«سيكولوجية الأوبئة»

41nrCjrjFRL._SX355_BO1,204,203,200_.jpg

تأليف: ستيفن تايلور

عرض: علي الرواحي

تأتي أهمية هذا العمل من الأوضاع الراهنة التي تجتاح العالم، وتحديدا مع انتشار فيروس كورونا كوفيد19، إلا أنه يعود بالذاكرة إلى الإنفلونزا الإسبانية قبل ما يقارب العقد من الزمان والتي حدثت عام 1918م، حيث أدت تلك الأنفلونزا إلى وفاة ما بين 50 إلى 100 مليون شخص حسب الإحصائيات الرسمية المنشورة. ففي تلك الفترة أُغلقت المدارس والمسارح، واللقاءات الاجتماعية تم حصرها، كما أنّ الكنائس أغلقت أيضاً بالرغم من الاحتجاجات الواسعة من قبِل رجال الدين. في تلك الفترة تسارعت الأحداث بشكل درامي فائق السرعة، فالمرض ينتشر في الصباح ثم تحدث الوفيات في المساء، إذا أخذنا بالحسبان الوضع الصحي في تلك الفترة، والبيئي، وتحديدا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى.

وبين تلك الفترة الموغلة في البُعد التاريخي، والفترة الراهنة هناك الكثير من النقاط المشتركة التي تتجاوز الحدود الجغرافية، والزمنية، والعرقية؛ ذلك أن وباء الإنفلونزا بحسب التصريحات الحالية لمنظمة الصحة العالمية هو أحد الأوبئة التي تهدد العالم في الفترة الراهنة، ففي هذه الفترة تزداد مقاومة الميكروبات مع تزامن ظهور إنفلونزا جديدة ممرضة للغاية، الأمر الذي يثير المخاوف من انتشار أمراض أخرى وتفشيها على المستوى العالمي.

علاوة على ذلك، فإن مسببات الأوبئة بشكل عام، تُعتبر معقدة، ومتشعبة. فالعامل الأساسي يعود إلى وجود حاضنة رئيسية مثل الفيروس أو البكتيريا، أو بعض الأمراض في الشخص، أو البيئة المحيطة به. غير أن هذا الحاضن بشكل عام يقابل هذا الفيروس بمقاومة تعتمد على عدد ٍ معين من الظروف، مثل: المناعة، الحالة النفسية التي عن طريقها يعُزز الشخص الحاضن للفيروس، أو يقاوم مخاوف العدوى الواقعية. فالعوامل البيئية مختلفة، وكثيرة، منها ما يعزز هذه الحضانة، ومنها ما يعرقلها، أو يقاومها، من خلال وجود استراتيجيات مختلفة للحاضن.

بنظرة بسيطة، يقول ستيفن تايلور مؤلف هذا العمل والطبيب والأستاذ الجامعي، وعلى مدى اثني عشر فصلاً من التحليل والبحث، والرجوع بالذاكرة التاريخية التي يسعى من خلالها للإحاطة بالمسائل التاريخية، والنفسية، المؤدية لانتشار الفيروسات، والآثار النفسية المصاحبة لها، ليس على الأفراد فقط، بل وعلى مؤسسات الدولة المختلفة، فإن انتشار الأوبئة المعدية ليست عبارة عن حشرة، أو فيروس ينتشر تلقائيا حول العالم، بل يعود في جزء كبير منه إلى حالة من تفاعل المجتمع النفسي، بما يُمكنه من لعب دور أساسي في انتشار الفيروس، واحتوائه في نفس الوقت، بما يضمن توسعه عن طريق الضيق النفسي، والخوف المنتشر بين المجتمع. فعندما يسيطر الخوف وينتشر بين أفراد المجتمع على نطاق واسع من تفشي العدوى، فإننا نجد ردود أفعال واسعة، وغير منتظمة من المجتمع. غير أنّ هذه الردود المختلفة والمعقدة من الضروري أن تؤخذ بالحسبان لفهم آلية انتشار الأوبئة. كل فيروس أو وباء يعتبر مصدرا لأوبئة مختلفة قادمة، وهو ما يُفسر إلى حد كبير وجود صلة وثيقة بين فيروس سارس، وفيروس إيبولا، وغيرها.

في التعريف، نجد أنّ الجائحة هي انتشار مرض معد على نطاق واسع يصيب الملايين من الأشخاص في الكثير من بلدان العالم. كما أنّ الفيروسات أو البكتيريا من الممكن أن تكون سبب هذه الإصابات بسبب عضوي لأولئك الذي لديهم مناعة قليلة، أو يتم من خلالها تناقل المرض بسهولة من شخص لآخر.

