تأليف: فاننينو كيتي
عرض: فاتنة نوفل
ما هي المُساهمة التي يُمكن أن تُقدمها الأديان للبشرية لمواجهة التحديات الكبرى في عصرنا؟ من الثورة الرقمية إلى قضية البيئة، من العلوم التي يُمكن أن تتحكم بالحياة إلى تهديد الأسلحة النووية؟ إمكانية تغيير الاقتصاد والتحكم بالمناخ وبناء سلام دائموالتنديد بالتَّغطية الدينية للحروب، فالأسلحة التي يجب أن تكون اليوم هي العلاقات والجمال والثقافة. الأديان،هي القوة التي تمنح الاستمرارية بمرور الوقت وفي تغيير المُعتقدات والرموز والإجابة على أسئلة مثل من أين نأتي وحياتنابعد الموت.لقد قيل إنَّ الفرق بين السياسي ورجل الدولة: أن نظرة الأول تكون على الانتخابات المُقبلة، والآخر على الخمسين سنة القادمة: من هنا يفتح المؤلف سيناريوهات على العصور التي ستظهر أمامنا وتجبرنا أن نسأل أنفسنا عن المُستقبل: إن كنَّا نحرص عليه، فعلينا القيام بدورنا في بنائه من أجل مصلحة الإنسانية وحياة الأجيال التي ستعيش على كوكب الأرض من بعدنا.يشهد العالم اليوم ثورته الثالثة ما بعد الصناعة وتكنولوجيا المعلومات حيث كان للعولمة زخم غير مسبوق في استكشاف الكون بفضل التلسكوبات الفضائية، وموجات الراديو والأقمار الصناعية وتحقيق نتائج مذهلة؛ففي السنوات الخمسين الماضية تغير العالم أكثر من الخمسة آلاف سنة الأخيرة ومن أجل ذلك ينبغي أن يعهد فيه القرار إلى الأمم المتحدة التي بالإضافة إلى المناخ وحقوق الإنسان وعرقلة الحروب، يمكنها أن تتكفل بهذه المبادئ الأساسية لحياة الناس وتحديد ما هو مسموح به. البحث العلمي يجب أن يكون قادرًا على التطور بحرية ولكن يجب أن يكون موجهًا نحو أولويات الصالح العام، وتطبيق الاكتشافات العلمية لا يمكن أن يعهد به إلى قلة ولا ينبغي السماح لها بالتحول إلى خطر ولا يمكن السيطرة عليه ولا رجعة فيه للبشرية.
فكما نرى يتحدث المسؤولون الحكوميون، ابتداءً من رئيس الولايات المتحدة ترامب عبر تويتر. وهو تواصل لتوجيه المتابعين، وليس لتبادل وجهات النظر. ونحن كذلك نتبادل الكثير من الرسائل لكننا لا نعرف بعضنا البعض: فالعلاقات الإنسانية تزداد سوءًا والوحدة تتزايد في بداية هذه الحقبة الجديدة من تاريخ البشرية المليئة بالمخاطر، فبينما يتغير كل شيء من حولنا، من الضروري المساهمة في بناء الجسور وليس تحطيمها. إيجاد فرص للمواجهة وليس للانغلاق وإعطاء فرصة للحواروالتوجيه الذي تقوم به الأديان والثقافات والعلوم وهذا هو الهدف الأول من الكتاب. نحن في الغرب أي أوروبا، حيث العلمانية في مرحلة تاريخية لم تلتزم بوضع حدود بين الأديان والسياسة ولكنها عملت على تهميش المعتقدات الدينية واعتبرتها بقايا قديمة. لم يكن هذا هو الحال في بقية العالم، فالإيمان ليس إلزامياً ولكن من مصلحة المجتمع والديمقراطية أن لا يشعر أولئك المؤمنون أنهم غرباء. السبب الثاني هو أنه ينبغي مواجهة التحديات التي تُواجه البشر من هيمنة الإنترنت إلى البيئة، والعلاقة مع العلم وآفاق العلوم الجديدة، ودور المرأة وإدانة العنف والتلاعب بالحياة الذي قد يصل إلى مخاطر التدمير الذري، فهنا تكون مساهمة الأديان أساسية لتعطي تقدمًا للحضارة وفق الكاتب.
ابتداءً من هذا الانفتاح للآفاق، يُساعدنا المؤلف وهو أيضا باحث في الحركة الكاثوليكية ومهتم بالحوار بين الأديان على تحديد الخيط الأحمر للحوار بين الأديان والثقافات الدينية المختلفة من (الأرثوذكسية، والمسيحية، واليهودية، والإسلام، والبوذية والهندوسية) للبحث عن السلام بطريقة أكثر عدلاً وإنسانية ويقترح عليها التزامًا اجتماعيًا ومدنيًا وثقافيًا وسياسيًا حقيقيًا؛ لأنَّ السياسة يجب أن تضع نفسها في خدمة التحرر من جميع أشكال العبودية من خلال الحوار والمقارنة والتعاون والتآزرعلى عكس ما يعتقد الكثيرون ألا وهو أن الأديان أداة للتقسيم والمعارضة وحتى للعنف فالمساهمات الإيجابية يمكن أن يقدمها كل دين لتحسين نوعية الحياة الاجتماعية والمدنية: لذا من المُفيد اتخاذ إجراء بشأن الحوار الديني حتى نتعرف على أنفسنا بشكل أفضل ونختلط مع الأشخاص الذين يأتون من بعيد.
