«النفاق الكبير.. كيف يخون الإعلام والسياسة قيمنا!»

71x7tpELJVL.jpg

يُرغن تودنهوفر

رضوان ضاوي *

يناشد يُرغن تودنهوفر مؤلف كتاب "النفاق الكبير.. كيف يخون الإعلام والسياسة قيمنا!" الإنسانية، ويكشف فيه عن الوجه الحقيقي للحضارة الغربية. وميزة هذا الكتاب تكمن في أنه مخصّص للباحثين عن السلام وللراغبين في التثقيف السياسي؛ من خلال تقارير المؤلف عن الدول التي دمرتها الحروب في الشرق الأدنى والشرق الأوسط بتشجيع من الغرب. ذلك أن المؤلف قد صاغ تجاربه في شكل كتاب لجعلها في متناول جمهور واسع، بعد أن زار سوريا والعراق واليمن أكثر من مرة قبل وأثناء الحرب، التي بنيت على ذرائع كاذبة، كما تحدث مع أكبر عدد ممكن من مواطني تلك الدول المنكوبة، وكتب عشرات الدراسات مما أهله لكشف النفاق الكبير للسياسة الغربية، التي لا تهتم بحقوق الإنسان. وقد عمل المؤلف من العام 1987 إلى 2008 نائبًا لرئيس مجموعة إعلامية دولية كبيرة، ومن العام 2017 إلى 2018 رئيس تحرير مجلة دير فرايتاغ الأسبوعية. وهو أحد أكثر منتقدي التدخل العسكري الغربي خبرة في الشرق الأوسط.

 

يقع الكتاب في واحد وعشرين فصلاً وتركيباً وبيبليوغرافيا مع مسرد لأسماء المناطق والأعلام، وينتهي كل فصل من هذا الكتاب تقريبًا بسؤال. نقرأ في هذه الفصول عن الرواية المضادة والمخالفة لرواية الغرب والإعلام الغربي الرهين للتجاذبات السياسية والذاتية. ويضيء الكتاب الحرب الدعائية ضد دول الشرق الأوسط والأدنى، وخطورة الاعتماد على مصادر من جهات منحازة، كما يشير الكتاب إلى الأشكال الحديثة من الهيمنة الثقافية اعتمادا على صحفيين يرافقون القوى الغازية.

وتعتمد السياسة الخارجية للغرب على كذبة مركزية، مفادها أنَّ التدخلات العسكرية الإرهابية تخدم الحرية والديمقراطية، بينما من الواضح أنها تخدم فقط المصالح الاقتصادية والجيواستراتيجية، ويؤكد يورغن تودنهوفر أن التدخلات العسكرية المستمرة هي المسؤولة في النهاية عن التطورات الكارثية في جميع أنحاء العالم -وغالبًا ما يتم ذلك بمساعدة الحلفاء في أوروبا أو حتى في البلدان العربية. ويعتقد المؤلف أنه بسبب أية حرب تنتشر أكاذيب وأنواع من النفاق، غير أن الحرب القذرة على دول بعينها في الشرق الأوسط بلغت مستوى من التضليل الشامل لم يشهد له مثيل في الذاكرة الحية للبشرية. "فالحرب الدعائية تنطوي عادة على نمط يمكن التنبؤ به على نحو محبط من شيطنة زعيم العدو وبالتالي أنصاره، ذلك بواسطة تركيزها على بث أخبار اتهامات بفظائع مرتكبة" - حسبما قال الصحفي الأسترالي فليب نايتلي. أما تيم أندرسون فقد كتب يقول: "كنت طوال حياتي أسمع الأكاذيب عن ذرائع الحروب وفقا لتقارير متناغمة في وسائل الإعلام الغربية".

