«الانعكاس الكبير: كيف استسلمت أمريكا للأسواق الحرة»

Picture1.png

توماس فيليبون

محمد السالمي

يحاول الخبير الاقتصادي الكبير توماس رفيليبون في كتابه الأخير "الانعكاس العظيم: كيف تستسلم أمريكا للأسواق الحرة "تسليط الضوء على أن العديد من المشكلات الرئيسية للاقتصاد الأمريكي لاترجع إلى عيوب الرأسمالية أوحتمية العولمة بل إلى تمركز قوة الشركات وذلك عبر القضاء على المنافسة العادلة.

فلو تساءلنا لماذا خطوط الهاتف الخلوي في الولايات المتحدة أغلى بكثيرمنها في أوروبا؟ للبحث عن إجابة، أخذ توماس فيليبون في رحلة من البحث والتنقيب عن القضايا الأكثر تعقيدًا والمناقشات الساخنة في الاقتصاد الحديث. في النهاية، وصل استنتاجه: إلى أنَّ الأسواق الأمريكية، التي كانت ذات يوم نموذجًا للعالم، تتخلى عن المنافسة الصحية. القطاعات الاقتصادية المختلفة أصبحت أكثر تمركزاً مقارنة بماكانت عليه قبل عشرين عامًا، حيث يسيطرعدد قليل من اللاعبين، والذين يسعون بقوة لحماية وتوسيع هوامش ربحهم. وبالتالي، يُؤدي هذا إلى ارتفاع الأسعار مع انخفاض الاستثمار والإنتاجية والنمو وكذلك الأجور، والذي بدوره يؤدي إلى مزيد من عدم المساواة. وفي المُقابل، فإنَّ أوروبا التي تم استبعادها منذ فترة طويلة بسبب ضعف تنافسية الشركات وضعف مكافحة الاحتكار، تتغلب على أمريكا في لعبتها.

وللتعريف بالمؤلف توماس فيليبون فقد شغل العديد من المناصب الأكاديمية والاستشارية؛ فهو يعمل كأستاذ للعلوم المالية في كلية ستيرن للأعمال بجامعة نيويورك، كما يعمل مستشارًا أكاديميًا لمعهد هونغ كونغ للبحوث النقدية. وكان سابقًا مستشارًا لبنك الاحتياطي الفيدرالي. وقد فاز توماس بجائزة Bernácer  لأفضل خبير اقتصادي أوروبي والتي تمنح بالتنسيق مع البنك المركزي الأوروبي.

 

يتألف الكتاب من خمسة عشر فصلاً موزعة على أربعة أجزاء: الأول، صعود قوة السوق في الولايات المتحدة. يبين مؤلف الكتاب في هذا الفصل أن جوهر الرأسمالية هو المنافسة. ولكنه فقد بريقه من احتكار القلة، والذي أدى بدوره إلى عدم المساواة وانخفاض الاستثمارات والإنتاجية للشركات الأمريكية. الجزء الثاني، يتحدث فيه عن التجربة الأوروبية لزيادة المنافسة، حيث يخصص فصلا للمقارنة بين الولايات المتحدة وأوروبا. أما في الجزء الثالث، فيتحدث عن الاقتصاد السياسي، وفساد النظام السياسي الأمريكي وشراء النفوذ. أما الجزء الرابع، فيضرب أمثلة عن الصناعة في الولايات المتحدة ويُسلط الضوء على بعض عمالقة التكنولوجيا والرعاية الصحية.

فلو نظرنا في أسعار النطاق العريض في الولايات المتحدة، فإنها تمثل ما يقار بضعف ماهي عليه في الدول المتقدمة. كما أن أرباح شركات الطيران لكل مسافر هي الأعلى أيضًا في الولايات المتحدة منها في الاتحاد الأوروبي. يوضح هذا التحليل، على نطاق أوسع، أن حصص السوق أصبحت أكثر تمركزا وأكثر ثباتًا، بل إن حصة الأرباح بعد الضرائب من إجمالي الناتج المحلي للولايات المتحدة قد تضاعفت منذ التسعينيات. هناك عدة أسباب لزيادة تمركز السوق. ففي مجال التصنيع، لعبت المنافسة مع الصين دوراً كبيرا فيدفع المنافسين المحليين الأضعف إلى الخروج من السوق.

