«الأسئلة الاقتصادية والاجتماعية الكبرى»

41hoUcDQJHL._SX305_BO1,204,203,200_.jpg

باسكال كومبيمال

 سعيد بوكرامي

هذا الكتاب جزءٌ من سلسلة تتكوَّن من ثلاثة مجلدات تهدف لتغطية القضايا الاقتصادية والاجتماعية الكبرى في أوروبا والعالم.. وتتمثل خصوصيته أولًا في أنه أُنجِز من طرف متخصصين في هذه المجالات، وهم من الباحثين الجامعيين المعترف بهم، وثانيا لأنها موجهة للطلاب في المرحلة الجامعية خصوصا وللقراء المهتمين عموما. وسواء كانت هذه الدراسات عروضًا تقديمية أو أطروحات ناجحة أو تحضيرات فعّالة للاستحقاقات الجامعية أو فهمًا أفضل للعالم المعاصر، فإن هذا الدليل المرجعي يلبي احتياجات ومتطلبات جمهور واسع: من الجامعيين والمهتمين بإعداد المحاضرات والمقالات أو أي شخص يريد فهم القضايا الاقتصادية والاجتماعية بشكل أفضل. ويتناول المجلد الصادر حديثا المواضيع التالية: تحليل الحراك الاجتماعي، وديناميات التقسيم الطبقي الاجتماعي؛ والعمل الجماعي والصراع الاجتماعي؛ وإشكالية اللامساواة؛ واللامساواة بين المرأة والرجل؛ والتماسك الاجتماعي في خضم الأزمة الاقتصادية. ويعزَى نجاح هذا الكتاب إلى أهمية القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تمت معالجتها، وقيمة المساهمات الموقعة من قبل أفضل المتخصصين -الأكاديميين والباحثين المعترف بهم- الذين وافقوا جميعًا على بذل جهد علمي وتعليمي حقيقي.

وتتميز النصوص المجمعة هنا بثلاث مميزات رئيسية؛ نُجملها فيما يلي: تحليلها وتركيبها لوضع المعرفة العلمية؛ ووضوحها وسهولة قراءتها يجعلها في متناول الجميع دون المساس بصرامتها؛ كما تعطي إشكالياتها معنى للقضايا التي تعالج مما يثير اهتمام القارئ ويدفعه للبحث عن أجوبة مقنعة. ومن أجل الإجابة بشكل أفضل عن الأسئلة حول العالم ومجتمعنا، خاصة تلك المرتبطة بالأزمات المتعددة التي نواجهها، تعددت المقاربات والموضوعات لتشمل مختلف القضايا الراهنة.

يضم الكتاب -الذي حرره الدكتور باسكال كومبيمال المتخصص في التاريخ والاقتصاد- ما لا يقل عن اثنتين وعشرين دراسة لمتخصصين في التعامل مع القضايا الاقتصادية والاجتماعية. وتشكل هذه النقطة الأخيرة أصالة الكتاب وتنوعه: حيث إنَّ العديد من الكتب المرجعية التعليمية تقدم عروضا للمفاهيم والبيانات، بينما كتابنا اليوم يتحيز للتعامل مع القضايا الكبرى.

وينقسمُ الكتاب إلى أربعة أقسام رئيسية؛ تنقسم بدورها إلى فصول. يُركِّز القسم الأول على النمو والعمل والتوظيف، ويتناول القسم الثاني التغييرات والشروخ في المجتمع الفرنسي (مع التركيز بشكل كبير على مسألة اللامساواة الاجتماعية)، أما القسم الثالث فيركز على العولمة، في حين يهتم القسم الأخير بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية ونتائجها. ليس من الممكن ولا المرغوب فيه تقديم جميع الدراسات بشكل مكثف في هذه المراجعة، لذلك اخترنا الحديث عن أهمها وأكثرها عمقا وإقناعا.

