تأليف: أوليفر مورتون
عندما ظهر للعيان رجل الفضاء نيل آرمسترونج (Neil Armstrong) مباشرةً على شاشات التلفاز من مكوك الصقر - وحدة تحكم رواد الفضاء بمركبة أبولو- إلى السطح الصخري للقمر، وحَّد بذلك التوجهات المنقسمة في الولايات المتحدة الأمريكية في لحظة من الفخر بالوطن والإعجاب بالتقدم العلمي. بعد سنوات من المظاهرات ضد حرب فيتنام، والاغتيالات السياسية، وعمليات الشغب في المدن، توحد بإعجاب 94 بالمئة من سكان الولايات المتحدة الأمريكية على شاشات التلفاز؛ لمشاهده معجزة أبولو-11 تظهر للعيان وهي تحط على سطح القمر، وتسامروا على الشاشات حتى فترات متأخرة من ليلة الـ20 من يوليو عام 1969. في تلك اللحظة، نقل آرمسترونج على ناقل الراديو لحظة وطء قدميه لسطح القمر "هذه خطوة صغيرة لرجل على سطح القمر، لكنها قفزة عملاقة للبشرية". بعد ذلك، بمساعدة من مرافقه بز ألدرين (Buzz Aldrin) جمعا عينه من صخور وتربة القمر، وقفزا بمرح على الجاذبية الضعيفة للقمر، وأخرجا كاميرا لالتقاط الصورة الأيقونية لألدرين وهو يحيي العلم الأمريكي على سطح القمر. من بعد ذلك، أصبح غزو القمر وإرسال مركبات إلى القمر من الأحداث الروتينية المعتادة. لكن بعد خمسين عامًا منذ وطأ البشر سطح القمر ماذا تشكل لحظات الفخر الضبابية تلك على الشاشات غير الملونة لتاريخ ومستقبل البشرية مع القمر؟ مورتون في كتابه "القمر" المفصل، الممتع جداً، المستمد من عملية بحثية رائعة، يحتفل بما سماه "الرجوع للقمر". حيث في الفترة الأخيرة تلاحمت الجهود بين البشر من مختلف الدول، والشركات الخاصة، لإطلاق مركبات استكشافية إلى سطح القمر لتمهد لعهدٍ جديد لزيارة البشرية للقمر مرة أخرى.
أوليفر مورتون كاتب ومحرر بريطاني في المجال العلمي. يحمل شهادة في الفلسفة وتاريخ العلوم من جامعة كمبريدج البريطانية. الكتابة العلمية لمورتون في كتاب القمر واضحة وبطريقة سردية تشد القارئ. فصول الكتاب غير مرتبة ترتيبا زمنيًا متعاقباً، في الفصول الأولى للكتاب تحدث مورتون عن فهمنا وعلاقتنا بالقمر، ثم تحدث عن استكشاف القمر من خلال برنامج ورحلات أبولو، وأخيرًا تحدث عن خبايا المستقبل عن عودة البشر مرة أخرى إلى القمر وما إذا ستكون هناك مستوطنات مستقبلية على سطح القمر، لكن كل فصل من فصول هذا الكتاب مُغامرة ممتعة بحد ذاتها.
الحقائق العلمية في الفصول الأولى التي يتحدث فيها عن مراحل تكوين القمر وتاريخه مع البشرية مفصلة بطريقة واضحة تستحوذ على القارئ وتشد انتباهه، يقدم في كتابه حقائق أخاذة عن مراحل عظيمة ومتلاحقة منذ أكثر من أربعةبلايين عام من عمر القمر، يتحدث في كتابه عن مراحل تكوين القمر ويقول "إن من أكثر المشاهد عنفاً وشدة في تاريخ النظام الشمسي، ارتطام كوكب ثيا (Theia)، القمر حالياً، بكوكب تيلوس (Tellus)، الأرضحالياً. الفوضى الناتجة من الارتطام تحولت إلى ترتيبات جديدة في الحجم والحركة، حيث ظهر كوكب جديد نوعًا ما أكبر من تيلوس، يدور بسرعة، وحوله قمر نوعاً ما أصغر من ثيا يدور حوله في مدار ثابت… تاريخ ثيا وتيلوس انتهى، وتاريخ الأرض والقمر ولد في مكانهما".
