تأليف: نيكولا بانسيل
عرض: سعيد بوكرامي
تتداعى الأسئلة عن إرث المرحلة الكولونيالية وتأثيرها على مجريات الأحداث والتغيرات الحاصلةفي مرحلة ما بعد الكولونيالية، وكذلك حول أهمية التاريخ الكولونيالي في الكتابات التاريخية والأرشيف والأدب، كلما احتدم النقاش المتعلق بالمهاجرين القادمين من المستعمرات السابقة... لذلك يستمر التاريخ الكولونيالي وما بعد الكولونيالي موضوع نقاش جدلي على المستوىالسوسيو ثقافي.إن الغرض من دراسات ما بعد الكولونيالية بالتحديد هو إعادة قراءة هذا التاريخ من خلال السعي لفهم كيف أثّرت الكونوليانية تأثيراً عميقاً على المجتمعات المستعمِرة والبلدان التي كانت مستعمَرة.ومن هنا تكتسب هذه الأسئلة شرعيتها: كيف تترسخ العنصرية الكولونيالية؟ ما هي عواقبها اليوم؟ هل مازالت مستمرة في العلاقات الجيوسياسية والاقتصادية غير المتكافئة؟وللإجابة على هذه الإشكاليات يتصدى نيكولا بانسيللهذه الأسئلة، وأمور أخرى تصبّ في السياق ذاته، باستخدام أمثلة ملموسة، تلقي الضوء على الأفكار التي طورتها دراسات ما بعد الكولونيالية، و كذا استكشاف مساهمتها، و أيضًا حدودها التي تجلت في عثراتها.
منذ إنشاء منشورات "كوسيج"في عام 1941وهي تقدم أروع وأعمق الدراسات المواكبة لمجالات متعددة ومتشعبة.وقد حددت لنفسها هدفا أكاديميامن بينه اقتراح معايير أو على الأقل أدوات منهجية تساعد على فهم الكثافة المفاهيمية لمجالمعين محدد بدقة متناهية واستجابة لطلب معرفي اجتماعي (مثير للجدل في كثير من الأحيان)، ولهذا الغرض توكل إلى المتخصصين المعترف بهم البحث في أحد هذه المجالات باختصار ودقة وإحاطة علمية ومعرفية. يعد هذا المجلد الجديد الذي ألفه المؤرخ الفرنسينيكولا بانسيل امتدادًا لما كتبه مارسيل دوريني في كتاب "تحرير العبيد "في عام 2018، والذي يجسد إرادة بحثية في الفضاء العام الفرنسيلتعميق المعرفة بالصلات بين المرحلة المعاصرة والماضي الكولونيالي، ومقاربتهما من الزوايا الاجتماعية والسياسية والقانونية.في هذا الصدد، يقدم هذا المجلد تحليلًا موجزًا للطلب الاجتماعي، الذي خلفته دراسات ما بعد الكولونيالية في الفضاء الأكاديمي الفرنسي. وحسب نيكولابانسيل، فإن أفكار ما بعد الكولونيالية تم تعبئتها تدريجيًا كمناقشات تتعلق بـ"الماضي الكولونيالي لفرنسا [...] أو بعلاقة الجمهورية بالإسلام [...] وهي اليوم في الآن نفسه موضوع نقاش محتدم داخل الفضاء العام، ولكن أيضا داخل الجامعة "(ص 3).