كما أن هناك تفسيرات أخرى لتكملة الجزء الآخر من القصة. في التسعينيات من القرن الماضي، دفعت الشركات الكبرى مثل عملاق التجزئة Walmart، معدل نمو الاستثمار والإنتاجية إلى الأعلى. ومع بداية القرن الحادي والعشرين، أدى ارتفاع تمركز السوق إلى ارتفاع أرباح هذه الشركات الراسخة، كما شهدت انخفاضا متزايدا في دخول شركات جديدة لبعض القطاعات، وزيادة التساهل مع نشاطالاندماج مع الشركات الكبرى. وبعبارة أخرى، شهد الاقتصاد الأمريكي انخفاضًا كبيرًا في المنافسة وارتفاعًا مماثلًا في الاحتكار أواحتكارالقلة.

ومن ثم يتحول الكتاب إلى مقارنات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. سيجاد لكثيرمن القراء: أليس الاتحادالأوروبي كارثة اقتصادية؟ عندما يقارن المرء التغيرات في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد، فإن الجواب هو: ليسبالفعل. فمنذعام 2000 حتى عام 2017، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للفرد في كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بنسب متقاربة، على الرغم من الأضرارالتي لحقت بأزمتهاالمالية والتي تم التعامل معها بشكل غير كفء. كما أن مستويات عدم المساواة والاتجاهات في توزيع الدخل أقل سلبية وأكثر توازنا في الاتحادالأوروبي.

 

باختصار، المقارنات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لها مايبررها. وعلى افتراض أن التكنولوجيا هي المحركالرئيسيللتحول ودعم النمو، لاحظ توماس أن اقتصاد الاتحادالأوروبي ليس أقوى من جميع النواحي، ويمكن دحض هذا الافتراض. فعلى العكس من ذلك، لدى الولايات المتحدة جامعات أفضلونظامبيئيأقوىللابتكار،ابتدأً من رأسال مال الاستثماري إلى الخبرة التكنولوجية. ومع ذلك،أصبحت المنافسة في أسواق المنتجات أكثر فاعلية في الاتحاد الأوروبي على مدارالعقد ينأوالثلاثة عقود الماضية.

أحد الافتراضات الرائعة هو أنا لاتحاد الأوروبي أنشأ هيئات تنظيمية أكثراستقلالية مُقارنة بالولايات المتحدة.هذه نتيجة صحية لانعدام الثقة المتبادل داخل الاتحاد الأوروبي. وهذا مفيد بشكل خاص للبلدان ذات الهيئات التنظيمية الوطنية الضعيفة. كما أن استقلالية الهيئاتالتنظيمية في الاتحادالأوروبي تجعل العودة إلى ممارسة الضغطمن قبل الشركات أو السياسيين منخفضة نسبياً. هذه التطورات تعكس الاختلافات في السياسة. إن الضغط، سواء ضد إلغاء التنظيم أوالتنظيم المواتي الذي تهيمن عليه الشركات الكبيرة، هو أشد ضراوة في الولايات المتحدة.

يرى المؤلف من خلال البيانات المتعلقة بدور المالفيا لسياسةالأمريكيةعلى أنها أكثردراماتيكية. حيث تضغطالشركات أكثرمن مرتين إلى ثلاث مرات في الولايات المتحدة من الاتحاد الأوروبي؛ حيث تزيد مساهمات الحملة 50 مرة في أمريكاعنهافيالاتحادالأوروبي. كما تطرق الكتاب أيضًا إلى وضع ثلاث صناعات مهمة وتتمثل في: التمويل والرعاية الصحية والتقنيات. فيما يتعلق بالتمويل، فإن النتيجة المذهلة هي أن تكلفة الوساطة أي مقدار الرسوم التي يتقاضاها المصرفيون والوسطاء مقابل المدخرات وتحويلها إلى المستهلكين النهائيين، ظلت بنفس النسبة لمدة قرن من الزمان، ومع التطور التكنولوجي فهي لم تحدث فرقًا. أما على نطاق الرعاية الصحية، فتنفق الولايات المتحدة أكثر بكثير على الرعاية الصحية حيث لاتقل كثيرا عن مس الناتج المحلي الإجمالي، ولديها نتائج صحية أسوأ بكثير من أي دولة أخرى ذات دخل مرتفع!. كيف حدث هذا؟ الجواب هو أن النظام خلق احتكارات لاستخراج الأموال من الأعلى إلى الأسفل، فالأطباء والمستشفيات وشركات التأمين وشركات الأدوية منخرطون جميعًا في المعضلة.