وضح مورتون، أن القمر بالنسبة للبشر جرمٌ سماوي مهجور، متصل بماضي كوكبنا مُنذُ زمنٍ تليد، كتلةٌ من الصخر خالية من الحياةِ والماء يدور حول كوكبنا مرة في كل شهر. في الحقيقة قليلاً ما يدرسُ العلماء القمر في الفترة الأخيرة، فتلسكوباتهم تتجنبه؛ لأن القمر يعكس ضوءًا يشوش على مراقبة مشاهد آسرة من المجراتِ، والأجرام السماوية البعيدة، وكذلك معظمنا يتجنب القمر عند النظر إلى النجومِ، والمجرات البعيدة؛ لأن ضوء القمر يشوش على رؤيتنا للنجوم البعيدة.فقرب القمر من الأرض، وحجمه في السماء، وقوة ضوئه، تشوش على رؤية الأجرام السماوية القريبة منه في السماء، وهذا أيضًا ما يرجحه أوليفر مورتون في كتابه "القمر"، على أن جارنا في الفضاء يشاهد دائمًا في سمائنا لكن قل ما يتباحثه ويتدارسه العلماء.لكن مع الذكرى الخمسين لخطوات نيل آرمسترونج على القمر -التي تحقق بها قفزة عظيمة في تاريخ البشرية- أصبح القمر مرة أخرى محط اهتمام البشرية. مورتون في كتبه يقترح وبطريقة مقنعة، أنه لا يوجد جسم فوق رؤوسنا أكثر أهمية لنا ولكوكبنا بعد الشمس غير القمر. "فالقمر يكمل الأرض" كما كتب مورتون، فجاذبية القمر تخلق أمواج المد والجزر على سطح الأرض، وينظم الأحياء والهيدرولوجيا المائية على كوكبنا. أيضاً، مراحل القمر ساعدت البشرية في تحديد الوقت منذ الوهلة الأولى التي بدأ البشر فيها بتحديد الوقت. في القرن السابع عشر، ساعد القمر على تكوين نظرية كونية جديدة تمكن ائتلاف من العلماء من مشاهدة انعكاس ضوء الشمس من الأرض على سطح القمر، تحدوا بهذه المشاهدة نظرية أرسطو على مركزية الأرض للمجموعة الشمسية، كتب مورتون بلسان جاليليو "إن هذا الاكتشاف يجعل للأرض مكاناً بين النجوم المشعة"، فمن على سطح القمر يبدو كوكبنا نجماً مشعاً بسبب انعكاس ضوء الشمس.
مورتون في كتابه المفصل، الممتع جداً، المستمد من عملية بحثية رائعة، يحتفل في الفصول اللاحقة بما سماه "بالرجوع للقمر"، ففي الفترة الأخيرة تلاحمت الجهود بين البشر من مختلف الدول والشركات الخاصة، لإطلاق روبوتات إلى سطح القمر لتمهد لعهدٍ جديد، لزيارة البشرية للقمر مرة أخرى. مورتون كتب "إن التذكرة الأولى للرجوع إلى القمر حُجِزت"، يوساكو مازاوا بليونير ياباني اشترى تذكرة لرحلة إلى القمر في حوالي عام 2023، لكن الرحلة ربما ستتأجل، فمركبة الفضاء التي على متنها سيزور البشر القمر مرة أخرى لم تبن أو تختبر بعد، على الرغم من ذلك البليونير الياباني مازاوا قام بدفع مبلغ لا يستهان به إيماناً بأن شركة إيلون مسك SpaceX ستتمكن من إتمام هذه الرحلة بنجاح. كذلك رجل الأعمال جيف بيزوس مالك شركة أمازون وصحيفة الواشنطن بوست، يصرف البلايين على شركته (Blue Origin). الشركة تملك طموحات كبيرة خارج الغلاف الجوي للأرض، كتب مورتون في هذا المجال "جيف بيزوس يتحدث عن المستقبل حيث إنَّ بعض عشرات من السنين من الآن الملايين من البشر سيعيشون على مدارات حول الأرض، على الأقل ولو لبعض من الوقت، في المستقبل ستكون هنالك صناعات لا مكان لها في الأرض تتعلق فقط بغزو الفضاء". يعترف مورتون في كتابه بالتطور اللافت الذي حققته الشركات الخاصة لغزو الفضاء، لكنه أيضًا لا يتوانى في انتقاد سياسات هذه الشركات، شركة إيلون مسك حققت نجاحات واسعة كشركة خاصة لغزو الفضاء. في الحقيقةSpaceX قادتأكبر عملية ناجحة لبرنامج تطوير مركبات الفضاء منذ برنامج أبولو في منتصف القرن الماضي، ومن الممكن للمركبات التي طورتها شركة SpaceX أن تستحوذ على عقود NASA المستقبلية لغزو القمر، لكن في حقيقه الأمر يعتقد مورتون أنَّ رجال الأعمال كإيلون مسك وجيف بيزوس يبحثون عن الإطراء والشهرة الإعلامية أكثر من طموحاتهم لغزو الفضاء.