ينخرط المؤلف مع المؤرخين باسكال بلانشارد وساندرين لومير في مواجهة الموروث الفرنسي عن الكولونيالية، لتقديم أسئلة عما بعد الكولونيالية في المجال الأكاديمي والفضاء العام الفرنسي. وبشكل أكثر تحديداً، مع إنشاء وزارة الهجرة والتكامل والهوية الوطنية وتنمية التضامن في عام 2007 (التي تم حلها عام 2009) - كردّ سياسي لأعمال الشغب التي وقعت في عام 2005 – خلال رئاسة نيكولا ساركوزي، التي أعادت تنشيط أسئلة ما بعد الكولونيالية في فرنسا بشكل دائم. باختصار، أدت أعمال الشغب التي وقعت في عام 2005 أو المناقشات المتكررة حول الحجاب إلى إعادة إحياءالخطاب الكولونيالي. يعتبر هذا الكتاب إذن تذكيرا مهما، في الوقت الذي شكل فيه أقصى اليمين في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية لعام 2017، ووسائل الإعلام جبهة ضد الحجابالإسلامي والهجرة والضواحي وبالتالي صار هذا الاحتدام مجسات لتقييم الجمهور حيث لا يزال الخطاب السياسي يسهم إلى حد كبير في وصم بعض المواطنين الفرنسيين بسبب أصولهم العرقية.
يخصص الفصل الأول، لـ "أصول دراسات ما بعد الكولونيالية"،بحيث يتوقف عند تناقض بيّن: إذا كنا نتحدث بشكل متكرر عن إدخال هذا التيار إلى فرنسا، فإننا ننسى أصل منظريه الأوائل، من الفرنسيين أو القادمين من مستعمرات الإمبراطورية الفرنسية. في الواقع، وُلدت دراسات ما بعد الكولونيالية من كتابات المارتينيكي إيمي سيزار وفرانز فانون،والتونسي ألبرت ميمي، ومن نصوص جان بول سارتر حول الثورة الجزائرية، ومن كتابات ميشيل فوكو أو جاك دريدا. في هذا الفصل الأول، يشير بانسيل إلى أن تفسير الباحثين الهنود في سبعينيات القرن العشرين لخطابات رواد الفرنكوفونيين، هي أصل دراسات ما بعد الكولونيالية.
إن الأصول التي أعاد نيكولا بانسيلتشكيلها بطريقة ملفتة تعيد إلى الأذهان أهمية نقد الكولونيالية الفرنسية في الفترة ما بين 1950-1960 كمادة للدراسات ما بعد الكولونيالية، وبالتالي تبديد بعض حالات سوء الفهم المتعلقة باكتشاف حقل دراسات في فرنسا، بينما هو في الأساس موجود سلفا باللغة الإنجليزية. وقد ساهم الحماس والطاقة اللذان رافقا ترجمات وإعادة إصدار الأعمال التأسيسية مثل أعمال إدوارد سعيد أو ستيوارت هول أو ديبيش تشاكرابارتي أو بول جيلروي أو أرجون أبادوراي، في التمييز بين التيارات، التي ترتبط بالتأكيد فيما بينها، ولكن في كثير من الأحيان تختلف في موضوعاتها: دراسات فرعية، دراسات ثقافية، دراسات أفريقية أمريكية أو دراسات محلية تم وصفها في بعض الأحيان على أنها تنويعات عن دراسات ما بعد الكولونيالية. لذلك يشرع بانسيل في التوضيح من خلال وصفه للدراسات ما بعد الكولونيالية، ونتائجها.
بعد تحديد هذه الأسئلة التأسيسية، يدرس نيكولابانسيل الأعمال التي رسمت المعالم الأولى لما بعد الكولونيالية كحقل للمعرفة. ويعني بذلك الأدب المقارن، من خلال أبحاث إدوارد سعيد،الذي أتاح إمكانية تشكيل موضوع بحث لما بعد الكولونيالية. كان السؤال الأول في أبحاثه المقارنة يتعلق بالتمثلات الناتجة عن الهيمنة الكولونيالية. ونحيل هنا على كتابه الاستشراق (1978)، يتساءل إدوارد سعيد عن التصورات التي نقلها الخيال كعامل جيوسياسي. يذكرنا بانسيل هنا أن مساهمة سعيد تكمن في احتواء فئات الخطاب الغربي عن الشرق وإدراجها في نظرية أطلق عليها مصطلح "الاستشراق": وهي مجموعة من "التمثلات [...] من شأنها أن تكون مظاهر ثقافية تعبر عن رغبة الغرب في السيطرة على العالم "(ص 32). وبعبارة أخرى، هذه التمثلات هي التي تشحن الممارسات السياسية، وتبقي العلاقات الكولونيالية سليمة.