وفيما يخصُّ الدول الناطقة باللغة الألمانية، يقدم لنا الكتاب قراءة مختلفة تدحض فرضية الإعلام الألماني المستقل والحر، فقد ساهم هذا الإعلام الألماني في نشر ما يستهدف مؤسسات تلك الدول المعنية بالعدوان، بقصد تحويلها إلى دول فاشلة. وجدير بالاهتمام أن الكاتب ألماني (غربي) وأن الكتاب صدر بالألمانية وبالتالي استهدف الجمهور الناطق بالألمانية. ينتقد يورغن تودنهوفر أكاذيب الغرب والمسؤولين الألمان، ويعتقد أن "معظم الألمان يرون النفاق ويعرفون أننا نكذب عليهم"، ذلك أنه لا يوجد مكان في العالم يقاتل فيه الغرب من أجل قيم حضارته. ولكن حصرا لمصالحه قصيرة النظر. وحول دور ألمانيا، يقول تودنهوفر: "إن الألمان ليسوا المحرك الرئيسي في كل هذه الحروب، لكنهم جزء من ذلك، بتصنيعهم السلاح للدول التي تشن حروبا في الشرق الأوسط. ولأن ألمانيا قوة يمكن أن تكون وسيطًا للتوسط في السلام بجميع النزاعات تقريبًا، ومعظم الألمان لم يعودوا يقبلون سياستها العسكرية في أفغانستان وسوريا والعراق، والتي تقتل عشرات الآلاف من المدنيين، بدعوى أنها عمل إنساني، من أجل تحرير الناس الذين يرقد أطفالهم تحت الأنقاض، ينظر معظم الألمان من خلال هذا النفاق إلى الإعلام الألماني والمسؤولين السياسيين ويعرفون أنهم يكذبون عليهم عندما يقال إن الأمر يتعلق بإسقاط ديكتاتور. إنها تتعلق بالأهداف الجيوستراتيجية! في حين يستطيع الإعلام الألماني إيقاف النفاق الدموي للسياسة الغربية باعتباره حارسا للديمقراطية، ولا يجب أن يسمح بخداع الحكام للشعب عن دوافع الحرب الحقيقية والتغني بتدخلات عسكرية مميتة، بدعوى حملها للدور العالمي "مسؤولية الحماية" و"الواجب الإنساني" و"فكرة البطولة"، فلا يجب أن تنطلي على نظام إعلامي حر وهي ليست من أخلاقيات الصحفيين الأحرار؛ فازدواجية المعايير في اعتبار القصف الأمريكي "جيدا"، وقصف الطرف الثاني "سيئا" دمر مدنا ثقافية عالمية هي الموصل وحلب. وكان غزو العراق "أكبر برنامج لتربية الإرهاب في العصر الحديث، وأكبر حقبة للعنف، وكانت ألمانيا متورطة معهم، ولا تزال، كداعم متوارٍ"؛ مما خلق إرهابا جديدا. ففي الحرب بالقنابل ضد السكان المدنيين منذ أفغانستان، إستراتيجية جعلت عدد الإرهابيين يزيد مائة ضعف. واليوم يطالب المؤلف بإظهار المعنى الحقيقي للحرب: "الحرب تخلق قتلى وجرحى وعنفا وإرهابا". كانت العراق دولة حية وثقافية غنية ومستقرة وآمنة نسبيا، وفي العام 2003، أعلنت الولايات المتحدة نيتها مهاجمة البلاد مرة أخرى؛ لأن صدام حسين كان يمتلك أسلحة دمار شامل كيميائية. كذبة واضحة -أغرقت العراق والمنطقة بأسرها في فوضى- وهزت أوروبا أيضًا. ويعتبر المؤلف حرب العراق غزوًّا محضًا ومثالًا نموذجيًّا على ما يفعله الغرب. "على مدار الـ500 عام الماضية، لم نقم بغزو العالم بقيمنا وببراعتنا، ولكن بوحشية لا حدود لها، يعلم الجميع ذلك في آسيا، وإفريقيا، لكننا لا نعرفه حقًا. يعرف العالم كله أننا في كل هذه البلدان لم نحارب من أجل قيمنا، ولكن من أجل مصالحنا، من أجل السلطة، والأسواق، والمال، والنفط وما فعلناه، وما فعله الغرب بمهارة كبيرة -ولعدة قرون- ليس أمراً جيدا"، بينما أمريكا وبريطانيا تجنيان سنوياً مليارات الدولارات من مبيعات الأسلحة إلى دول الشرق الأوسط، وهو أحد الأسباب الرئيسية لعدم انتهاء الحرب.