الحاجة إلى الحوار "تتطلب الوعي بهوية الشخص ومعرفته واحترامه للآخرين، ومهارات الاستماع والاستعداد وإذا كان مقتنعًا لتغيير أفكاره". ليصبح هدف المؤلف واضحًا بعد ذلك: "خلق حوار بين الأديان والثقافات والعلوم" قدر الإمكان، ويصر على المقارنة والمعرفة المتبادلة لنكون قادرين على مواجهة تحديات العالم الحالي معًا.
يعطي هذا الكتاب صوتًا لأولئك الذين يعتقدون أن هذا المسار قابل للحياة، دون الخوض في العقائد العلمانية أو التحيزات، سواء كانت مسيحية أو إسلامية أو يهودية أو غيرها من الديانات والثقافات غير الدينية من خلال البحث عن ما يُوَحَد ويقرب الحوار بين المؤمنين وغير المؤمنين من مختلف الديانات ويؤدي إلى المقارنة بين القيم المشتركة وإلى مشاركة أخلاقيات عالمية لبناء طريقة روحية ومادية لإنقاذ الكوكب. حيث يُمكن للمعرفة المتبادلة أن تساعد الجميع من الأشخاص العاديين ورجال الدين على إقامة تعايش ديمقراطي غني يساهم بالتفاهم والرغبة في السلام والانفتاح على المستقبل.
فالحوار يجب ألا ينتهي حول أسئلة كبيرة بل يجب أن يستمر في المدارس، في مكان العمل، في وسائل النقل فهناك أشخاص لديهم لون بشرة أو معتقدات دينية أو ثقافات أخرى غير ثقافتنا،وإن عدم معرفة جذورهم وتقاليدهم ومبادئهم الدينية يمكن أن يثير عدم الثقة والمخاوف والعداء. أضف إلى ذلك عندما تسوء الظروف المعيشية للعديد من الشباب والذين يشعرون بخيبة أمل في المستقبل. تحاول القوى السياسية زيادة المخاوف للحصول على الأصوات الانتخابية فالتعايش سيزداد سوءًا، وسيتعرض للتوترات وعودة العنف والهمجية: إن معرفة الآخرين والأديان التي يؤمنون بها وثقافات المنشأ مفيدة لبناء المستقبل:فهوية المجتمع تتطور باستمرار وهناك حاجة لمساهمة جميع أولئك الذين هم جزء منها فالأمية الثقافية، والأمية المدنية والدينية ليست فضيلة.
هناك تعددية في المُجتمعات الغربية والعربية، في أوروبا والبلاد العربية والأمريكتين وآسيا. تتكون من الأقليات الثقافية والدينية وبشكل عام من المهاجرين والوافدين الجُدد وهم تقريبًا الأفقر دائمًا والذين يُعترف لهم بحقوق ثانوية: في إيطاليا، المسلمون والأرثوذكس الذين قدموا من أوروبا الشرقية والعمال من الهند من الديانة الهندوسية في البلاد العربية، المسيحيون الذين يأتون من المناطق الآسيويةويعملون في الخدمات المنزلية أو في المهام الأكثر تواضعاً، وهذا ليس تقليلاً من مساهمة الثقافات غير الدينية التي لها قيمة كبيرة وتقدم أمثلة مشرقة تتعلق بشكل أساسي بالأفراد ويمكن أن تؤدي إلى آفاق من الأخوة.فالحوار يحث الأديان على إعطاء إجابات طال انتظارها على أسئلة حول الكتب المقدسة والتفاعل بينها من أجل القضايا المحلية والعالمية. فالأديان مدعوة للتخلي عن إدعائها الفردية لصالح الحوار لأن الحوار يعني الاعتراف بجميع الأديان وعلاقاتها مع بعض. يجب أن تحظر الأديان بشكل لا لبس فيه أولئك الذين يدعون أو يمارسون الإرهاب وأن كل من يضرب الآخر لا يستطيع أن يفعل ذلك باسم الإيمان: بل إنه ضد الله.يشير كيتي إلى أن الكنيسة وخاصة في الخمسين سنة الماضية قدمت إسهامات حاسمة للإنسانية في المراحل الحساسة من الانتقال التاريخي: على سبيل المثال، في الدفاع عن حقوق الإنسان، في المواقف المناهضة للحرب من خلال شعار(لا يمكن أن تكون هناك "حرب عادلة" أبدًا) وفي الحوار مع الأديان الأخرى باعتبار هذا الأمر بمثابة مقارنة للتعرف على بعضنا البعض، وتوحيد ما يوحد، وفهمالاختلاف وبناء اقتراح مشترك بشأن الحقوق والحريات الأساسية للشخص والسلام. وفي عام 2019 كانت هناك نقطة تحول تاريخيةحين وقع البابا فرانشيسكو وأحمد الطيب الإمام الأكبر للأزهر وأعلى سلطة دينية سنية، وثيقة الأخوة البشرية والتعايش بين الناس. الدينان اللذان يوجهان نصف البشرية، يدينان الأصولية والإرهاب. فالأديان لا تحرض أبداً على الحرب ولا تستحضر مشاعر الكراهية أو العداء أو التطرف أو تدعو إلى العنف أو إراقة الدماء. هذه الكوارث هي نتيجة الانحراف عن التعاليم الدينية، والاستخدام السياسي للأديان وكذلك تفسيرات مجموعات من رجال الدين الذين أساءوا - في بعض مراحل التاريخ - في جعل الناس يفعلون ما لا علاقة له بحقيقة الدين، لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية دنيوية قصيرة النظر.
