مواجهة الانهيار في ظل الكوارث البيئية
تأليف: لوك سيمال
عرض: سعيد بوكرامي
هل يقف عالمنا، اليوم، على حافة الانهيار؟ سؤال ملح ومفزع، يطرح منذ عقود خلت وأنتج نظرياتمتعددة وحراكا علميا وبيئيا ومجتمعيا. الآن يكاد الجميع خصوصا مع جائحة كورونا وتداعياتها الرهيبة يجمع على أن نظريات الانهيار العالمية كانت على صواب عندما دقت ناقوس الخطر لمرات عديدة، لكن تحذيراتها كانت لا تجد آذانا مصغية، بل كانت تُوَاجه في كثير من الأحيان بسخرية واستخفاف واستهجان. صحيح أن البشرية أصبحت أكثر تطورا من الأزمنة الغابرة، لكن الوجود الفعلي للمخاطر البيئية التي تهدد البشر صارت عوامل ملموسة ومنها الجوائح الوبائية التي قد تعجل بالانهيار السريع والشامل. ومن بين هذه النظريات المتنبئة بحدوث كوارث مستقبلية نجد التيار العلمي المسمى بـ"علم الانهيارcollapsologie" الذي يستند إلى معطيات علمية وحقيقية نتجت عن ظواهر بيئية تعيشها الكرة الأرضية منذ عقود ومن أمثلتها استمرار الاحتباس الحراري واستنزاف الموارد الأحفورية وتآكل التنوع البيولوجي والانتشار النووي المتزايد والجوائح الوبائية عقدًا بعد عقد. أليس الانهيار إذن نهاية منطقية لهذا الاندفاع المتهور؟ منذ التحذيرات الأولى في السبعينيات إلى المناقشات المعاصرة حول الأنثروبوسينAnthropocène، يتتبع الباحث لوك سيمال ظهور وتطور التعبئة التي تواجه حركية النمو الصناعي واحتمال الانهيار العالمي. ومن بين البراهين التي استند إليها التحذيرات التي تبرهن على تغير المناخو الذي ترتب عنه تداعيات كارثية، وكذلك التدهور البيئي: عندما صار استهلاك المجتمعات للموارد الطبيعية يفوق قدرة الأرض وتزايد الأوبئة وإصرارها على التحول والانتقال على نطاق واسع.
كانت هذه الكتابات حول الكوارث المتوقعة مدعاة للنقد والحصار والتسييس، لكن في السنين الأخيرة لم يعد المجتمع الإيكولوجي ينظر إلى نظريتهم على أنها افتتان وهوس بالكارثة،وإنما باعتبارها فكرًا بيئيا ووعيا سياسيًا يفضي بالضرورة إلى استخلاص النتائج المنذرة بالخطر والعمل الدؤوب على التحسيس بخطورتها والحيلولة دون وقوعها. تقوم هذه الحركات الفكرية والبحثية بإعادة اختراع المشاريع البيئية بين الاعتدال العقلاني والكوارث المتوقعة. من خلال نضالاتهم وتجاربهم المحلية، تحدد هذه التعبئة في ظل الكوارث الخطوط العريضة لمجتمعات بيئية وديمقراطية تتجاوز استنزاف البيئة وخطر الانهيار التام.لقد شهدت السنوات القليلة الماضية انتشار الخطابات الكارثية التي تغذيها مؤشرات دالة على نهاية العالم، والتي تقدم تشخيصات قاتمة لمستقبل الكوكب ومستقبل البشرية. وعندما لا يتم اختزالها إلى انجذاب نحو هوس مرضيّ بدنو الكارثة، غالبًا ما يتم انتقادها بصفتها تفكيرا غير عقلاني وغير سياسي، وبالتالي هي خطاب مناهض للديمقراطي. على الرغم من أن هذه الانتقادات لا أساس لها من الصحة، يسعى لوك سيمال في هذا العمل إلى إعادة النظر في شرعية التفكير في الكارثة، من خلال وضعها في سياق تاريخ الأفكار البيئية والسياسية من السنوات 1960-1970 إلى المناقشات الحالية حول الأنثروبوسين وعلم الانهيار، وتعزيز إمكاناتها الديمقراطية، من