تحرير: أحمد فائز
عرض: فيلابوراتو عبد الكبير
"قولوا قولوا الحرية، ارفع صوتك للحرية، من هنا وهناك قولوا قولوا الحرية، الحرية الحرية من حكومة بي.جيه.بي، الحرية مطلب وطني".. منذ أكثر منثلاثة أشهر بعد أن قدمت الحكومة الهندية بقيادة حزب بهارتييا جاناتا في البرلمان مشروع تعديل قانون الجنسية، ووافقت عليه أغلبية أعضاء البرلمان، لا يزال يرن هذا الهتاف في فضاء الهندCAA(Citizenship amendment act), NPR(Ntional population registration), NAC(National citizenship register).. هذه هي الكلمات المختصرة الثلاث الخاصة بالقضية الراهنة في الهند. الأول منها يعني قانون الجنسية المعدل للعام 2019 الآن تحت قيد التنفيذ، فلا يبقى إلاّ وضع النظم واللوائح اللازمة لتنفيذه. ويسعى هذا القانون لمنح الجنسية للهندوس والسيخ والجاينيين والفارسيين والبوذيين والمسيحيين من باكستان وبنجلاديش وأفغانستان الذين وصلوا إلى الهند قبل 31 دسيمبر 2014، بيد أن المسلمين الذين جاؤوا من تلك الدول يُستثنون من هذا القانون، هذا التميز الديني مخالفة صريحة للمبدأ العلماني الذي يعتبر من أهم المبادئ الذي يقوم عليه الدستور الهندي، ويبرر وزير الداخلية هذا التحرك أن ليس لهؤلاء مكان آخر سوى الهند. ويتضح من هذا أن الهندوس المهاجرين من بنجلاديش في آسام سيتثنى من الإبعاد من البلاد وأن السجل الوطني الموجود حاليا هناك إنما يستهدف المسلمين فقط. وهو أحدث محاولات حكومة مودي لتهميش المسلمين الهنود. وقد تقدم بعض الناشطين القانونيين بدعوى إلى المحكمة العليا للنظر في صحة هذا القانون الدستورية لأنه ضد المساواة بين المواطنين التي يؤكد عليها الدستور؛ حيث يُميّز المواطنين على أساس الدين مخالفا للأصول العلمانية المبنية عليها أعمدة نظام الهند منذ استقلالها.
أمَّا NPR الذي يُقصد به الإحصاء السكاني الوطني وNCRالمطلوب منه إعداد سجل جديد خاص بالجنسية على نطاق وطني فتنفيذهما أيضا على قدم وساق حسب إعلان الوزير الداخلي المركزي أميت شاه. هذه الإجرآت الثلاثة مرتبطة بعضها مع بعض. سجل الإحصاء الوطني (NPR) ليس إحصاءً عاديا لضبط عدد سكان الوطن فقط. لأنه توجد في نموذج الاستبيان الذي يخص به واللازم تعبئته أسئلة إضافية لم تكن موجودة في الإحصاءات السابقة مثل تاريخ ميلاد الآباء والأجداد ووثائق تتعلق بملكية العقارات والممتكات وغيرها من الشروط التعجيزية اللازم استيفاؤها لإثبات الجنسية بموجب السجل الوطني للمواطنين الذي سيتم إعداده فيما بعد. فسجل الإحصاء الوطني مقدِّمة للسجل الوطني للمواطنين، فالذين لا توجد لديهم تلك الوثائق يمكن طردهم مسبقا من السجل الوطني للمواطنين وزجهم إلى معسكرات الاعتقال التي يجري إنشاؤها حاليا بحسب ما ينص عليه قانون الجنسية المعدل. ولو أن جميع السكان في البلاد سيُجبرونعلى تقديم الوثائق المذكورة أعلاه لإثبات حقهم في المواطنة بموجب السجل الوطني للمواطنين إلاّ أن المسلمين فقط يطردون من السجل في حالة الحرمان من تلك الوثائق. أما غير المسلمين الذين لا يفلح الوصول إلى تلك الوثائق يمكنهم الحصول على الجنسية وفقا لقانون الجنسية المعدل (CAA).