من خلال تحليل دور التمثلات التي طورها الغرب في القرن السابع عشر في علاقاته الجيوسياسية مع دول الشرق وآسيا، طرح إدوارد سعيد قواعد معرفية جديدة: "تقترح دراسات ما بعد الكولونيالية تجاوز المخلفات التسلسلية القديمة - للتاريخ القديم، والتاريخ الوسيط، والتاريخ الحديث، والتاريخ المعاصر - الذي نظم مفهوم المختبرات، ومن ثم أفق المؤرخين "(ص 38). إن دراسة النطاق الجغرافي السياسي للتمثلات الأدبية التي بدأها إدوارد سعيد وجدت إذن امتدادات في علم التأريخ، حتى أنها أدت إلى إعادة تشكيله من خلال تغيير جذري في مقارباتها. هنا مرة أخرى، ينتقل المؤلف إلى الأصول بحيث يبرز أن "المدة الطويلة" التي تصورها فرناند بروديل عام 1949 تمت إعادة تناولها من طرف رواد الدراسات ما بعد الكولونيالية، بدءًا من ملاحظة أن "زمن استكشاف الأراضي غير المعروفة من قبل الأوروبيين، ثم غزو هذه الأراضي واستعباد السكان غير الأوروبيين، يمثل بداية حقبة جديدة قامت ببناء التاريخ حتى اليوم "(ص 38). هذه المقاربة الديناميكية تجعل من الممكن "تجاوز التسلسل السياسي لإنهاء الكولونيالية" (ص 40)، لدراسة التحولات وحقيقة استمرار الكولونيالية في اللغة والممارسة السياسية.تبرز قوة الانتهاك الزمني أيضًا حقيقة أن "الفترة الكولونيالية، دون أن تكون مرحلة عابرة، هي جزء لا يتجزأ من الصيرورة الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية" (ص 39). وهكذا، فإن ما بعد الكولونيالية لا تتساءل حقا عن "بعد" الكولونيالية بقدر ما تهتم بمظاهر ديمومتها وطفراتها. إن هذه مساءلة البعد الزمني يعطي دراسات ما بعد الكولونيالية قوة نقدية لإجراء تحقيق جذري، بمعنى أنها تقع بين تطوير منهجية علمية ومشروع سياسي. "إن التفكيك المنهجي والمعرفي للأنظمة المجسدة للهيمنة، من شأنه، أن يُمكّننا من خلق عالم جديد، خالٍ من خبث العنصرية والتمييز" (ص 43). ينشأ الموقف المعرفي هنا من اليقظة الأخلاقية والسياسية التي تهدف إلى بناء معرفة جديدة، ولكن أيضًا إلى استعادة التوازن، إذا اعتبرنا أن التركات الرئيسية للاستعمار هي أنظمة خفية على التحكم ومتغلغلة في نخب ذات نزعة يمينية أو متطرفة.
يستكشف الفصل الثاني ما الذي يجعل دراسات ما بعد الكولونيالية ذات بعد إنساني متجدد. في المقدمة، يتذكر نيكولا بانسيل أن إحدى "الأفكار الأساسية" للدراسات ما بعد الكولونيالية، هي "التشكيك الجذري في الطموح المتكرر لأوروبا نحو الكونية، والذي لم ينفذ مطلقًا في المناطق الكولونيالية، حيث تتجسد دونية "السكان الأصليين" بوضوح مع مبدأي الحرية والمساواة "(ص 14). من هذا الانحراف عن المبادئ الإنسانية يأتي بالتحديد الإرث المؤلم للاستعمار، الذي يظل مع العبودية موضوع إشكالي في الولايات المتحدة وأوروبا وبريطانيا العظمى. تواجه هذه البلدان الجوانب الملموسة لهذه الموروثات التاريخية، سواء كانت عدم المساواة الاجتماعية والتمييز والعنصرية التي تؤثر على مجتمعات المستعمرات السابقة، ومعاملتهم في إطار السياسات العامة معاملة إقصائيةعن تطوير البرامج المدرسية، والاعتراف الثقافي، وتطوير القدرات الذاتية.
