«الفلسفة الإسلامية واليهودية في الأندلس»

81kEKEQC6hL.jpg

سارة سترومسا

مُحمَّد الشيخ

يطمحُ هذا الكتاب إلى أنْ يكون مروية شاملة تجمع أشتات ما تناثر من أنظار فلسفية لدى فلاسفة الأندلس ـ مسلمين ويهودا. وقد استغرق من مؤلفته عقدين من الزمن روت فيهما أفكارها من "آراء فطيرة" إلى "آراء خميرة"؛ إذ شرعت فيه بعد أن كان الفكر الفلسفي المشرقي قد استغرق اهتماماتها بالكامل إلى حدود عام 2000، لكن يعود الفضل إلى ابنتها راشيل التي لفتت عنايتها من مشرق العالم الإسلامي إلى مغربه. وقد سعى هذا الكتاب إلى أن يروي لنا ما سمته المؤلفة "الفكر التأملي" -الإسلامي والعبراني- عبر تطوره في شبه الجزيرة الإيبيرية فيما بين القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي والسادس الهجري/الثاني عشر الميلادي. ويشير الاسمان الواردان في العنوان "الأندلس" و"السفاراديم" [اليهود المنحدرون من إسبانيا والبرتغال]، إشارة وصل لا إشارة فصل، إلى الثقافتين الإسلامية واليهودية في شبه الجزيرة الإيبيرية، وذلك في مروية واحدة شاملة.

ما كان هذا الكتاب يتناول تناولا حصريا وشموليا ونسقيا لتاريخ الفلسفة بالأندلس؛ إذ لا يدعي أنه يروم أن يستقصي آراء كل المفكرين ومجمل أعمالهم، كما لا يزعم أنه يسعى إلى تحليل كل أفكارهم الجوهرية.. لا ولا كان هذا الكتاب تاريخا فكريا شاملا للأندلس؛ بحيث يؤرخ هو للفكر الأندلسي منذ بدئه إلى ختمه... فيشمل الفلسفة الصوفية برمتها والفكر الشرعي بمجمله والفكر العلمي في معظمه.

إنما هذا الكتاب:

- أولا: سعي إلى مراجعة الصورة المرسومة عن الفكر الفلسفي الأندلسي، وذلك في إطار جديد تعتبره صاحبته "أشمل" و"أدمج... ".

- ثانيا؛ محاولة لاقتراح طريقة جديدة في سرد مروية الفلسفة الإسلامية والعبرانية بالأندلس تقوم على أنقاض المروية القديمة التي ينبغي في رأي المؤلفة تجديدها.

ومن بين مزايا هذا الكتاب أنه يذرع -ذهابا ومجيئا- مظانَّ الفلسفة الأندلسية؛ وذلك بالعودة إلى المصادر القديمة -تحقيقا- والاستئناس بالمراجع الحديثة -تدقيقا ووقوفا عند بعض مظاهر البلى التي أصابتها... وذلك بحكم ما تسميه المؤلفة أسوة بالتقليد الألماني "روح العصر"- إذ في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ركز الباحثون المحدثون على ما سموه -تعصبا- "العبقرية الإيبيرية" التي حرمت الأندلسيين -مسلمين ويهودا- من كل تميز، لكن هؤلاء الباحثين انتهوا من حيث لا يحتسبون -ويا للمفارقة- إلى التنبيه على أهمية هذا الفكر المراد إقصاؤه.

ومن مزايا هذا الكتاب أيضا أن المؤلفة -وهي محقة في ذلك لا شك عندي- سعت لإدماج الفكر اليهودي في مروية الفلسفة الأندلسية العامة، وهو الفكر الذي عادة ما تم تغافله في المدونة الرسمية للفكر الأندلسي... بينما تم بالمقابل التنبيه على الأثر الإسلامي في الفكر العبراني الأندلسي.

هذا.. ويتكون هذا الكتاب من خمسة فصول، فضلا عن مقدمة وكلمة شكر وخاتمة ولائحة مصادر ومراجع. وها هنا لمحة موجزة عما احتوته هذه الفصول:

 

الفصل الأول - البدايات

منظور هذا الفصل سرد بدايات الفكر الفلسفي بالأندلس في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، وذلك بعد أن بدأت تتغير النظرة الأندلسية السنية المحافظة إلى الفلسفة والعلم. وفيه عرض للتجليات الأولى لما سمته المؤلفة "الفلسفة النسقية" بالأندلس ولسياقها السياسي؛ فكان أن تحدثت عن الكتب والمكتبات بالأندلس، مستندة في ذلك إلى رواية ابن صاعد -صاحب "طبقات الأمم" صاعد الأندلسي- عن مجهودات الخليفة الحكم في استيراد كتب الحكمة من المشرق، بما في ذلك كتب اليهود الدينية. ورغم الانتكاسة التي شكلها الحاجب أبي عامر من خلال احراق كتب العلم والفلسفة، فإن العناية بعلوم الأوائل ما انتهت حتى وإن توارت مؤقتا.