في هذا السياق، فإن التطرق لبعض الجوائح الشهيرة التي أصابت البشرية يصبح ضروريا لفهم الكثير من العوامل، حيث نجد أن جائحة الموت الأسود أو الطاعون الأسود أو الاسم العلمي يرسينيا الطاعونية، الذي انتشر في الفترة من 1346م إلى 1353م، أودى بحياة ما يقارب من 50 مليون شخص إلى 100 مليون على مستوى العالم.

كما انتشرت في بدايات القرن الماضي العديد من الجوائح التي كان بعضها معديا، وقاتلا بشكلٍ غير مسبوق. مثل الإنفلونزا الإسبانية بين عامي 1918م إلى عام 1920م والتي راح ضحيتها ما يزيد عن 40 مليون شخص، وقبل ذلك الإنفلونزا الروسية بين عامي 1889م-1890م والتي أنهت حياة مليون شخص أيضا، والإنفلونزا الآسيوية بين 1957م-1958م والتي راح ضحيتها ما يقارب المليون والنصف إنسان إلى مليونين، وإنفلونزا هونغ كونغ 1968م- 1969 وقد تجاوزعدد ضحاياها مليون نسمة.كما لا يمكننا نسيان إنفلونزا الخنازير بين عامي 2009م و2010م، التيأودت بما يقارب 18 ألف نسمة.

مهما يكن فإننا أمام مسميات كثيرة لهذه الجوائح، والأوبئة، فإنها تنتقل بشكل واسع عن طريق الطبيعة، كما أنها غالبا ما تنتقل بشكل سريع عن طريق الحيوانات المصابة بالإنفلونزا إلى الإنسان، غير أنه ليس من السهل التنبؤ بحدوث الوباء القادم. فبحسب البحوث والتقارير فإنه مهما تطورت طرق المراقبة البشرية المختلفة، ليس من السهل تجنب هذه الأوبئة والجوائح المفاجئة.

كما أنّ هذه البحوث أشارت وبحسب توقعات منذ فترة ليست بالقصيرة إلى أن هذه الأوبئة تنشأ من بعض سلالات إنفلونزا الطيور، أو عن طريق توافق سلالات طيور مختلفة، كما أنه من الضروري معرفة بأن هذه الأوبئة القادمة لا يمكن تلافيها، وتتسم بالشراسة والفتك، وذلك بسبب ضعف المناعة الحالية مقارنة مع الفيروس الجديد، ويعود السبب في ذلك إلى جملة من الشروط، منها: الازدحام الكبير في المدن، والنقل المتسارع بين المناطق المختلفة والمتباعدة، وبهذه الطريقة تنتشر الجوائح والأوبئة كالنار في الهشيم، ليصل إلى كل زاوية في هذا الكوكب.من المحتمل بهذا المعنى أن يصاب بهذا الفيروس الملايين، ويفتك بعشرات الألوف من البشر في كل بقاع الدنيا.متوسط طفرة الجينات – كما يوضح مؤلف هذا العمل يعتمد على الكثير من التقارير- أو إمكانية إعادة ترتيبها تتسم بالصعوبة، إن لم تكن مستحيلة، وذلك للوقوف في وجه هذه الفيروسات، أو لتجنبها.

وبالرغم من ذلك، فإن بين هذه الجوائح، والإنفلونزا الموسمية نقاطا مشتركة، ومتشابهة، ولكن هناك أيضا نقاط اختلاف جوهرية. فالجائحة من الممكن أن تنتشر في الأوقات العاديةللإنفلونزا الموسمية، كما أنها من الممكن أن تحدث في أوقات الشتاء المعتدلة وأوقات الصيف أيضا. من الضروري معرفة أن بعض الانفلونزا وبخاصة الإسبانية تفتك بالمرضى بشكل سريع، خاصة المتقدمين في العمر، حيث أنها قتلت أعدادا هائلة من البشر في وقت قصير، فكانوا يمرضون في الصباح ويلقون حتفهم في مساء اليوم، أو في ظهيرة اليوم الثاني، أو في طريقهم للعمل.

من الجانب الآخر، يتسم الحديث والتعامل مع الأوبئة والجوائح بعدم اليقينية، والكثير من الارتباك، حول الأسباب الفعلية، والجدية للعدوى وانتقال الفيروس بين البشر، كما تظهر شائعات كثيرة، ويحدث سوء فهم حول طريق العلاج والشفاء. فمن الممكن أن يأتي الوباء على شكل موجات متعددة، وليس مرة واحدة. فالعدوى تحدث بسبب جزئي من التقلبات في التجمعات البشرية، وذلك بسبب التقلبات الموسمية الجوية، وبسبب التواصل مع الآخرين من الجانب الآخر. فعلى سبيل المثال فإن الإنفلونزا الإسبانية جاءت على ثلاث موجات مختلفة.

