«قوة اللا عنف.. رباط أخلاقي سياسي»

71E9G5HY0oL.jpg

تأليف: جوديث باتلر

عرض: مُحمَّد الشيخ

تشهد الفلسفة المعاصرة أقوى نزعة "تأنيث" عاشها تاريخ الفلسفة على الإطلاق. فقد أضحت للمرأة الفيلسوفة مكانة متميزة في حقل الفلسفة المعاصرة، وذلك سواء باشتغالها خارج إطار أيّ نزوع فلسفي جنسي، على نحو ما أنت واجد هؤلاء الفيلسوفات -وما أكثرهن!- اللائي يشتغلن في ميدان الفلسفة السياسية أو في مضمار الفلسفة الأخلاقية (يونغ، ناسبوم، حبيب...)، أو حتى في مجالات ظلت لزمن طويل حصنًا حصينًا للرجال، إلى أن سقط أخيرا بين يدي نساء، كما هي الحال بالنسبة إلى مباحث فلسفة اللغة وفلسفة المنطق وفلسفة الرياضيات... أو باشتغالهافي إطار النزعة النسائية المعاصرة؛ شأن المفكرة لوس إريغاراي صاحبة كتابي "الوجه الآخر للمرأة" و"أخلاقيات الاختلاف الجنسي" والفيلسوفة سلفيان أجاسينسكي صاحبة كتب "سياسة الجنسين" و"ميتافيزيقا الجنسين" و"دراما الجنسين"... وغيرهما بالعشرات.

على أنَّ الفيلسوفة الأمريكية المعاصرة جوديث باتلر جمعت بين التوجهين؛ حيث عمدتفي كتابها الأخير، إلى إعادة اقتحام حصن الفلسفة السياسية والحقوقية من جديد، بعد أن كانت قد اقتحمته عام 1997 بكتابها المثير حول "خطاب الكراهية"، وقد تم الأمر هذه المرة بطرح مسألة "العنف" و"عدم العنف"، وذلك بعد أن كانت طرحت في أحد أشهر كتبها مسألة "الاضطراب في الجنس" دفاعا عن خياراتها النوعية. فكان أن جمعت بذلك بين اهتمامات هؤلاء وانشغالات أولئك.

قد يبُدو عنوان هذا الكتاب -قوة اللاعنف (2019)- يحمل في طيِّه مفارقة: كيف يمكن الجمع بين "القوة" و"عدم العنف"؟ وجواب الفيلسوفة أنها تعتقد أن العديد من المواقف تقتضي أن يسكن عدم العنف من النفس البشرية المسكن الأكثر سكينة، حيثما يتخلص الإنسان من المشاعر والأهواء والاستيهامات العنيفة [القوية]. لكن هذا الأمر لا يمكن للإنسان، وإلا خرج عن طور الإنسانية.. إنما هم المؤلفة تلطيف عدوانية الإنسان وتكييفها في أنماط سلوك بحيث تكون فعالة [قوية] دون أن تكون مدمرة [عنيفة]، تأسيا في ذلك بما كان قد ذهب إليه المحلل النفسي النمساوي سيجموند فرويد، من كون الشأن في المدنية أن تروّض الإنسان، وهو العالِم الذي لم تنس أن تخصص له الباحثة فصلا رابعا من كتابها تحت العنوان المثير: "الفلسفة السياسية عند فرويد: الحرب والتدمير والتهوس والملكة النقدية".

مدار كتاب جوديث باتلر على أمر "العنف" و"عدم العنف". والكلمة المفتاح فيه هي "إعادة طرح المسألة". ففي زمان تسمه الفيلسوفة بأنه زمان مطلب "المساواة الجذرية" بات من البديهي أن يتجدد طرح "مسألة العنف وعدم العنف". ذلك أنه في هذا الزمان، غدا السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن للبشر أن يتعايشوا وهم أمسوا، أكثر من أي وقت مضى، يرفعون مطالب متباينة حد التصادم؛ فالتعانف؟ هو ذا سؤال أساس التعايش الذي تدعو المؤلفة البشر إلى تخيل إمكاناته، وذلك عن خيار "العنف" بمبعد. ويمكن تلخيص أطروحتها بهذا الصدد في القول الجامع: أجل، يمكننا ألا نتقاتل وألا نتعانف وألا نتسالب الحياة.

وترى الباحثة أننا لسنا بحاجة إلى تسويغ جديد عقلاني لعدم العنف، فما هو موجود من الحجج كاف. وإنما نحن أولى بالحاجة إلى طرح "مسألة العنف" وعدمه في إطار مختلف، حيث لا يعود السؤال المطروح هو: "ما الذي ينبغي عليّ فعله؟" ـ سؤال الخُلُق الفرداني الليبرالي ـ وإنما هو: "من أكون أنا بالقياس إلى الأغيار؟ وكيف يمكنني أن أفهم هذه العلاقة؟" ـ وهو سؤال الأخلاقيات الجماعية.