جدير بالذكر أنَّ هذه الإجراءات التعسفية تقوم بها حكومة مودي والبلاد تمر بركود حاد في جميع مناحي الحياة. ولا نرى من قِبل الحكومة جهدا ولو زهيدا لإصلاح اقتصادية البلاد التي انهارت إلى الدرك الأسفل. إن جميع اهتمامتها مركزة على تنفيذ أجندتها الهندوسية فقط. بدأت الحكومة تتخذ هذه السياسات أسوة لما جرت في ولاية آسام، وهي الولاية الوحيدة في الهند التي تًحفظ سجلا للمواطنين، وأول ولاية نُفذ فيها هذا القانون كما أنها أول ولاية ظهر فيها رد عمل شديد له. واستنادا إلى "اتفاق آسام" الذي وقع فيه رئيس الوزراء الراحل راجيف غاندي عام 1985 كان يجب أن تُحذف من السجل كل أسماء الذين لا يستطيعون أن يثبتوا مجيئهم إلى آسام قبل 24 مارس 1971 التاريخ الذي أُسِّست فيه دولة بنجلاديش. كان الهدف منه اجتثاث جحافل من المهاجرين البنجلاديشيين إلى آسام. ولكن لما بدأ تطبيق قانون الجنسية المعدل في آسام اصطدم هذا القانون مع هدف "اتفاق آسام" المذكور حيث تم منح الجنسية للبنغاليين؛ مما أدى لتفجير غضب أهالي آسام. لأنه كان يخالف روح "اتفاق آسام" وكانوا لا يرحبون "بتلويث" ثقافة آسام بثقافة بنغلال ولا بغلبة اللغة البنغالية على لغة آسام المحلية. فشهدت آسام خلافا لتوقعات بي جيه بي ضربة قوية على تصور الهند الموحد الذي يتبناه ذلك الحزب. وكان الحزب الحاكم يهدف بهذه العملية إلى توسيع قاعدة أصوات الناخبين في الانتخابات العامة.
وفي نفس الوقت، فوجئت حكومة مودي باحتجاجات شملت البلاد طولا وعرضا ضد قانون الجنسية المعدل الذي وافق عليه البرلمان وضد ما يوجد في مطبخ الحكومة من إعداد السجل الوطني للمواطنين والسجل الوطني لإحصاء السكان المرتبط بالمواطنة. حين مررت الحكومة القانون المذكور لم يكن يدور في حسبانها أنها ستواجه بمظاهرات عارمة في كل أنحاء البلاد وبتنديد عالمي سياسي وإعلامي كبير، تعقب هذا الإجراء بإلغاء رئيس وزراء اليابان شينزو آبي زيارته للهند، كما ألغى وزيران بنجلاديشيان زيارتيهما احتجاجا على ادعاء الهند أن البنجلاديشيبن يتسللون إلى الهند. قدمت السيدة مشيل بانشيليت جيريا مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان مذكرة إلى المحكمة العليا في دلهي تطالب فيها المحكمة بأن تسمح لها أن تكون صديقة المحكمة (Amicus Query) التشاورية في القضية التي تنظر فيها المحكمة، بينما قالت منظمة "هيومان رايتس ووتش" إنَّ هذا القانون يتعارض مع التزامات الهند الدولية. الشعب الهندي والأقلية المسلمة خاصة لم يمروا بسياسات الحكومة التعسفية مرور الكرام كما مروا بالصمت الكامل عند إلغاء بند رقم 370 في الدستور الهندي الخاص بالحكم الذاتي لولاية كشمير وعند صدور الحكم من المحكمة العليا في قضية المسجد البابري لصالح الهندوس على أساس عقيدتهم، بدلا من المستندات الحقوقية والتاريخية، رغم اعتراف المحكمة بجريمة تدمير المسجد البابري. جرت الرياح من جهات لم تتوقعها الحكومة. كان قانون الجنسية الجديد القشة التي قصمت ظهر البعير، وأول شرارة من الاحتجاجات كانت من طلاب الجامعة الملية الاسلامية وجامعة عليجرا، وكانت في مقدمتهم الطالبات؛ مما أصبحتا معه عائشة