خلال أمثلة مختلفة من مبادرات وحركات الناشطين. ومن أجل القيام بذلك، يعتمد على ببليوغرافيا واسعة النطاق، إيكولوجية وفلسفية واجتماعية وسياسية، من أجل تسليط الضوء على العديد من التقاطعات النظرية للسياسات الخضراء. ويرى أن حججها علمية وعقلانية ولا يمكن الآن، لأي شخص كيفما كان مستواه الثقافي أن ينكر بأننا نعيش اليوم اختلالا في التوازن البيئي، مرده بالأساس إلى احتباس المناخ وانفتاق الغلاف الجوي، وتهديد التنوع البيولوجي نتيجة انقراض الكائنات الحية، وتلوث البحار والأنهار، وانتشار التلوث الضوئي، بالإضافة إلى تطور الاتصال والتواصلوالتحول المفاجئ للإنسان إلى عصر رقمي مناقض للواقع الاجتماعي والقيمي والثقافي مما أدى إلى سرعة غير طبيعية في الحياة البشرية وعلى الأصعدة جميعها وكذلك سرعة النمو الديموغرافي وما يفرضه من تغيرات بيئية واجتماعية واقتصادية.
يركز الفصلان الأولان من الكتاب على الأسئلة النظرية للعلاقة بين الفكر البيئي والعلوم السياسية المعاصرة. فيحلل سيمال الصعود المشترك لعلم البيئة وعلم الكوارث منذ بداية الستينيات، ثم انحسارهما في الثمانينيات، تحت الدوافع المؤسسية للقضايا البيئية، من أجل مساءلة طرائق المشروع الديمقراطي في المجتمعات الحديثة عندما تواجه هذه الأخيرة أزمة بيئية غير مسبوقة. وهذا ما سمح للمؤلف بتقييم مقاربة معينة للكارثة البيئية، والتي أعادت تركيز النقاش حول تأثير حدود الحتمية للموارد الطبيعية على الهياكل السياسية.وهنا تكمن أهمية حجة سيمال، التي تعيد مقاربة النظرية الكارثية (تنسب إلى الكوارث الأرضية ما وقع من تغيرات جيولوجية وحيوية على سطح الأرض)، ليست كأداة بسيطة، أو فكر غير مبال بمواجهة الانهيار، ولكن كأيديولوجية قد تسمح على الأرجح للديمقراطية بإعادة اختراع نفسها. وهذا يتطلب جدولة زمنية قصيرة وطويلة الأمد، وكذلك خططا لمواجهة الحتمية وإعادة التفكير في الطرق التي نشكل بها المشاريع السياسية التي تقوم عليها المجتمعات الحديثة. إن ظهور الديمقراطية حدث في سياق مشروع "النمو والتقدم والوفرة" (ص 72) وقد كان ممكنا لأن الموارد الطبيعية اللازمة لهذا النمو كانت تعتبر غير محدودة. الآن الرهانات مختلفة تمامًا: يتعلق الأمر الآن بمسألة "إخراج مشروع ديمقراطي أكثر تواضعا من الناحية المادية، وأكثر عدالة اجتماعيا، وأكثر تكيفًا مع القيود البيئية للعالم المادي، وأكثر ديمومة" (ص 73). إن مثال البترول، وموارد الطاقة التي تمثل بامتياز نموذج مجتمع الوفرة، ويبدو هنا جليا: سيكون من الضروري إدراك أن البترول يشكل موردًا محدودًا وأن هذه النهايات تعني أنه من المشروع طرح مسألة الاستخدام السليم لهذه الموارد (ص 110). يعتقد الكاتب بأن تأثير النشاط البشري قادر الآن على إحداث تأثير كبير وعالمي على المحيط الحيوي والجيولوجي في كوكبنا، ويعود إلى أصل مصطلح الأنثروبوسين الذي اقترحه العالمان بول كروتزن ويوجين ستورمر في عام 1995. هذا المصطلح هو حاليا موضوع مناقشات داخل المجتمع العلمي. وقد أصبح شائعا بالتوازي مع تخصصات العلوم الإنسانية التي تعتبره أداة للتفكير في طبيعة الإنسان وأسلوب علاقته بالعالم الحديث. ومن