الذي عندها بهذا الصدد أنَّه ما إن تصير المساواة الاجتماعية هي الإطار الذي يناقش فيه هذا الموضوع النقاش المستجد، حتى لا يعود التداول الفردي في الحجة العقلية المتماسكة والشاملة لكل الملابسات هو الأمر الأهم، وإنما يصير آنها بالإمكان مقاربة العالَم مقاربة تستبعد العنف ما أمكن، وتسمح لنا بالعيش سوية بالرغم من قوتنا الغضبية وعدوانيتنا الزائدة ورغباتنا المميتة. أكثر من هذا، يصير السؤال المتجدد هو: كيف يمكن لنا أن نعيش سوية ونلتزم بذلك حتى خارج حدود الجماعة والأمة؟

ولهذا السبب، ترى الفيلسوفة أننا في مسيس حاجة إلى تطوير ممارسات سياسية تسمح لنا باتخاذ قرارات حول كيف نبتكر أفضل طريقة للعيش سوية تكون الأقل عنفا. ولهذا علينا أن نقتدر على أن نكشف أنماط ما تسيمه "العنف المؤسسي"، والتي عادة ما تعتبر أنماطا بديهية وغير عنيفة. وعلينا أن نستكشف كذلك كيف أن المؤسسات ومجموعة السياسات المنتجهة عادة ما تلجأ إلى التمييز ـ العنيف ـ بين أنواع حياة مواطنين تعدها نفيسة وأخرى تحسبها خسيسة.

على أن هذه الرؤى تتوقف على معالجة مسألة كيف لنا أن نعرِّف "العنف" في زمن أمست فيه الدولة والجماعات المطالبة بالحقوق تتهم كل واحدة منهما الأخرى بأنها تلجأ إلى استعمال "العنف"، وفي الوقت نفسه الذي بات فيه الكل يدعي القطع مع العنف ويتهم سواه باللجوء إليه؟

وهنا.. تلاحظ جوديث باتلر أن ثمة طريقتين لتناول موضوع "العنف" و"عدم العنف": ثمة الطريقة الشائعة؛ وهي الطريقة الإستراتيجية والتوسيلية التي لطالما تعودنا على التفكير بوفقها. تلك التي يمكن إجمالها في المبدأ التالي: إنما العنف خطوة تكتيكية لوضع حد للعنف. هكذا فكر الكثير ممن تسميهم الفيلسوفة باسم "أصدقائي من اليسار". وهم يرون أن تكتيكات العنف هي السبيل الأوحد إلى تشييد العالم الذين يرغبون فيه. ويعتقدون أنه سيختفي العنف عندما تتحقق النتائج التي يسعون إليها. لكن الحقيقة المرة التي تقف عندها الفيلسوفة ملية هي أن هذا الأمر قد تأدى بالعكس إلى مزيد من العنف. وإذ تقر بأنها ما كانت هي "بالمثالية المجنونة" حتى تعتقد بأن المرء لن يجد نفسه أبدا في موقف لا يضطر فيه إلى اللجوء إلى استعمال العنف، فإن كل ما تسعى إليه ـ وهذا هو الطريق الآخر عندها، والذي ترتضيه لنفسها ـ هو محاولة معالجة السؤال: "أي نوع من العالم ذاك الذي نسعى إلى بنائه مع بعضنا البعض؟".

لقد أمسى مفهوم "العنف" سيالا بدالا قلابا. أكثر من هذا، صارت سمة "العنف" تهمة يلصقها كل طرف بالآخر، حتى أمسى أشبه شيء يكون بما حدث للفظ "الإيديولوجيا" من أنها استحالت من فرط تمييعها تعني "الرأي الذي يؤمن به خصمي"، فكذلك صار بالإمكان القول وقد تميع كل شيء: "العنف هو الموقف الذي يتبناه خصمي". وقد أشهرت الدول تهمة "العنف" في مواجهة كل من شق عصا الطاعة ضد عنفها، من متظاهرين ومعتصمين ومتجمهرين ومقاطعين ومضربين، ساعية إلى شيطنته، وإلى تسويغ إعمال العنف ضده... وهنا اشتكل الأمر اشتكاله: ما بدا في أول الأمر نقاشا حول ما إذا كان المرء "مع العنف" أو "ضده" سرعان ما انزلق إلى نقاش حول كيف يمكن تعريف "العنيف"؟ وكان أن اتهمت الأنظمة كل من يخالفها بأنه "عنيف"، سواء بعنف واقعي أم افتراضي، وإلى حد عَدِّ كل تجمع أو تجمهر أو توقف عملا عنيفا. وهكذا نجد الدولة تحتكر العنف في الوقت الذي تتهم فيه غيرها بالعنف! هو ذا ما تسيمه المؤلفة "الخلط الدلالي" الذي أصاب مفهوم "العنف". وهو ما أدى إلى ما تسميه "النسبية المعممة": الكل عنيف. على أنها تنبه إلى أن القول بأن مفهومي "العنف" و"اللاعنف" مفهومان قلقان متقلبان لا يلزم عنه السقوط في العدمية: كل موقف عنف.