غير أن هناك عوامل نفسية وسيكولوجية مختلفة تساعد على انتشار هذه الجوائح، ومنها الضغوط النفسية، بما يشمله من خوف على النفس وعلى الأحباب المحيطين بالشخص. فربما يكون هناك اضطراب شديد في الروتين اليومي للأشخاص، أو بسبب العزل أو التفرقة بين أفراد الأسرة الواحدة والأصدقاء، أو نقص في الغذاء والأدوية، وانقطاع الأجور أو تقليصها، أو تطبيق التباعد الاجتماعي والجسدي بين الأفراد، ووضع بعضهم في الحجر المنزلي لتفادي نقل العدوى بينهم. كما أن الخوف ينتاب البعض من تعرض بعض العائلات لسوء التغذية، ونقص في الطعام إذا لم يتوفر شخص ما للتسوق، والطبخ بسبب هذه الأوضاع الاستثنائية. علاوة على ذلك، فإن الضائقة المالية من الممكن أن تحدث بسبب مرض الفرد الرئيسي المُعيل للأسرة، وهو ما حدث بشكل كبير إبان الإنفلونزا الإسبانية حيث إنّ التجار عانوا من الضائقة المالية بسبب تغيب العُمال عن الحضور للعمل في الأسواق، أو تزايد المخاوف من التعرض للمرض وانتقال العدوى. فمن الممكن أن يكون تأثير الخوف من حدوث الضائقة المالية، والعجز الاقتصادي، مساويا ً في تأثيره للعدوى ذاتها، وخاصة لدى بعض الأشخاص الذين لديهم تجربة مريرة مع المشاكل الاقتصادية، ويخافون من العودة إليها، والعيش في آثارها.

تشير المذكرات الشخصية للكثير من الحالات التي عانت من هذه الأوبئة، والتي يعود إليها المؤلف بشكل مستمر، إلا أن الرعب الداخلي، والقلق الكبير من رب الأسرة على أفراد عائلته يساهم بشكل كبير في الإرهاق الداخلي، وتزيد نسبة المرض، حيث إنّ الشك الداخلي من الممكن أن يؤدي إلى عدم القدرة على مزاولة العمل، وبالتالي انقطاع الدخل المالي على أفراد الأسرة؛ الأمر الذي يؤثر على الوضع الصحي، والغذائي بشكل عام.كما أنها تشير أيضا ً إلى أن وفاة أحد المقربين، من الممكن أن تساهم في زيادة الذعر الداخلي، وانتظار وصول المرض والوفاة إلى الشخص ذاته، وهو ما حدث لدى الكثير من الأفراد في وقت الإنفلونزا الإسبانية.

من جانب آخر، فإنّ بعض المهاجرين إلى الكثير من الدول يقعون فريسة للكثير من الصدمات التي تنتابهم بسبب هذه الجوائح، وذلك بسبب النقص الكبير في تلبية الاحتياجات من جهة، وربما الوضع المالي المتدني من الجهة الثانية، ويتعلق بشكل كبير بالعادات المتبعة لها، حيث إنّ بعض المعتقدات الدينية تقتضي دفن الموتى، أو حرقهم في الديانات الأخرى، وفي حالة الوفيات الكثيرة، يصبح توفير مثل هذه الشروط لكل الجاليات بتعدد اعتقاداتها المختلفة صعباجدا، إن لم يكن مستحيلا، الأمر الذي يثير النزاعات، والحنق، ويولد شعورابعدم المساواة بين الجميع من قبل النظام السياسي، مقارنة مع توفير كل الحاجيات للأغلبية في البلاد.

من التحديات النفسية الكثيرة التي تساهم بدرجة أو بأخرى في انتشار هذه الأوبئة والجوائح، هو مستوى النظام الصحي، والرعاية النفسية والعضوية للمرضى. وهذا يرتبط بشكل مباشر بقدرة هذا النظام على استيعاب المرضى، والتحكم في هذه العدوى، وضبط انتشار الفيروس في عدد محدد. كما يرتبط أيضا بنسبة كبيرة في نقص كفاءة وفاعلية الممرضين والطاقم الطبي في التعامل مع هذه الأحداث التي تُعتبر مستجدة، وغير مسبوقة في الكثير من الدول. وهو ما يؤثر على العاملين في القطاع الصحي بشكل كامل، حتى تصلهم العدوى، ويصابون بالمرض وبالتالي تقل قدرة هذا النظام الصحي على استيعاب الحالات المرضية الجديدة. وهذا يؤدي إلى فشل وإخفاق النظام الصحي بسبب ارتفاع موجة المصابين الجدد ودخولهم المستشفيات.