الحوار بين الأديان هو وسيلة ليعم السلام. ففي اليهودية والمسيحية والإسلام يعبر الحوار عن العلاقة التي أرادها الله بين الناس. وهو ليس فعل احترام أو تسامح، بل هو مقارنة للتعرف على بعضنا البعض، وتحديد ما يوحد ولفهم ما يجعلنا مختلفين. يؤثر الحوار بين الأديان بشكل إيجابي على المجتمع إذا عرف بناء اقتراح مشترك بشأن الحقوق، حرية الشخص، البيئة والسلام وإذا عزز مُساواة المرأة.
فكما يقول كيتي إن العالم لديه إمكانات يجب أن يخرجهاولديه أيضًا مخاطر هائلة علينا مواجهتها. فلأول مرة في التاريخ يمكن للبشرية أن تدمر نفسها، وهنا دور الأديان القادرة على توجيه المليارات من الناس ولكن يجب عليها أيضًا العمل بشكل ملموس لحل المشاكل اليومية الشائعة. إنها حقبة جديدة وهناك حاجة إلى أخلاقيات جديدة ذات قيم عالمية لا تليق بدين واحد دون آخر. كتاب أفسح فيه كيتي المجال لأصوات مثل سمية عبد القادر وهي شابة مسلمة، وفيتتوريو روباتي بيندادو أستاذ ومنسق المحاكم الحاخامية في شمال إيطاليا، والأب أرماندو زاببوليني من خلال المساهمة في كتاباتهم لرعاية الحوار بين الأديان والثقافات الذي يحدد صورة المجتمع الإيطالي الحالي. وبالتالي، فإنَّ الدين كأداة للحوار والمقارنة بين الناس سيكون بدون جدران ومفاهيم مسبقة من أجل التعايش ولبناء مواطنة أكثر تقدماً.
على سبيل المثال وبمبادرة مشتركة من الجاليات اليهودية والإسلامية، نشأت في مدينة فلورنس في إقليم توسكانا الإيطالي مدرسة للحوار بين الأديان والثقافات، وهو مشروع غير مسبوق في أوروبا ويترأسه راف جوزيف ليفي حاخام فلورنس السابق. دستورها قرره ونفذه رؤساء الأديان الثلاثة: المطران والحاخام والإمام. الغرض من المدرسة هو تدريب الإداريين ومديري الهيئات العامة وعمال الإعلام والشباب الذين يلتحقون بالمدارس الثانوية، ومهامها تتمثل في التعريف بأسس وتاريخ ومعاني ورموز وثقافات الأديان الرئيسية، وأيضًا المساعدة في مواجهة التغييرات التي حدثت في تعايشنا، بصيغة الجمع الآن، في المدارس- في المستشفيات، في السجون ومراسيم الجنازة. هناك حاجة إلى احتراف جديد في البلديات والأقاليم ومهارات في الوساطة بين الثقافات والأديان.
"فالصلاة من أجل أرضنا" هو النص الذي يمكن أن يصبح دعاءً لأي شخص يؤمن "بالله العظيم" الذي هو أيضًا "إله الفقراء" ليتحقق السلام وتنمية الشعوب والترابط الاقتصادي العالمي مع وجود أخلاقيات الاقتصاد والمال.
الدين والثقافة والحوار والمواجهة كأدوات لتنمية المجتمع في عصر تخاطر فيه البشرية بالتراجع بدلاً من التقدم. مثل التحدي البيئي من جهة والتحدي لحقوق الناس من ناحية أخرى واللذان هما وجهان لعملة واحدةتستحق القتال من أجلها لأنها قيمة أصيلة وتؤثر على مستقبلنا بحيث يكون المستقبل مرادفًا للتنمية، وليس أفقًا مظلمًا.
---------------------------------------------------
العنوان: الأديان وتحديات المستقبل: لأخلاقيات مشتركة قائمة على الحوار
المؤلف: فاننينو كيتي
دار النشر: غويريني المتحدة للنشر
بلد الإصدار: إيطاليا
لغة الكتاب: الإيطالية
تاريخ الإصدار: تشرين أول 2019
عدد الصفحات: 187