أجل إبراز مدى تعقيد مثل هذا المشروع، يماثل سيمال بين حياة الأفكار وحياة الأفعال. ويقدم أمثلة ملموسة عن تعبئة وسيرة النشطاء الذين يواجهون البعد الكارثي للأزمة البيئية الحالية. و تأتي معظم هذه الأمثلة من فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة من خلال: حركة الانهيار الفرنسية، التي بدأت في عام 2001، وحركة المدن الانتقالية البريطانية التي انبثقت في عام 2004. ومن بين التجارب التي ساقها كمثال، نذكر تجربة العالم روب هوبكنز، مدرس الزراعة المستدامة في جامعة كينسالي، الذي دفع طلابه إلى إنجاز تجربة نزول الطاقة المحلي في كينسالي في 2004-2005. ومدد هوبكنز المشروع في العام التالي إلىتوتنيس، التي أطلقت مبادرة"المدينة الانتقالية"،وكانالهدف من هذه الحركة الاجتماعية هو ضمان مرونة المدينة "، أي قدرة المجتمع المحلي على امتصاص صدمة التخلي عن النفط، وبالتالي اختبار نهاية طاقة وفيرة وجيدة في الأسواق، دون أن يغرق المجتمع في الفوضى "(ص 127).سيمال يحدد مسار المناضلين في تطور الإيكولوجيا السياسية في العقود الأخيرة بأنهم يأتون أيضًا بشكل رئيسي من فرنسا والمملكة المتحدة، حتى وإن ذكر النشطاء الأمريكيين، من خلال أعمال العالم السياسي دوغ ماك آدم على سبيل المثال. لا يمكن بالتأكيد لهذه المجموعة المحدودة من الأمثلة أن تأخذ في الاعتبار بشكل كامل النطاق الواسع للتعبئة البيئية ذات البعد الكارثي التي تعيد التفكير في السؤال المزدوج للأزمة البيئية والمشروع السياسي الديمقراطي. ومع ذلك، تظل الأمثلة التي اختارها سيمال ذات صلة لأنها توضح بجلاء عدم التجانس والاستمرارية داخل الحركات البيئية. وهكذا، فإن حركة تراجع النمو و المدن الانتقالية تؤكد من جديد على التفكير في الحدود والنهاية، ولكنها تختلف عن التكتيكات المستخدمة بحيث تحوّل مطالبها إلى مشاريع سياسية. وبالمثل، فإن اللقاء بين جيل رائد يعيش نهاية حياته النضالية، بنوع من الشعور بالفشل والخيبة، وجيل جديد من المناضلين الذين يعتقدون أنهم سيكونون شاهدين على الكارثة، يُعَقّد المشهد الحالي للناشطين في مجال البيئة.
تكمن الأصالة الفريدة لهذا العمل في الفصلين الأخيرين، اللذين يثريان بانوراما حياة الناشطين البيئيين من خلال تحليل مزدوج للعواطف والكتابات التي عبروا عنها ضمن عمليات التعبئة ذات البعد الكارثي. وتحضر عاطفة الخوف من دمار العالم في مقدمتها، وهي عاطفة غالبا ما تقلل قيمتها أو تقمع كمصدر محتمل للذعر والشلل في مواجهة الكارثة. لهذا يتحول إلى خوف عقلاني مسيج بخطط ومسارات سياسية، ثم تصبح مصدرا للوعي فيما يتعلق بحجم الكارثة الوشيكة. بشكل عام، فإن ما يسمى بالعواطف السلبية (اليأس والغضب...) مرتبط بـتثمين "الصدمات الأخلاقية"، لأنها محرك قوي في حشد الأسباب الجماعية. نفهم إذن، في سياق الكارثة البيئية، كيف يمكن لمشاعر القلق أو الإحباط من قصور السياسات المؤسسية على خلق تعبئة ديناميكية بشكل خاص، لمواجهة التحديات البيئية الجسيمة والتي جعلت من الإنسان في ظل الجوائح والكوارث كائنا هشا وغير لازم للنظام البيئي، لأنه لا يعتبر إلا مصدر ضرر ودمار،ويجدر بالطبيعة أن تتخلص منه.