... إنَّ هذا الكتاب غير موجَّه للألمان الغارقين في الأساطير الغربية، إنما للذين يحاولن فهمها؛ فقد أصبحت القصص الغربية في الإعلام الألماني مسرفة ويتوجب مجابهة التضليل الإعلامي في ألمانيا والغرب، حيث يصبح الصحفيون مدافعين شرسين عن الحرب الإنسانية ويتنكرون لأي منطق أو مبدأ فتسري في أخبارهم الأكاذيب التي تؤدي إلى تصور تلك البلدان على أنها قابلة للاستعمار. يؤكد تيم أندرسون ومؤلف هذا الكتاب على أن العبرة من كل هذا تقتضي أن نحذر القصص المنحازة، وتحثنا على البحث عن الأدلة الموضوعية، ونحذِّر نفاق الغرب وخداعه للرأي العام، وهو في نفس الوقت يقدم نداء صريحا ومؤكدا من أجل السلام، فالصمت ليس خيارا فـ"هؤلاء الأطفال هم ضحايا السياسة العالمية".

ويؤكِّد المؤلف أنَّ نفاق السياسة الغربية يهدد ديمقراطية ألمانيا. يتم الكذب على السكان في مسألة الحرب والسلام، وبالتالي يستثنون من كل صناعة القرار في الديمقراطية الحقيقية. الكثير من الناس يشعرون بهذا، إنهم يواجهون الأحزاب المعادية للديمقراطية. والشعبوية والعنصرية والقومية، والعنصرية، والوطنية لا تحل أية مشكلة؛ ممثلوها يميلون إلى رمي القيم المنافقة والملوثة لحضارتنا في الخارج والمتابعة العلنية لسياسة أكثر فائدة. والغرب يحتاج ثورة إنسانية خالية من العنف. بدل استغلال قيم حضارته من أجل تعنيف شعوب وثقافات أخرى، يتوجب عليه تنفيذ وعوده عبر قرون من أجل الإنسانية. وشعوب أخرى وثقافات معاملتها تماما كما يريد هو أن يُعامله الآخرون. وأينما تعلق الأمر بالمصالح، يتوجب على السياسة أن تقول هذا علناً. إذا كانت هذه المصالح معقولة ومشروعة ولا تنهض على أنقاض حقوق الآخرين، فلا يوجد سبب لإخفائها. وسائل إعلام ألمانيا يتوجب عليها لعب دور مركزي في الثورة الإنسانية. في الغالب هي تبدو مرتبطة بالقوى، تغطي على نفاقها، بدلا من أن تعريها وتفضحها. بينما سقوط حضارة يبدأ مع فقدانها للمصداقية، وحين يستمر الغرب في نفاقه يتوجب على الإعلام منع هذا، هذا يستحق مجهودا من أجل الدفاع عن الحرية والمساواة والأخوية ومن أجل حقوق الإنسان والديمقراطية وسلطة القانون عبر حركة سياسة جديدة.

يقدِّم الكاتب ثلاثة نماذج من الصحافيين الألمان الذين يدعمون "التدمير مع إستراتيجية الفوضى الإجرامية للغرب". هلل جوزيف يوفه المحرر بصحيفة دي تسايت، لحرب الناتو على ليبيا، وأطلق عليها "حالة السعادة" كما تمنى بشغف منقطع النظير رؤية تدخل عسكري غربي فيها. وكتب في 2013 أنه "يجب ضرب محطات توليد الكهرباء، ومراكز الاتصال، والمصانع، والجسور، ومن الأفضل: ضرب محطات توليد التزود بالوقود، والمطارات والموانئ، ويجب أن تكون الضربة قاتلة". أما شتيفان كورنليوس مدير السياسة الخارجية لصحيفة جنوب ألمانيا، فقد وصف قصف الناتو لليبيا "بالقرار الشجاع، ورفض ألمانيا للحرب ضد العراق "بالغبي" و"الخاطئ"، وتوعّد ألمانيا بالعزلة. في حين تحدث تولد كولر محرر بصحيفة فرانكفورت الشاملة، عن واجب حماية القيم الغربية بأرتال عسكرية؛ فبدون ضحايا لا يمكن الانتصار في هذا القتال، وأكد على شرعية الحروب الغربية في الشرق الأوسط والأدنى. ويتساءل المؤلف: ما الفرق بين هؤلاء الصحفيين الألمان وزملائهم في نيويورك تايمز أو الواشنطن بوست؟ -ويقول إن "جوته احتقر الأشخاص الذين يجلسون في غرفة دافئة وينشدون أغاني الحرب".