وتفحص الفيلسوفة الأدلة المقدمة لصالح العنف وضده. فترى، من جهة، أن أشهر الحجج التي يقدمها اليسار للدفاع عن الاستخدام التكتيكي للعنف تبدأ بالادعاء أن الناس إنما يحيون، أصلا، في حقل يخترقه العنف. وأن من الترف الأخلاقي مناقشة أمره. فقد قضي الأمر ولا خيرة لنا في العنف من العنف. واعتراض المؤلفة على هذه الحجة: لئن كان العنف يتخذ شكل دوامة -عنف يواجه عنفا- أفهل ينبغي استدامة هذه الدوامة بدل السعي إلى الخروج منها؟ وقد يلجأ المدافعون عن العنف إلى التعلل بحجة أنه دفاع شرعي عن النفس. واعتراضها هنا على هذه الحجة: لو لجأنا كلنا إليها لنشبت حرب أهلية. كل يدعي أنه يدافع عن نفسه. ثم متى تبدأ هذه "النفس"؟ ومتى تنتهي؟ وبهذا تنبري المؤلفة إلى إبطال تسويغات العنف. ومن بينها تلك التسويغات الجماعية والقومية التي تختبئ وراء بعض البحوث في مجال علم النفس الاجتماعي التي تبدو وكأنها تسوغ "حظا من العنف" بغاية تحقيق "لحمة الجماعة"، لا سيما منها الجماعة العنصرية والجماعة القومية. مما ينتهي إلى اعتبار أن حياة بعض الأقوام أسمى من حياة بعض.

من جهة أخرى، من الحجج القوية التي تنهض ضد اللجوء إلى العنف والتي تنتقدها المؤلفة تلك الحجة المبنية على فكرة أنه حين ألجأ إلى العنف ضد السِّوى، فإنني ألجأ إلى العنف أيضا ضد نفسي، لأن حياتي مرتبطة بحياة هذا الغير. وهكذا، فإن أغلب الناس الذين تربوا في إطار التقليد الفرداني الليبرالي يدركون أنفسهم بوسمهم كائنات محددة ومنفصلة جذريا عن ألوان الحياة الأخرى. لكن يوجد تصور آخر علائقي، وليس فردانيا، يراجع هذا التصور، على نحو ما نجده، مثلا، في المنظور الاجتماعي وفي المنظور الإيكولوجي.

وهكذا، ثمة من أهل اليسار من يعلن أن العنف وحده من يملك قوة التغيير الاجتماعية والاقتصادية الجذرية. وثمة آخرون يعلنون، على نحو أكثر تواضعا، بأنه ينبغي للعنف أن يبقى مجرد تكتيك يمكن أن يستخدم مرحليا لإحداث هكذا تغيير. ثم سرعان ما ينشأ خلاف حول الألفاظ: ترى، ما العنف؟ وما عدمه؟ ذلك أن إحدى التحديات الكبرى التي تواجه أولئك الذين يدافعون عن أطروحة عدم العنف إنما هي أن هذين المفهومين مثيران للجدل. وهكذا، مثلا، فإن البعض يعتبر أن الخطابات تعد بمثابة عنف، بينما يجد آخرون أن لا عنف فيها ما لم تحمل تهديدات بيّنة. بينما يقصر البعض العنف على العنف الجسدي، ويؤكد آخرون -ومن بينهم المؤلفة- إلى أن البنيات الاقتصادية والشرعية "عنيفة"، وأن من شأنها أن تؤثر في الأجساد حتى دون أن تتخذ شكل عنف جسدي.

وبعد؛ ما تعريف المؤلفة للعنف؟ وهل يمكن أن نهتدي إلى طريقة لفصل المقال في أمر العنف وعدمه فيما وراء ما بات من استخدام للمفهوم استخداما تكتيكيا؟ لا تشكك الباحثة في أن مفهوم "العنف" أوسع من مجرد مظهره الجسدي:

- أولا: ترى أن كل ما يعرِّض حياة الغير إلى الخطر عن قصد أو إهمال -بما في ذلك السياسات العمومية- إنما هو ممارسة للعنف الذي تسميه "العنف المؤسسي".وتقدم مثالا له بالسجون التي تعتبرها نموذجا للعنف المؤسسي الذي يقدم دوما على أنه مما ليس منه بد. كما تعتبر الحدود الحالية ومراكز اعتقال اللاجئين والمهاجرين مؤسسات عنف.