رني وفاطمة حنان أيقونتي الاحتجاجات. انتشرت الاحتجاجات فورا كالحريق في الهشيم إلى جميع مناطق البلاد. تميزت الاحتجاجات بطبيعتها السلمية الكاملة، وبمشاركة عدد كثير من النساء المتحجبات وغير المتحجبات فيها وبتضامن حشد كبير منالمنبوذين المهمشين معها. قاد الاحتجاجات التي جرت في ساحة المسجد الجامع التاريخي في دلهي شاندرا شيكهار آزاد زعيم "جيش بهيم"، الذي ينتمي إليه المنبوذون ورفع صوته في مسيرة الاحتجاجات بكلمة "الله أكبر". لما سخر منه الهندوس المتطرفون أنه قد ترك الديانة الهندوسية رد عليهم بقوله: أنتم يا إخواني حين كنا هندوسا أغلقتم أبواب معابدكم أمامنا، فلماذا تشتكون منا ترك ديانتكم"؟
وأصبح اعتصام المحتجين من الرجال والنساء والولدان في "شاهين باغ" في دلهي الذي لا يزال يستمر حتى وقت كتابة هذه السطور رمزا حيا دافعا للناشطين في ميدان النضال؛ حيث تشكلت آلاف من "شاهين باغات" بالاعتصامات ليلا ونهارا في مختلف أنحاء الهند. أخذت طائفة السيخ في دلهي على كاهلها مسؤولية توزيع الطعام لمن يعتصم في "شاهين باغ" من مطابخهم الخاصة المعروفة باسم "لانكار". واتخذت مجالس النواب في ثماني ولايات قرارا يمتنع من تنفيذ قانون الجنسية المعدل والسجل الوطني للمواطنين وسجل الإحصاء الوطني. ورفع بعضها القضية إلى محكمة النقض في دلهي. ولكن الحكومة المركزية لم تتزحزح من موقفها قيد أنملة ولم تتهيأ للمفاوضات مع المخالفين والأحزاب المعارضة في شأن هذه القضية المؤرقة احتراما لآداب المبادئ الدمقراطية. بل حاول بعض قياديي الحزب الحاكم تحريض أتبعاعهم ضد المحتجين المعتصمين في أماكن عامة. حتى إن أحد الوزراء أنيرودها تهاكور وزعماء الحزب الحاكم أمثال كابيل ميشرا وأبهايا فارما وبرفيش فارما، ناشدوا أتبعاهم جهارا ونهارالإطلاق النار نحو المحتجين. وجراء ذلك خلال فترة زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هاجم الغوغائيون من الحزب الحاكم مخيمات المحتجين وبيوت المسلمين ومتاجرهم ومساجدهم ونهبوا ممتلكاتهم تحت خطة مدروسة وبالتعاون مع شرطة دلهي. وهناك مقاطع فيديوهات تعرض الشرطة يُخرِّبون كاميرات المراقبة في الشوارع العامة التي تعرضت لهجوم الهندوسيين. استمر العنف أكثر من ثلاث ليال في مناطق المسلمين في شمال شرقي دلهي. اندلع العنف بعد فترة قصيرة من تحريض قياديي الحزب الحاكم أتباعهم على القيام بإزالة اعتصام النساء المسلمات احتجاجا على قانون الجنسية. إن كثيرا من ضباط الشرطة الذين هاجموا المتطاهرين في مصطفى آباد وجعفر آباد مع مجموعات الرعاء الهندوس كانوا، كما كتب مراسل نيويورك تايمز، إما أن يكونوا خدموا في مذبحة السيخ عام 1984أو أنه كانوا ممن تم تدريبهم من ضباط خدموا في تلك الفترة ونجوا من المحاكمة. الرسالة من حكومة مودي واضحة؛ حيث إن القاضي في محكمة دلهي "مورالي دهارا" الذي انتقد بشدة الشرطة وأمرهم بأن يُحققوا دور السياسيين القوميين الهندوس في أعمال الشغب تم نقله بسرعة إلى محكمة ولاية "هاريانا". ويشير باتريك بيرون مراسل "إندبيندنت" في تقريره الصحفي إلى أن اضطرابات دلهي تُذكِّر إبادة اليهود التي جرت في الثلاثينيات.