وعبر المؤلف عن صدمته من خبث رجال السياسة الغربيين وخبث الإعلام الألماني، الذي استحق "السعفة الذهبية لازدواجية معايير الأخلاق". يمدح المؤلف الصحفيين الألمان بالقول إن هؤلاء الصحفيين الثلاثة لا يمكنهم التحدث باسمهم، ذلك أن أغلب الصحفيين الألمان يقفون إلى جانب السلام، لكن مثل هؤلاء الصحفيين الثلاثة يمثلون وسائل الإعلام الرائدة والقوية، وهم قادة الرأي الألماني، كما أنهم شركاء في اتحاد الناشرين لمشروع الهيمنة الغربية على العالم، أما أن يكونوا شركاء في الاتحاد ضد النفاق الغربي فلا يمكن؛ ذلك أن الإعلام القوي ينجذب إلى السلطة القوية. إن أكبر مشكلة هي شعور هؤلاء الصحفيين بالراحة بالقرب من السلطة، وفتنوا بأجواء السلطة، فنسوا دورهم المتمثل في دور الحارس، وحين يقومون بمحادثة طويلة مع أحد الساسة، لن تجد في مقالاتهم كلمة نقد واحدة. لقد عمل المؤلف عشرين سنة في السياسة واثنين وعشرين سنة في الإعلام، وعرف عددا لا يحصى من الصحفيين المؤثرين في الغالب، ويحس بالراحة معهم دائما، وهم يقفون دائما مع السلام، حتى في الصحف الرائدة والكبيرة. فكيف لا يتأتى لنا سماع صوتهم في فترات حاسمة إلا نادرا؟ ولماذا يصعب عليهم تموقعهم ضد مؤيدي الحرب اللامسؤولين؟ إن السبب يكمن في كون هؤلاء الصحفيين محكومين بسياسة دور الصحافة ورؤساء التحرير، وهم غير محميين من تدخلاتهم، والقانون يضمن حرية الصحافة الخارجية، لكنه لا يضمن حرية الصحافة الداخلية. رغم ذلك يصر المؤلف على توجيه نداء، ويضم صوته إلى صوت فريدريش شيللر حين قال: "امنحوا حرية التفكير، سيدي"، أو ما يسميه المؤلف "التسامح النشري".

قام المؤلف بتقديم ملخَّص تجاربه في نهاية هذا الكتاب على النحو التالي: إن تاريخ الغرب تاريخ وحشية وتاريخ نفاق كبير. وفي كل مكان في العالم لا يقاتل الغرب من أجل قيم حضارته، بل في النهاية من أجل مصالحه قصيرة النظر، من أجل السلطة، والأسواق، والثروة. وغالبا ما يستعمل طرقاً إرهابية، ولا يهتم بآلام الشعوب الأخرى والثقافات. ومن أجل تأكيد مصالحه، يغلفها الغرب بقيم نبيلة، مثل حقوق الإنسان والحرية والمساواة والأخوّة والديمقراطية، خاصة سياسته الخارجية التي تُعدّ تغليفاً خادعا. وسياسة المصالح المرتكزة على الذات الغربية والمغلفة بالقيم، وجدت في مصالح النخبة الحاكمة. لكنها لا توجد في مصالح شعوب هذا العالم. وحتى إنسان أوروبا يتوجب عليه دفع ثمن سياسة مصالح النخبة الحاكمة القصيرة النظر بواسطة حروب قذرة. وحين يدفع الغرب بسياسة المصالح قصيرة النظر عالميا، يعايش كل كوارث تاريخه من جديد، فلا يمكن دهس مصالح الشعوب الأخرى والثقافات بلا نهاية، دون أن يدفع هذا الغرب ذات يوم ثمنا دمويا.

------------------------

- الكتاب: "النفاق الكبير.. كيف يخون الإعلام والسياسة قيمنا!".

- الكاتب: يرغن تودنهوفر.

- الناشر: GmbH، برلين، طـ 2، 2019، بالألمانية.

- عدد الصفحات: 305 صفحات

 

* باحث في الدراسات الثقافية المقارنة - الرباط/المغرب

أخبار ذات صلة