وتعرف المؤلفة بأول مفكري الأندلس المستقلين الصوفي المتفلسف ابن مسرة (269 هـ/319 هـ)، مسلطة الضوء على مجمل فكره ومدرسته، مسترشدة بمخطوطات المؤلف وبما ورد عنه في كتب التراجم وغيرها من الشروح، منتهية إلى أن فكر الرجل كان ذا نفس صوفي مستملى من الأفلاطونية المحدثة. لكن جديدها هنا يكمُن في ربطها فكر ابن مسرة الباطني والقائم، في قسم منه، على تأويل حروف القرآن -الحروفية- بالفكر العبراني، مُوحِية بأنَّ بعض تأملات ابن مسرة الباطنية في الحروف قد تكون مستملاة من كتب عبرية مشرقية قديمة، ومشددة على أن مسالك الأفكار بين المسلمين واليهود لم تتخذ طريقا واحدا... وتنهي فصلها بالحديث عما تعرضت له المسرية من اضطهاد بتعلة إيمانها بخلق القرآن على الطريقة الاعتزالية وادعائها اقتباس نور النبوة.

 

الفصل الثاني - المدارس الكلامية والفقهية

في بداية هذا الفصل، تلاحظ الباحثة أنه لئن هي ارتبطت المدارس الفلسفية في الغرب، منذ البدء الإغريقي، بأسماء فلاسفة ـ شأن الفيثاغورية والأفلاطونية والأرسطية...ـ فإنه في العالم الإسلامي ارتبطت بالدين وبالفكر الديني. ومن ثمَّ عد علم الكلام وعلم الفقه مكونين أساسيين في دراسة الفلسفة الإسلامية. ولهذا خصصت المؤلفة هذا الفصل للحديث عن المشهد الأندلسي في علم الكلام وعلوم الشرع، على الرغم من تعقد هذا المشهد واتساع آماده. ولما استحالت الإحاطة بكل المدارس الكلامية والشرعية بالأندلس، ركزت الباحثة على مدرستين: واحدة كلامية هي المدرسة الاعتزالية، والثانية فقهية هي المدرسة الظاهرية، كما شددت على أصداء هاتين المدرستين لدى معاصريهما من اليهود القرائين -الذين قبلوا بمرجعية الميشنا والتلمود والربانيين، الذين لم يقبلوا بهما عائدين إلى النص التوراتي وحده.

 وفيما يخصُّ الاعتزال، لاحظت الباحثة أنَّه يكاد يكون من شدة ظهوره واختفائه معا أن يكون بمثابة الشبح. وعلى الرغم من هذه الشبحية التي لم تترك أثرا مكتوبا، فإن حضوره كان قويا في المذاهب اليهودية حتى وإن لم تعتبر نفسها بالأولى اعتزالية. وهو ما شَهد به ابن ميمون. ودليلها على ذلك ما كتبه يهودا اللاوي في الكتاب الخزري "كتاب الرد والدليل في الدين الذليل"، ويوسف بن صديق في كتابه "العالم الصغير". أكثر من هذا، عادة ما لجأ الربانيون إلى الاحتجاج بالأقوال الاعتزالية ضد القرائين.

أمَّا عن المدرسة الظاهرية، فإنَّ المؤلفة لا تشير إلى صلتها بيهود الأندلس، وإنما تكتفي بالإلماع إلى موقف هذه المدرسة من الدولة الموحدية ومن غريمتها الفقهية المالكية، كما تكتفي باستلهام بعض أفكار كاميليا أدانغ عن ظاهرية بغداد وظاهرية الأندلس وعن ابن حزم الأندلسي.