في فصلٍ لاحق من الكتاب تحدث أيضًا عن الإنجاز التاريخي لمركبة أبولو وأول رحلة إلى القمر، التي خطت بالبشر خطوة جبارة، إلى المستقبل لنصبح من ضمن الكائنات الغازية للفضاء، قادرة على العيش خارج الأرض، ولو لساعاتٍ بسيطة. تحدث عن التكنولوجيا والتقدم في صناعة قوة محرك الصاروخ، كتب "خلال بضع دقائق، الجيل الخامس من محرك F-1s ولد حوالي 60 جيجا واط من القوة الكهربائية، ما يعادل الإنتاج الاعتيادي لمولدات الكهرباء مجتمعة في بريطانيا". ليس ذلك وحسب بل جزئيات بسيطة أخرى بتفاصيل دقيقة في مركبةأبولو مذهلةأيضاً؛ فجدران الألمنيوم الرقيقة برقة المنديل للمكوك الذي هبط على سطح القمر، تتحرك للداخل والخارج بناءً على فوارق الضغط ما بين داخل وخارج المكوك. هذه الرقائق أيضاً أحدثت ثورة صناعية في تصنيع بدلات رواد الفضاء، هذه الرقائق خيطت من نسيج ناعم بواسطة نساء تعمل على مكائن خياطة اعتيادية، لا تختلف تماماً عن مكائن الخياطة الموجودة في بيوت معظم الأمريكيين.
في فصول الكتاب الأخيرة، مورتون تحدث بطريقة تطلعية عن المصاعب البيولوجية والسياسية التي ستواجه البشر لاستيطان القمر، فسردياته تطرح تساؤلات حول فكرة المدينة الفاضلة لقواعد على سطح القمر كما تصور في تأملات المستقبل. مورتون ختم كتابه محتفيا بالإنجاز البشري في الصعود للقمر بالقرن الماضي، مرجحًا بأن الصور الملتقطة من على متن مركبةأبولو تعد هدايا تذكارية لا تقدر بثمن، حيث كتب "إن الكثير من البشر يتطلعون بإعجاب على سطح القمر أكثر من أي جسم آخر في الكون المنظور، لكن ما زالت الصورة المؤثرة والمعاصرة، الأكثر أهمية في تاريخ البشرية بالقرن العشرين، هي تلك الصورة الأرضية التي التقطها رائد فضاء مركبة أبولو-8 بيل انديرس (Bill Andres)، لكوكب الأرض الأزرق وهو يطفو فوق عزلة القمر". تحدث مورتون عن التناقضات حول مستقبل البشرية على سطح القمر ودور القمر في مستقبلنا من خلال تحليلات استخدام صورة القمر في الخيال العلمي. كتب موتون قائلاً "في زمن ما في تصورات الخيال العلمي كان القمر صورة للمستقبل حيث إنه مثل الموضع البعيد الذي من الممكن أن تصله صواريخ البشرية، وذلك ما حققه برنامج أبولو". لكن تصورات الخيال العلمي عن القمر حالياً قد تدل على المستقبل لكنها قد تبدو رجعية لأن البشرية تخيلت الصعود للقمر ووصلتإليه. على الرغم من أن هذه التصورات قد تبدو رجعية، إلا أن القمر ما زال مصدر إلهام للكثيرين، من بينهم مورتون الذي ما زال يؤمن، أو على الأقل يتمنى، أن العودة إلى القمر بطريقة ما أو بأخرى ستكون جزءا من مستقبل البشرية.
باختصار، معظم الكتب المنشورة عن القمر تنظر للخلف إلى إحداثبرنامج أبولو والسباق نحو غزو القمر بعد حوالي نصف قرن من أول خطوة بشرية على سطح القمر. بعض الكتب تنظر إلى الإمام إلى مستقبل استكشاف الفضاء من قبل الوكالة الوطنية لغزو الفضاء NASA، والشركات الخاصة الأخرى، والبعض الآخر من الكتب يركز على دراسةالقمر كجرم سماوي، لكن في الحقيقة معظم هذه الكتب لا تتطرق إلى القمر وتاريخه ومستقبل البشرية مع بطريقة واسعة وممتعة، ككتاب القمر لأوليفر مورتون، فالكتاب مجموعة من الأبحاث والتقارير التي تجمع كل جوانب القمر وعلاقة البشرية معه، مسرود بطريقه تبعث وتثير الأفكار والتساؤلات حتى في أذهان القراء الملمين.
------------------------------------------
الكاتب: أوليفر موتون
الكتاب: القمر تأريخ للمستقبل
دار النشر: The economist Ltd
السنه: 2019