في هجوم لاذع على اللامبالاة من قبل الحكومة المركزية بشأن أعمال الشغب في دلهي، قال زعيم مجلس الإتحاد الهندي للمسلمين أسد الله عويسي، في مجلس النواب بالبرلمان الهندي: إنَّ هناك "تسونامي كراهية الهندوسية ضد المسلمين في الهند". ودعا إلى إجراء تحقيق محايد للقبض على مرتكبي أعمال العنف بأسرع وقت ممكن. وقال: إن رئيس الوزراء الهندي قد فشل في الحفاظ على أرواح وممتلكات المواطنين الهنود، خصوصا المسلمين، وكان يغني مع فريق الموسيقي للقوات البحرية الهندية أثناء استقبال الرئيس الأمريكي حين يذبح عشرات المسلمين في شوارع دهلي تحت مرأى ومسمع من الشرطة. دُمّر وحُرق 19 مسجدا ونُصب العلم الزعفراني على منارات المساجد. كانت مذبحةَ مخططة ليست مجرد أعمال شغب طائفية. يجب أن يتم إجراء تحقيق عادل من قبل لجنة برئاسة المحكمة العليا أو قاض في المحكمة. كما يتعين على فريق يضم جميع الأجزاب زيارة المناطق المتضررة من العنف.
هذا سيناريو المقالات التي اختارها المحامي أحمد فائز في كتابه المعنون بـ"بيان المناضلين ضد قانون الجنسية المعدل"، وما جرى في ساحة الهند بعد تمرير هذا القانون. الطبعة الأولى من الكتاب نفدت كاملة خلال أسبوعين من صدوره، وهنالك في السوق كتابان آخران صدرا في نفس الوقت الذي صدر فيه هذا الكتاب. أحدهما للكاتب اليساري كيه.إي.أنكونجي أحمد بعنوان "نأبى أن نرحل" الصادر عن "الكلمة للكتب"، وثانيهما للأكاديمي الشاب الدكتور كيهأشرف بعنوان "حديث عن الجنسية والدفاع عنه" الصادر عن "بيندولام للكتب". هذا يدل على اهتمام جمهور القراء بهذه القضية الساخنة. وكتاب المحامي فائز يقسم إلى خمسة أقسام. المقالات في القسم الأول تحلل الأهداف الخفية وراء تعديل قانون الجنسية ونطاق رد عملها البعيد كما تفحص حقيقة دعاية الأحزاب المتطرفة الهندوسية عن عدم سلامة الأقلية الهندوسية في بنجلاديش. وفي القسم الثاني يناقش الكتاب خلفية قوانين الجنسية التاريخية وأبعادها العالمية. ونقرأ فيه عن المظالم العنصرية في ميانمور وعن أنشطة الحركة النازية التي هيمنت على ألمانيا وعن العنصرية الآرية التي سادت بلاد الهند. والقسم الثالث يلقي الضوء على الطاقة الجديدة التي استمدتها سياسة الأقليات في الهند والفئات المتخلفة والمنبوذين من النضال الجاري للدفاع عن الجنسية كما يُسمِع الأصوات التي ترتفع من حرم الجامعات ضد المحاولات التي تجري خلاف الاحتجاجات لقتلها في حمامات الدم. والقسم الرابع حوارات مع الناشطين عن تجاربهم في ميدان الاحتجاج. وتوجد فيه تجارب في ولاية آسام وحضور المسلمين في ميدان النضال والآمال المعقودة على الشوارع الثائرة. والمقالات في القسم الخامستحلل الألغاز السياسية الناتجة من الاحتجاجات المتعلقة بالجنسية مثل الأزمة التي واجهها اليسار العلماني جراء حضور المسلمين المكثف في ميدان العمل؛ حيث أخذوا زمام النضال بأيديهم دون الاعتماد على أي حزب سياسي، كما تبحث تلك المقالات في كيف أن الاحتجاجات أنجزت تعريفا جديدا لسياسة الجمهور والسواد الأعظم. والكتاب عموما شامل يتناول جميع نواحي الموضوع.
------------------
- الكتاب: "بيان المناضلين ضد قانون الجنسية المعدل".
- مجموعة مقالات اختارها المحامي أحمد فائز.
- الناشر: دار النشر الإسلامي، كوزيكود، كيرالا، 2020.
- عدد الصفحات: 192 صفحة.