وفي الفصل المخصص لعالم العمل، يعرضُ برنارد غازير التغييرات المختلفة، في القرنين الأخيرين؛ بحيث انتقلت فرنسا من القوى العاملة الريفية والفلاحية في الغالب إلى القوى العاملة ذات الغالبية الحضرية وذات الرواتب. وهذا يُؤكد الاستقرار الكبير الذي عرفه هذان القرنان بفضل قوة الثورة الصناعية. ويتابع جيروم غوتي ويانيك لورتي تفكيك عالم العمل والتوظيف، وهي فرصة للتذكير بالدور الذي تلعبه الإنتاجية الصناعية: المرغوب فيها اقتصاديا، التي يمكن أن تكون لها عواقب سلبية في خلق فرص العمل في الواقع، مع المحافظة على معدل النمو نفسه، اعتمادًا على ما إذا كان الأخير واسعًا أم مكثفًا، فليس له نفس النتائج من حيث التوظيف. إذا أراد أي بلد المزيد من الإنتاج، يمكنه أن يعمل أكثر (توظيف العمال، يعني انخفاظ معدل البطالة). ولكن لإنتاج أكثر، يمكن أيضًا أن نعمل بشكل أفضل وأكثر كفاءة، إلى مستوى نصل فيه إلى إلغاء بعض الوظائف (على سبيل المثال، عندما يتم استبدال العمال بالروبوتات). ويشير الاقتصاديان أيضًا إلى تنوع معدلات البطالة (التي يمكن تغيير تعريفها بحد ذاته)، اعتمادًا على ما إذا كان ينظر إليها بحسب العمر أو الجنس أو الشهادة. كما أنهما يقدمان مناقشات مهمة حول هذا الموضوع، مثل دور المؤسسات (حول ما يسمى بـ"الصلابة")، التي تخص الحد الأدنى للأجور والضمان الاجتماعي، وتعويضات البطالة وحماية العمالة. فيما يتعلق الأمر بتقليص وقت العمل، لخلق فرص عمل إضافية وإنتاجية نوعية. أما لويس شوفيل فيستعرض التقسيم الطبقي الاجتماعي. ويؤكد أنه لا ينبغي لنا أن نفهم أوجه اللامساواة فقط من الزاوية الإحصائية، كما نفعل كثيرًا. في الواقع، إذا لاحظنا النسبة بين متوسط راتب المديرين التنفيذيين ورواتب العمال، يدرك المرء أنه مر من 4.3% في العام 1955 إلى 2.4% اليوم. ومن هنا نستنتج أن اللامساواة في الأجور قد انخفضت، لكن يجب النظر إلى الأمر بطريقة ديناميكية. في الواقع، إذا نظرنا إلى الوقت اللازم لمعدل الأجر المتوسط للعمال للوصول إلى أجر الأطر العليا، مع الأخذ في الاعتبار نمو الأجور، فإننا ندرك أنه إذا كنا قد احتجنا 31 سنة في عام 1955، فإننا نحتاج الآن 155 سنة للوصول إلى مساواة اجتماعية.

... إنَّ دراسة اللامساواة الاقتصادية قد تمت على مرحلتين: يقوم توماس بيكيتي بتقييمها على امتداد فترة طويلة. وتعد أهم حقيقة في هذا المجال هي اختفاء المستأجرين خلال القرن العشرين. اليوم، يحصل الأفراد ذوو الدخل الأعلى في الغالب على أجورهم، بينما في المجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر كان مصدر الأجور يأتي من مداخيل التراث. يلاحظ بيكيتي بذكاء أن نهاية المستأجرين ساعدت بلا شك على إضفاء الشرعية على اللامساواة. لشرح الاختفاء شبه الكامل للمستأجرين، يجب أن نبحث عن دور الحروب (المدمرة لرأس المال) والضريبة التصاعدية (التي تمكن من التقليل من اللامساواة). إن ثروة البيانات المعبأة مذهلة، لكننا نأسف لعدم تحيين بعضها وفق البيانات الجديدة ومستجدات العصر. بينما يوسع لوكا شانسيل بؤرة التركيز من خلال معالجة اللامساواة على المستوى العالمي. وتعد إحدى النقاط البارزة في البلدان جميعها، منذ الثمانينيات، كان معدل نمو الدخل أعلى بين الأفراد الأكثر ثراء. وحتى في البلدان التي يستفيد فيها الفقراء من النمو، لا يزال الأكثر غنى هم من يستفيدون. من وجهة النظر هذه، فإن التفاوت الطبقي المتزايد ظاهرة عالمية تتكرس عاما بعد عام بسبب انتشار العولمة والنظام الاقتصادي الليبرالي.

وفي جزء غني مكرس للامساواة، يعود دومينيك ميرلي إلى موضوع سال حوله في السنوات الأخيرة الكثير من المداد: التحرك الاجتماعي. وأشار إلى أنه وللحديث عن التحرك الاجتماعي، فمن الضروري تحديد ليس فقط الجداول الكلاسيكية للتنقل الاجتماعي ولكن أيضًا حالات المغادرة والوصول، وهو أمر غير واضح. هل يجب أن نأخذ في الاعتبار شهادة الأب أم شهادة الابن؟ كم عدد الفئات التي يجب أن نحتفظ بها؟ يصبح السؤال أكثر حدة عندما تدخل المرأة في اللعبة، عندما نعرف أن معدل نشاط الإناث كان لفترة طويلة أقل بكثير من معدل الرجال (الفروق صغيرة اليوم).

ومن الواضح أن مسألة النوع الاجتماعي لا يمكن تجنبها عندما نتصدى للتفاوتات. تذكر فرانسواز ميلوسكي أن معدل مشاركة النساء بين 25 و49 عامًا قد اقتربت من معدل مشاركة الرجال، مما يؤكد أن نموذج ربة المنزل قد استمرّ طويلا، على الرغم من أن العديد من النساء الذين يعملون يفعلون ذلك بدوام جزئي. من الضروري أيضًا أن نتذكر الفروق في الأجور (يحصل النساء على أجور أقل بحوالي الربع عن الرجال)، الأمر الذي يؤدي منطقياً إلى اختلافات في معاشات التقاعد، بل وأكثر من ذلك: بصرف النظر عن معاشات الباقين على قيد الحياة، يبلغ متوسط معاش النساء 42.3% أقل من متوسط معاش الرجال، وهذا يجسد بجلاء التفاوتات الاجتماعية.