ثم يوضح سيمال أنه إذا كانت هذه العواطف تولد مثل هذه القدرة على التعبئة، فذلك لأنه تم تأطيرها بمنطق سردي " يقصد الكتابات عن نهاية العالم" الذي يديم الإيمان بالتمزق الإيكولوجي والتحول العالمي، الذي يفرض الحد من التنافر المعرفي الذي يصاحب التزامات السياسة البيئية. في الواقع، يجد كل مناضل نفسه عالقًا في ملزمة بين قناعته بالعيش في فترة تمزق من جهة، ومن جهة أخرى بين الحياة اليومية والسياق الاجتماعي حيث يبدو أن لا شيء يأخذ بعين الاعتبار مقياس الحاجة الملحة لهذا التمزق. وعليه، فإن الوقائع التي يتم سردها توضح الصلة بين الأيديولوجية والخبرة الفردية؛ فهي تشارك في خلق المعنى في ديناميكيات التعبئة. بالإضافة إلى توفير تحليل لظروف تطور وتلقي هذه السرود عن نهاية العالم بدءا من العهود القديمة حينما تنبأت الحضارات القديمة بذلك،والتي تجمع بين المعطى السوسيولوجي والرمزي، تنعكس اليوم على معطيات حديثة إذ نجد سيمال يربط بين السرود الاستعادية والاستباقية حول مرونة المجتمعات المحلية وتعاملها مع النقص في الموارد وتوقعها للكوارث الطبيعية (ص 313).
إنّ كتاب مواجهة الانهيار ليس عملا متشائما؛ لأنّ التحليل الذي يقدمه سيمال واضح، سواءً فيما يتعلق بالتحديات المادية التي تفرضها الأزمة البيئية التي لا يمكن إنكارها، أو على مستوى تعقيد الأجوبة التي تفرض علينا الاعتراف بالحقيقة لمواجهة تداعياتها الجسيمة. يعترف الكاتب إن إعادة التفكير بعمق في ديمقراطية عالمية تضامنية، يعنيالخروج من خطاب التقدم والوفرة والرخاء للتحرك نحو أفق ما بعد الثروات الأحفورية وما بعد النمو الصناعي والعمراني، وهذه ليست مهمة سهلة؛ لأن عدم اليقين الذي يميز هذا الأفق لا يساعدفي أي شيء. ومع ذلك، يُظهر لنا سيمال أن الدروس التي يمكننا استخلاصها من تاريخ الكوارث البيئية ستكون حاسمة وقادرة على تنشيط وتجديد علاقتنا بالطبيعة وتحيين الأنظمة القانونية والتشريعية للحد من الاستنزاف اللامحدود للموارد الطبيعية لأن الأرض التي نحيا فوقها ليست ملك البشر الحاليين وحدهم، بل هي أمانة في أعناقنا للأجيال القادمة. لهذا يجب أن نحافظ على النظام البيئي ونبتعد عن الأنشطة المدمرة لتوازنه، ومنذ الآن وقبل فوات الأوان.
--------------------------------------------------------------------
الكتاب: مواجهة الانهيار في ظل الكوارث البيئية
المؤلف: لوك سيمال
الناشر: دار بيف، باريس، فرنسا
سنة النشر:2019
عدد الصفحات:361 ص
