يوجد مفهوم خاص للحرية السياسية بالدولة الإسلامية يمكن أن نتعاطى معه، كما أنه يضع تصور الشيوعية لنزعة المساواة القائمة بين الحاكم والمحكومين داخل الدولة الإسلامية بدل تصور الديموقراطية، ويرى كوك أن فكرة الحرية السياسية عبرت للعالم الإسلامي من خلال حملة نابليون على مصر وبيانه الذي أعلن به الجمهورية بأنها الحرية والمساواة، بينما يذهب خير الدين باشا إلى أن "الحرية السياسية" تطلب من الرعايا التداخل في السياسات الملكية، وهي الوضع الفطري بين المسلمين.
وقد كان أبو الأعلى المودودي من المفكرين الإسلاميين الذين كانوا ضد قيم الاستبداد والاستئثار بالسلطة فقد ركز على حدود مطالب الخلفاء الراشدين وأن تنصيبهم ما كان وراثيا، ووصف الملكية بأنها ضد الإسلام وذكر عن ورع الخلفاء وعفتهم عن المال العام وقد أفلح المودودي في إيجاد سمات في الدولة الإسلامية تتعاضد مع قيم السياسة الحديثة، أما سيد قطب فحسب رؤية كوك كان مفتونا بالسمة الجمهورية مقابل السمة التوريثية، وهو يذهب مذهب الحاكمية الإلهية ولا سلطة لبشر على البشر، لكنه على عكس المودودي لا يبدي حماسة لفكرة الديموقراطية، وقد قام قطب بصياغة نزعة مساواة صارمة تتجاوب مع القيم السياسية الحديثة وكان يستعمل مصطلح التحرير بمعنى إخراج الناس من عبوديتهم للناس، وكلاهما كانا يرسخان أفكارهما بالعودة للقيم السياسية لدولة الإسلام الأولى، ويستنتج كوك من هذا التحليل بأن هناك صلة وثيقة بين قيم الدولة الإسلامية وقيم التقليد الأوروبي، وأن مفهوم الحرية السياسية كان حضوره ضمنيا في الدولة الإسلامية.
ويتساءل كوك هل الأناس الأحرار يمكن أن يستبدلوا شرع الله بشرائع يضعونها تكون من اختيارهم تتناسب مع واقع حياتهم، ليجد أن هذا هو الذي يتخوف منه الكثير من المفكرين وهو أن تطلق الحريات وتترك بلا قيود، فيرى أنه من الممكن في هذه الحالة إيجاد طريق وسط يكون فيه لا تنازل فيه عن قيم الإسلام الأساسية وبين الحرية الغربية، ويذهب أيضًا إلى أن القلق من فكرة الحرية البشرية في عالم يملكه الله جنحت بالمسلمين إلى عدم التحمس لإعطاء الحرية المنزلة المركزية من أنظارهم السياسية، وكذلك كان المسيحيون أيضا رغم أنهم تحرروا من الخطيئة فهم يعدون أنفسهم عبيدا لله خاضعين له، ويقول جون ميلتون "لكي يكون شعب ما شعبا حرا فإنه ينبغي عليه ألا يخضع إلا للقوانين التي اختارها هو بنفسه"، وبحسب رؤية كوك فإن سلطة القدوة التي كانت تحظى بها دولة الإسلام المبكر لدى الخلف ما كانت تكفي لإنشاء تقليد نسقي للفكر السياسي للدولة، وأرى أن الدولة الإسلامية كانت معنية بالحرية السياسية وإن انعدم المفهوم، فغياب النقيض يعني حضور النقيض الآخر المتجلي في الممارسة الواقعية، إذ نجد الكل محكومين بنفس القانون الذي يرى فيه كوك أنه نزعة مساواة بينما يرى فيه الآخرون غير ذلك مثل أن تكون عدالة أو نزعة للديموقراطية السياسية، فعليه يمكن أن نرى في نظام الشورى إحدى أنظمة ممارسة الحرية السياسية الإسلامية منذ النشأة بنص من القرآن "وأمرهم شورى بينهم" فهي من أعلى ممارسات الحرية السياسية التي قامت عليها أيضا الدولة الإسلامية بعدم الاستئثار باتخاذ القرارات وإفساح المجال للآخرين للتعبير عن رأيهم في المواقف التي تتعرض لها الدولة.