من الممكن أن تصل هذه التحديات النفسية وما يستتبعها من تحديات كثيرة متتالية إلى القطاع الاقتصادي، والبنية التحتية للبلاد، فمع الانتشار المتزايد للمرض أو الهلع والخوف منه، والتشكيك الزائد من انتقاله، يصبح الأشخاص عاجزين عن الوفاء بالتزاماتهم المختلفة، بما فيها الوصول للعمل، الأمر الذي يساهم في انهيار الخدمات الأساسية، وعدم تأدية الأدوار المهنية المنوطة بهم. ففي بالتيمور خلال الإنفلونزا الإسبانية – على سبيل المثال – تراكمت القمامة في الشوارع بسبب غياب عُمال الصرف الصحي، وهذا خلق مشكلة جديدة لاحقا، فمن المتوقع لهذه الأسباب وغيرها، أن يصل مجمل الخسائر الاقتصادية الى ما يزيد عن 34 مليار دولار حسب بعض الإحصائيات التي يعتمد عليها هذا العمل.

وربما السؤال المهم يطرح من جديد، حول كيفية انتقال هذه الأوبئة، وانتشارها بين الأشخاص. فالشبكات البشرية تعتبر هي العامل الأساسي والكبير لتناقل هذه العدوى، فهي تنتشر بسهولة، وسرعة فائقة، بسبب استنشاق الهواء المتطاير من السعال، أو بسبب قطرات العطاس المنتشرة في الأماكن المغلقة. كما أنّ لمس الفم، والأنف، أو العين كلها مسببات رئيسية لهذه العدوى. مما ينتج لاحقا عن وجود أسطح عامة ملوثة، يسهل عن طريقها تناقل العدوى بين الأفراد، مثل: الأبواب، الأسوار، أسطح الطاولات، أو حتى الألعاب التي يستخدمها الأطفال. غير أن ما يجعل هذا الانتشار سريعا هو الكثافة السكانية مع تناقل الهواء الملوث وبشكل خاص في المدن الكبيرة، التي تتوفر فيها مواصلات مزدحمة، يتم استخدامها من قبل عدد كبير من السكان.

ففي هذه الحالات نجد أنّ بعض الأفراد يساهمون بشكل كبير في انتقال العدوى، حيث يطلق عليهم "الناشرون للعدوى"؛ فبحسب النماذج المبدئية المتوفرة لدى مراكز البحوث، فإنّهم يساهمون بنقل العدوى بنسبة 80% في بداية انتشار الوباء، ولذلك العديد من الأسباب، أهمها: أولاً: انخفاض المناعة لديهم، وثانيا لا يلتزمون بالنصائح، والوقاية الصحية اللازمة، مثل تغطية اليد أثناء السعال، وثالثا عن طريق التواصل المباشر والمستمر مع الكثير من الأفراد الذين يجتمعون معهم عن طريق اللقاءات الاجتماعية، أو التجمعات المهنية والوظيفية، مثل: موظفي الطيران، وعُمال المطاعم، وغيرهم.

         وللوقاية من الأشخاص الذين ينشرون الوباء بسرعة كبيرة، نجد أنّ استراتيجية مناعة القطيع من الممكن أن تساهم في تقليل هذا الانتشار، أو كما تعرف أيضا مناعة المجتمع، والتي تعود إلى الحماية غير المباشرة من انتشار العدوى والتي تحدث عندما تصبح النسبة الكبيرة من السكان قد اكتسبت المناعة والتي تحمي بقية السكان من الإصابة. ففي عام 2003م عند انتشار فيروس سارس فإنّ فترة الحضانة كانت من يومين إلى 10 أيام. حيث إن بعض الحالات تم تشخيصها على أنّها سلبية في المراحل الأولى، ثم لاحقًا وبعد مرور فترة طويلة تم اكتشاف أنّها حاملة للفيروس، بعد أن قامت بنشر العدوى في المنطقة السكنية والتجارية المجاورة.

-----------------------------------------

الكتاب: سيكولوجية الأوبئة

المؤلف: ستيفن تايلور

الناشر: منشورات جامعة كامبريدج، 2019م.

عدد الصفحات: 175

لغة الكتاب: الإنجليزية

 

أخبار ذات صلة