 

الفصل الثالث - النخب الفكرية

وترى المؤلفة أن فلاسفة الإسلام، شرقا وغربا، كانوا يتفلسفون في أمر الحياة؛ أي يسعون إلى تحقيق الكمال للنفس البشرية الفردية، لكنهم بحكم كونهم مثقفين، كانوا مندمجين في مجتمعاتهم ثقافيا وسياسيا، إلا أنه كان اندماجا مع النخب لا اندماجا مع العوام. ولهذا تخصص هذا الفصل للحديث عن الوجه الاجتماعي لهؤلاء المثقفين، فتركز على المثقفين الأندلسيين (يهودا ونصارى ومسلمين) باعتبارهم حاشية السلاطين والأمراء، ومتقلدي الوزارة في العديد من الممالك، وباعتبارهم شعراء، وباعتبارهم فلاسفة، كما تنبه على مسار الفيلسوف في تكوينه وتربيته وتثقيفه وإجازته؛ أي على صناعة الفيلسوف الأندلسي من الطالب المبتدئ إلى الحكيم المنتهي. وتذكر بهذه المناسبة نماذج يهودية (أبو الفضل بن حسداي) وإسلامية (ابن باجه)، مشيرة إلى شعور الفيلسوف أحيانا بالغربة في مجتمعه ـ الفيلسوف النابتة وكيفية تدبير المتوحد (ابن باجه، ابن ميمون) ـ وإلى صحبة نموذجية أكانت جمعته مع أهل ملته (باروخ بن باليا ومايير بن مغاش من اليهود، وابن باجه وابن الإمام من المسلمين) أم بمن خالفه في الملة (أبو بكر بن الصائغ بن باجه وجعفر يوسف بن حسداي). وبالجملة، قامت الحياة الفلسفية الأندلسية على أنخاب مختارة، فكانت حياة خلوة مهما كان الفيلسوف مندمجا في الحياة السياسية (وزير) أو الاجتماعية (حكيم طبيب).

 

الفصل الرابع - فتوحات أفلاطونية محدثة

وتذهب الباحثة إلى أن الأفلاطونية المحدثة لعبت -في صورة رسائل الدعاة الإسماعيليين ورسائل فلاسفة إخوان الصفا- دورا كبيرا في العالم الإسلامي بعامة، وما كانت الأندلس في هذا ببدع. وقد وصل تأثيرهما إلى الأندلس في القرن العاشر الميلادي. على أنه حدثت مقاومة لهما في الأندلس تمثلت في صراع الأندلسيين -السياسي والفقهي- ضد الجيران الفاطميين. وقد أوقفت الباحثة هذا الفصل لتحليل مسألة جاذبية الأفلاطونية المحدثة في الأندلس خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين. فكان أن استقصت مسلكي الأفلاطونية المحدثة إلى الأندلس: تمثل المسلك الأول في رسائل الإسماعيلية، لا سيما منها رسائل الكرماني. وعلى خلاف ما يعتقد، لم تكن الحملة الأندلسية ضد الفلسفة موجهة، بالأولى، ضد المشائية (الأرسطية) وإنما كانت موجهة، بالأحرى، ضد الأفلاطونية المحدثة، كما دل على ذلك اضطهاد ابن مسرة الذي كانت فلسفته قد نهلت من الأوساط الإسماعيلية. وأما المسلك الثاني ـ مسلك رسائل إخوان الصفا ـ فقد ظهر أثره واضحا في ابن السيد البطليوسي. ثم تستقصي الباحثة أثر الأفلاطونية المحدثة على مفكري اليهود الأندلسيين، من خلال تتبع أثر كتاب "الحدائق" لابن البطليوسي على الفكر اليهودي الأندلسي وترجماته المتعددة إلى العبرية. ثم تعرج على الحديث عن المفكرين اليهود وكيف أنهم، وعلى خلاف المفكرين المسلمين، لم تنلهم مطاردة الريبة اتجاه الباطنية والمسرية، بل ازدهر لديهم قول فلسفي بعض إيحاءاته أفلاطونية محدثة وصوفية إسلامية: ابن فاقودة (صاحب كتاب "الهداية إلى فرائض القلوب") والمحاسبي، سليمان بن جبيرول (صاحب كتاب "ينبوع الحياة") وتأثير الأفلاطونية المحدثة فيه، وإسحاق بن غياث وصلته بإسحاق الإسرائيلي، وابن عزرا في كتابه "مقالة الحديقة في معنى المجاز والحقيقة"، وابن عزرا الآخر ويوسف بن صديق... إذ في العديد من نصوصهم أثر بيِّن للقراءة الإسماعيلية الشيعيىة للأفلاطونية المحدثة... وفضلا عن الأفلاطونيين المحدثين، تفرد المؤلفة فقرات لمن أسمتهم "فلاسفة توفيقيين" ألفوا بين مذاهب فلسفية شتى، شأن أبي بكر بن طفيل وأبي الحسن بن يهودا اللاوي.