حدد المؤلف عدة خيارات لكيفية التعامل المحتمل مع شركات مثل جوجل، وأبل، وفيس بوك، وأمازون وغيرها من الشركات الكبرى. أبرزها هو منعهم أو وضع العراقيل من الاستحواذ على الشركات الناشئة الصغيرة كوسيلة لاقتحام المنافسة المحتملة ف يوقت مبكر.

يشير توماس أيضًا إلى أنه من الحظ الوفير على ملاك الشركات الناشئة أن يتم الاستحواذ عليهم من الشركات العملاقة. ولكن يجب التأكيد على أن المنافسة في كثير من الأحيان هي منفعة عامة نستفيد منها جميعًا ولكن ليس من مصلحة أي فرد حماية الاحتكار .كما أن السبب الذي يجعل كثيرا من الشركات الناشئة تميل لعدم الاتجاه نحو الاكتتاب العام بسبب وجود المزيد من التمويل الخاص بل هناك المزيد من المرونة للحصول على التمويل دون الإعلان عن الجمهور. أبرز الأمثلة في استحواذ فيس بوك على واتساب.

يشير توماس إلى أن أبرز نتائج كتابه تتمثل في الآتي: أولاً، أصبحت الأسواق الأمريكية أقل قدرة على المنافسة؛ حيث إن الصناعات أصبحت أكثر تمركزا، ومعدلات أرباحها عالية بشكل كبير. ثانياً، أضرهذا الضعف في المنافسة بالمستهلكين والعمال الأمريكيين؛ فقدأدى ذلك إلى ارتفاع الأسعار وانخفاض الاستثمار وانخفاض نمو الإنتاجية. ثالثًا، لقد أدى انخفاض التنافس على زيادة الحواجز أمام دخول منافسين جدد للسوق وضعف إنفاذ قوانين لمكافحة    الاحتكار، مدعومًا بضغط كبير ومساهمات سياسية في الحملة. وبذلك يختتم توماس فيليبون بثلاث توصيات: أولا، يجب أن نكافح من أجل تخفيض العراقيل أمام الشركات الناشئة من حيث البدء والتوسع. ثانياً، إذا لم تكن الحكومة مذنبة مطلقًا في الإفراط في التنظيم، فهي ليست منظمة بما فيه الكفاية. وأخيرا، حماية الشفافية والخصوصية وملكية البيانات.

يحتوي الكتاب على بعض أوجه القصور الطفيفة. أولاً ، من الجيدإضافة نقاش أكبر حول تأثير الاحتكار المتزايد على الاقتصاد والرفاه الاجتماعي. ثانياً، لقد تطرق المؤلفللتركيز الاقتصادي المتزايد في قطاع المستشفيات، لكنه يتجاهل نفس المشاكل في صناعة التأمين.وأخيرًا، والأهم من ذلك، ما هو تأثير الاحتكار المتزايد على السياسة النقدية والمالية بشكل عام؟ حيث تفترض نظرية الاقتصاد الكلي الحالية إلى حد كبير أن الاقتصاد قادر على المنافسة بشكل أساسي. في الواقع، يعتمد منطق الأدوات الكلية على هذا الافتراض، ولكن إذا كان الاقتصاد هو احتكار القلة، فقد لا تعمل الأدوات الكلية القائمة على النحو المنشود وقد تؤدي إلى نتائج عكسية.

أكد توماس فيليبون في هذا الكتاب المهم والمثير للجدل أن أمريكا لم تعد هي موطن اقتصاد السوق الحرة، فالمنافسة ليست شرسة أكثرمنها في أوروبا، والجهات المنظمة لها ليست أكثر نشاطًا، كما أن محصولها الجديد من الشركات الكبرى لايختلف اختلافًا جذريًا عن سابقاتها. وعلى الرغم من خلفيته الفرنسية، والتي يتميز بها عن أقرانه الاقتصاديين بالأبعاد الاشتراكية في أطروحاتهم، فإن الكتاب حاز إعجاب النقاد والقراء على حد سواء.

 

الكتاب: الانعكاس الكبير: كيف استسلمت أمريكا للأسواق الحرة

المؤلف:Thomas Philippon

الناشر: Harvard University press

سنة النشر: 2019

عدد الصفحات:368صفحة

اللغة: الإنجليزية

 

أخبار ذات صلة