يؤدي تحليل العلاقات بين التاريخ والذاكرة مباشرة إلى ما يجسد عمق صعوبة الدراسات ما بعد الكولونيالية: سيطور الفصل الثالث هذا الجانب بناء على تحليلات ما بعد الكولونيالية على "أساس الأبعاد النفسية للاستعمار وشخصية المستعمَر ص 79"، والتي أسستها تحليلات فانون، وميمي أو إيمي سيزار. لا يمكن أن تقتصر تركات الكولونيالية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي:فهي تتعلق أيضًا بتجربة معاشة منسوجة من الصراعات السياسية. يعود هذا الفصل على وجه الخصوص إلى العمل التأسيسي لعالم الاجتماع الهندي آشيس ناندي الذي يستكشف الاستعمار باعتبارها تجربة من اللقاءات والمواجهات، في كتابه(العدو الحميمي) الذي نُشر عام 1984. ويؤكد بانسل أن الاضطرابات (ص 79-85)، وحالات الفصل بين التقليد والحداثة مظاهر مصطنعة، وهي ناجمة عن نية الكولونيالية في زرع الخلافات والفتنة والاستمرار في فرض الهيمة والتبعية "إن الدراسات ما بعد الكولونيالية، عمقت بشكل خاص دراسة تعقيد المزيج الثقافي للمجتمعات المستعمرة" (ص 88).إن الأمثلة التي استشهد بها المؤلف تجد صدى فريدا في أخبار كرة القدم الفرنسية حيث ترتبط بالنجاحات أوالإخفاقات التي يعاني منها منتخب كرة القدم بالأصول الاجتماعية العرقية للاعبين. التغيير في النبرة ملحوظ بين انتصار كأس العالم في عام 1998 التي دفعت الفرنسيين إلى الحلم باجتماع مختلط بين "أسود، أبيض، وهجين" ولكن في عام 2018، مع وضع المهاجرين في البحر الأبيض المتوسط والحركة الناشئة للسترات الصفراء، اتخذ لونًا خاصًا. وأصبح ما حدث في عام 1998، من حماسة الانتصار، وإعادة إحياء القيم الوطنية الفرنسية، مجرد مظاهر اجتماعية سريعة الزوال."سيستغرق الأمر أكثر من مجرد انتصار في ملعب لكرة القدم، لتنظيف قمامة التاريخ وإعادة كل شخص، بما في ذلك اللاعبين الشباب، إلى إنسانيتهم الكاملة. لذلك كانت العنصرية الكولونيالية لا تزال موجودة في الجدل الإعلامي، ولا سيما بسبب سوء سلوك اللاعبين أو أصولهم أو أسلوب حياتهم" (ص99).
تشير خاتمة الكتاب إلى حقيقة أساسية وهي أن ظهور دراسات ما بعد الكولونيالية في فرنسا، في المجال الأكاديمي أمر متناقض لأن هذه المناهج تم تلقيها، إما بتجاهل للخلفية التاريخية للاستعمار الفرنسي الذي غذاها، أو عن طريق استخدام مصطلح "سحر النصوص وغرابتها "، ولا سيما النصوص الأدبية (ص 100-119). وهذه مشكلة محورية وثابتة: بحيث تتم إضاءة الصراعات السياسية المعاصرة بنصوص قادمة من ماضٍ جسيم غالبًا ما يتعمد تجاهله وإخفاؤه. يمكن فهم هذه الفصول الثلاثة على أنها مجموعة أدوات للدفاع عن النفس ثقافيا في خضم راهن أوروبي مضطرب ثقافيا وسياسيا واقتصاديا يَعِد بالكثير من الأزمات.
----------------------------------------
الكتاب: ما بعد الكولونيالية
المؤلف: نيكولا بانسيل
الناشر: منشورات هومنيس " كوسيج" باريس.
تاريخ النشر: 2019
عدد الصفحات: 128 ص