وفي سياق مكمل للسابق، يعود روبرت كاستل بعبارات واضحة إلى نشأة وتطور الحماية الاجتماعية، مستدعيا وشارحًا إشكاليتها وبعض مفاهيمها، مثل مفهوم الملكية الاجتماعية. هذا المنظور يجعل من الممكن فهم انقلاب حالة الأجور, وهذا وضع مخزٍ كان يخص البروليتاريا في القرن التاسع عشر، لكنه سيصبح مع تطور مؤسسات معينة، مقننا بإجراءات مثل قانون العمل أو التأمين الاجتماعي، وبالتالي سيصير وضعًا مطلوبًا يمثل الاستقرار الاجتماعي ويضمن استمرارية المؤسسات. في الواقع، يضمن الموظف، من خلال المساهمات الاجتماعية، عددًا من الحقوق التي تحميه من المخاطر الاجتماعية المختلفة (الشيخوخة، المرض، البطالة...).

وفي القسم المخصص لقضايا العولمة، ينجز دومينيك بليهون تقييما للعولمة المالية. كجزء موسع من ظاهرة العولمة، لأنه الوجه الأكثر وضوحًا. في الواقع، المعاملات المالية الدولية اليوم لا تتناسب مع احتياجات التجارة الدولية. لم يعد التمويل الدولي راضيًا عن دوره البسيط كمزود للأموال المخصصة للأنشطة الإنتاجية، بل يسعى إلى تأسيس وجوده ومنطقه الخاص. إذا كان الجميع، في الوقت الراهن يتفق على الحاجة إلى إصلاح التمويل الدولي، فإن الآراء تتباين بين أولئك الذين يريدون المزيد من التحرير، بحيث يمكن تطبيق مبادئ السوق بسهولة أكبر. وبين أولئك الذين يدافعون أكثر عن التحرير المقنن حسب الظرفية والجغرافية والموارد، بحجة أن التلاعب في الأسواق المالية وانتهاز الفرص له طبيعة مزعزعة للاستقرار للاقتصاد العالمي.

أما القسم الأخير، فيتناول الأزمات (الاقتصادية والاجتماعية والبيئية...) التي نمر بها. يعود جاك أدا إلى الأزمة المالية التي بدأت في الفترة 2007-2008، مقتفيا جذورها وأسبابها مسلطا الضوء على دور التسنيد، الذي يمكن إرجاع جذوره إلى الثمانينيات من القرن الماضي. تتألف هذه التقنية المالية من إنشاء منتجات بنكية من الذمم المدينة، بهدف تبادل أفضل للمخاطر. لكن المشكلة هي أن هذا التخفيف من المخاطر يضاعف القروض الممنوحة من البنوك. كما توفر المنتجات المشتقة وتحويل الديون إلى أوراق مالية وسائل بديلة لرفع عائدات الأسهم. لعبت الابتكارات المالية الأخرى، مثل الرهنيات العالية المخاطر أيضًا دورًا رئيسيًا في إشعال الأزمة وانتشارها. يؤكد جاك أدا على "عودة الدول" لمحاولة مواجهة آثار الأزمة، مع رد فعل أكثر هجوما من جانب الولايات المتحدة وبنكها المركزي بينما كان أقل في بلدان منطقة اليورو.

ويهتم جان جادري بنقد النموذج الفوردي، وعلى الأخص بأدوات قياس النمو. يلاحظ -على سبيل المثال- أن مكاسب الإنتاجية تجعل من الممكن إنتاج المزيد بكمية عمل ثابتة، ولكن دون حساب الموارد الطبيعية. إذا كنا قد استطعنا نسيان هذا الجانب خلال الثلاثينيات المجيدة، فإنه يصبح لا مفر منه لكن من منظور بيئي. يظهر جان جادري أيضًا أن الإنتاج الأكثر ملاءمة للبيئة، وبالتالي أقل كثافة، سيكون بالضرورة أكثر ثراءً في الوظائف.

وحتى لو بقيت بعض المشكلات البسيطة عالقة لا يمكن تجنبها في مثل هذا النوع من الكتب، مثل المستويات التقنية المختلفة بين الفصول وبعض الزوايا الميتة (حول التطور أو في تحليل أكثر منهجية للرأسمالية المعاصرة)، هذا لا ينقص شيئا من ثراء الكتاب وفائدته التعليمية الكبيرة بحيث تبرز في تغطيته لموضوعات عديدة ومن وجهات نظر متباينة ومتكاملة، مصحوبة ببيانات جديدة وأفكار مبتكرة، وبذلك يستطيع أي قارئ مهتم أن يفهم عالمنا الاقتصادي والاجتماعي بشكل أفضل وأوضح وأعمق.

---------------

- الكتاب: "الأسئلة الاقتصادية والاجتماعية الكبرى".

- المؤلف: باسكال كومبيمال.

- الناشر: دار لاديكوفيرت، فرنسا، بالفرنسية، 2019م.

- عدد الصفحات: 486 صفحة.

أخبار ذات صلة