- ثانيا: من سخرية الأقدار، أن هذه "المؤسسات العنيفة" تدعي أنها إنما تسعى إلى أن تجعل المجتمع أقل عنفا، أو أن من شأن الحدود -وقد أضحت أشبه شيء تكون بالمتاريس- أن تمنع الأشخاص "العنيفين" من الدخول إلى البلاد. هنا ينطبق على إستراتيجيات المؤسسات في "تعنيف الغير" ما يقوله المثل الفرنسي الذائع: "من يبتغي قتل كلبه يتهمه بداء الكلب".

وعليه.. تنصح الفيلسوفة بضرورة الحذر عند التفكير في كيف تستخدم هذه المؤسسات مفهوم "العنف" -مغالطة- في مثل هذه التسويغات. وههنا تقلب هذه المؤسسات الحقيقة إذ تستهدف شرائح من الناس بالعنف وهي تتهمهم بأنهم أصل العنف. وإن لسان حالها ليقول وهي تعنف الناس: "يوجد العنف هناك، وليس ههنا عنف". والأمثلة التي تقدمها على اللاعنف هي الحركة النسائية ونضالها ضد العنف الجنسي، وبعض الحركات الفلسطينية ونضالها ضد الاحتلال، وبعض الحركات التي قاومت الاستعمار مثل حركة غاندي، وبعض الحركات التي تناهض الحرب.

وطيلة فصول الكتاب الأربعة، فضلا عن مقدمته وضميمته، تذكر المؤلفة أننا، في غالب الأحايين، حين نطرح أسئلة أخلاقية، من قبيل: "ما الذي ينبغي علينا فعله؟" و"كيف يمكن تسويغ أفعالنا في هذه الحالة أو في تلك؟"، نتصرف كما لو أن الأمر يتعلق بشخص يبرر سلوكه، أو ما ينتوي فعله لشخص آخر، بغاية تحمل المسؤولية الفردية عن فعل معين. وتقوم هذه الفكرة على مبدأ "المشاورة الفردية" باعتبارها تقع في قلب الفعل البشري. لكن المؤلفة تطرح تساؤلا: أليس من شأن هذا التصور للفعل الأخلاقي ألا ينظر في مفهوم "الفرد" الذي ينبني عليه نظرة ناقدة؟

في صلة بهذه المسألة، تسعى المؤلفة إلى تحويل قضية "عدم العنف" من مسألة أخلاقية فردية إلى مسألة إلزامات اجتماعية، بل وحتى إلى أخلاق جماعية تقوم على الصلات بين الناس وليس على عزلة الأفراد، وذلك في أفق ما تسيمه "أخلاقيات مغايرة". ما الذي ندين به إلى أولئك الذين نعيش معهم على الأرض؟ وما الذي ندين به إلى هذا الكوكب ونحن نحيا فيه؟ ولماذا نحن مدينون إلا أشخاص أو إلى كائنات نعيش معها بهذا الاهتمام وبتلك الرعاية؟ ولماذا نحن مدينون لهم بحفظ حياتهم وبمعاشرتهم في إطار من عدم العنف؟ إن تعالقاتنا هي أساس إلزاماتنا الأخلاقية نحو بعضنا البعض. وحينما نتصادم، فإننا نمس بهذا الرابط نفسه.

وفي الجملة، تدعو المؤلفة إلى ضرب من النزعة العملية: ثمة بينونة بين تصرف المرء فردا أو جماعة واتخاذه القرار بأن:"عدم العنف هو أفضل طريق لتحقيق بغيتنا"، وبين السعي إلى خلق عالم غير عنيف، أو في الحد الأدنى أقل عنفا، وهو الخيار الذي تجده أكثر عملية.

قد يقال لجوديث باتلر: بهذا الطرح المخالف لمسألة العنف وعدم العنف، قد تبدين وكأنك امرأة "مثالية مجنونة"، فيلسوفة مجنِّحة مرنِّقة فاقدة لكل صلة بالواقع! ولسان حالها يؤذن بالإجابة: كلا وألف كلا؛ ما كنتُ من الجنون بالقدر الذي أسوِّغ به اللجوء الأعمى إلى العنف، لا ولست تراني من الجنون بالقدر الذي أتغاضى فيه عن الإقرار بأمر "الأهواء السوداء" التي تحكم بني البشر.

----------------

- الكتاب: "قوة اللاعنف".

- المؤلفة: جوديث باتلر.

- الناشر:فيرسو بوكس، لندن ونيويورك، 2020م.

أخبار ذات صلة