 

الفصل الخامس - السنية الأرسطية الجديدة وثورات الأندلس

وترى المؤلفة أنَّ القرن الأخير من حياة الفلسفة الأندلسية كان تراجيديًّا. وقد تمثل في تغلب ما سمته "النسخة الأرثوذكسية من الفلسفة الأرسطية" كردة فعل ضد هيمنة الأفلاطونية المحدثة؛ مما نجم عنه تقوية مرجعية أرسطو وشراحه. وقد بدا هذا الأمر بدوه الأول مع ابن باجه خلال حكم المرابطين، ثم سرعان ما تقوى مع ابن رشد وابن ميمون خلال حكم الموحدين... وقد تتبعت المؤلفة مسالك دخول الأرسطية إلى الأندلس، وطبيعة التربية والدعوى الموحدية، وصلة الموحدين بالفلسفة، وصلة الفلاسفة بالموحدين، كما أشارت إلى الثورات الأندلسية ضد ما سمته "أصولية الموحدين"... رابطة أحيانا بين ما يصعب الربط بينه: أصولية الموحدين وكليات ابن رشد الطبية! ثم وقفت عند سمات ما سمته "المدرسة الأرسطية الأندلسية"، وقد اعتبرتها نزعة "أصولية طبيعية"! والتي كانت أوبة إلى أقدم من الأفلاطونية المحدثة؛ أي إلى أرسطوطاليس.

لكنَّ سياسة الموحِّدين الدينية المتشددة ألجأت اليهود إلى إسبانيا المسيحية، فكنا أمام مبكري ممثلي الأرسطية في شبه الجزيرة الإيبيرية: ابراهام بن داود الذي ألف كتاب "العقيدة الرفيعة" في نقد الأفلاطونية المحدثة، لا سيما عند ابن جبيرول ويهودا اللاوي. وقد قارنت المؤلفة بين أرسطيته وأرسطية ابن رشد وابن ميمون، فوجدتها "أقل أصولية" و"أكثر انفتاحا على ابن سينا"، وهي ممتزجة بعناصر من الأفلاطونية المحدثة على الطريقة السينوية والسعدية (سعديا بن جاوون).

وعلى سبيل الختم.. تلك هي مروية الفلسفة الأندلسية -الإسلامية واليهودية- الجديدة التي روتها لنا سارة سترومسا: من البدايات الأولى مع المسرية إلى النهاية مع الميمونية. لكن للحكاية بقية: كلا، لم تنته الفلسفة الإسلامية بنهاية الفلسفة الأندلسية، بل استمرت الفلسفة إما في صورة فلسفة صوفية هاجرت شرقا (ابن عربي وابن سبعين) أو في صورة فلسفة هاجرت غربا بعد سقوط طليطلة ونشوء مدارس الترجمة بكنائس أوروبا، والتي أدركت أن قوة الأندلس كانت تكمن في فكرها، فسعت إلى تملكه بعد أن أفل أهله، أو في صورة تحول التصوف الإسلامي إلى تصوف يهودي (القبالة). هكذا، عمدت المؤلفة إلى رصد تنقل الأفكار هذه المرة بين الثقافة الإسلامية والثقافة النصرانية ـ جيئة وذهابا وغدوة ورواحا. ترى ما الخيط الناظم لهذه المروية ثلاثية الملل -الإسلام واليهودية والنصرانية- وثلاثية الفلسفات -الأفلاطونية والأمباذوقليسية المنحولة والأفلاطونية المحدثة؟- جواب المؤلفة: هما أمران: التوحيد والتأويل الصحيح لصفات الله. هي إذن مروية واحدة إذن ثلاثية الشخوص أو هي بمثابة سجادة ثلاثية الألوان. فلا ينبغي -على عكس ما جرت به العادة- الاكتفاء من المروية بشخص واحد، لا ولا النظر إلى السجادة من خلال لون أوحد.

أخيرا، وعلى الرغم من جهود المؤلفة في هذا الكتاب، فإنه ظل سجين الرؤية الاستشراقية لتاريخ الفلسفة الإسلامية، إن مشرقا أو مغربا، بحيث يحاول "إعادة" أوصال هذه الفلسفة، بعد أن يقطعها تقطيعا، إلى هذا المذهب الفلسفي اليوناني أو ذاك، فيشرح لنا في أحيان كثيرة كيف تم نقل هذه الفكرة أو استملاك تلك، لكنه قد يعجز عن الجواب: لِم تم اختيار هذا المذهب وتبنيه بدل ذلك؟ ذاك هو السؤال الذي كان طرحه محمد أركون منذ أزيد من نصف قرن من الزمن على المستشرقين وحاروا في شأن جوابه.. وتظل الحيرة مستمرة!!

------------------

- الكتاب: "الفلسفة الإسلامية واليهودية في الأندلس".

- المؤلفة: سارة سترومسا.

- الناشر:  مطابع جامعة برينستون، (برينستون وأكسفورد)، 2019م.

- عدد الصفحات: 220 صفحة.

أخبار ذات صلة