مارتن بودري
سعيد الجريري *
على عكس المفكرين المتشائمين الذين ما انفكُّوا يُعلنون أنَّ العالم على شفا الانهيار، يقف الفيلسوف الفلمنكي مارتن بودري أستاذ الفلسفة والعلوم الأخلاقية بجامعة خنت البلجيكية، مدافعاً قوياً، على نطاق واسع، في كتابه الجديد، عن التفكير المغاير، في سياق بحثه عن رموز وصور التشاؤم حول المناخ، والأسلمة، والعنصرية المتنامية، واللامساواة، والقنوط العميق في الذات الغربية. ويرى بودري -مجادلاً بالقيم التي اختبرها العلم والتنوير- أن التفكير التشاؤمي لا يؤدي إلى إطلاق مفاعيل التغيير، وإنما إلى قدَرية الاستسلام لهاجس العجزعن تغيير الأمور والأحداث والتحكم في مآلاتها. وعلى العكس من ذلك، تكون فاعلية التفكير غير التشاؤمي. فالعالم -في تصوره- لم يعش قطُّ فترة طويلة، مزدهرة وسلمية للغاية، كما هي الحال اليوم، ولم يكن قطُّ أفضل مما هو عليه الآن، ويمكننا أن نجعله أفضل.
مَنْهَجَ المؤلفُ رؤيتَهُ في ستة فصول مسبوقة بمقدمة، ومتلوَّة بخاتمة، بلوَر فيها كيفية التغيير إلى الأفضل: جذور التشاؤم المعاصر، وهيمنة الاعتقاد بأن العالم يتدهور -الخطيئة الأولى القابلة للمحو، واختفاء العنصرية- وهاجس عدم المساواة وكيف يصبح كل فرد أغنى (والأغنياء أكثر) -حول طاحونة التشاؤم وصناعة السعادة- وأضغاث أحلام الليبرالية الجديدة، وتأثير الحرية -انهيار الغرب وتصور الأسلمة- والتلوث البيئي ولماذا لا ينهار كوكبنا؟، وكيف يمكننا أن نجعل العالم أفضل؟
وفي سياق الجدل حول الدين والحداثة، يقف المؤلف إزاء موقف الإسلام والمسيحية (أو الثقافة المسيحية اليهودية) من الحداثة، فيخلص إلى أنَّ الحداثة ترسخت في أوروبا رغماً عن المسيحية، وليس بفضلها، تماماً كما شهدت بغداد العباسية فترة ازدهار وتنوير، لكن ليس بفضل الإسلام، فليس لدى الإسلام ولا المسيحية -كما يرى- تقبلٌ، بشكل طبيعي، للتنوير. ويعجب بودري من تقليل مفكري "الأسلمة" من شأن الحداثة الغربية وقوتها، واصفاً الأصولية بأنها تشنج في نظام الاعتقاد مهدد بالحداثة. لكنه يستدرك بأن لدى المفكرين المتشائمين من الأسلمة نقطة أكيدة. فالغرب يواجه اليوم مشكلة خطيرة تتمثل في الأصولية والتعصب بين المسلمين الأوروبيين، فقد كانت هجرة اليد العاملة الهائلة منذ عقود قليلة متهورة وتفرز الآن جميع أنواع المشاكل غير المتوقعة، مشيراً إلى مقولة البريطاني دوغلاس موراي في كتابه "موت أوروبا الغريب" سياسة قصيرة الأجل نتج عنها أطول تداعيات ممكنة، وما يراه من إقدام أوروبا على الانتحار إذ تستقبل أفواج المهاجرين واللاجئين، ولاسيما المسلمين الأصوليين!
ويرى بودري أن السؤال المهم الآن هو حول ما إذا كانت العقيدة الإسلامية قادرة على التغيير والتحديث؟ بمعنى هل سيتصالح الإسلام مع الديمقراطية الليبرالية، كما فعلت الكاثوليكية مع المجمع الفاتيكاني الثاني؟ لذلك فإن بنا بحاجة -يقول- إلى فتح النقاش والنظر في أوجه التشابه والاختلاف بين الإسلام والمسيحية.
ويعتقد المتشائمون أن ما يسمى بـ"الإسلام الليبرالي" هو وهم ساذج من أوهام المثقفين الغربيين الذين لا يفهمون طبيعة هذا الدين الحقيقية. أثمة تنوير في الإسلام؟ لننسَ ذلك، ففي تاريخه الطويل، يقول المتشائمون، خنق الإسلام كل محاولات الإصلاح والتحديث. وفي كل مرة كان على اتصال مع حضارة أخر، كان الإسلام هو الذي ينتصر. وفي كل مرة يتم فيها فتح طريقة أكثر عقلانية للقرآن، يتم إقصاء الإصلاحيين أو قتلهم أو إسكاتهم. فاليد العليا دائماً للأصوليين، ومنذ أن أُغلِقت "أبواب الاجتهاد" (تفسير النصوص المقدسة)، بدا الإسلام ضيقاً ويقاوم أي تغيير.
هنا، عادة ما يؤكد هؤلاء المفكرون على ما يسمونه أحيانًا "الثقافة اليهودية المسيحية"، زاعمينَ أن بذور العلمنة كانت دائمًا محاطة بالمسيحية، كما يتضح بالإحالة إلى إنجيل مرقس (12: 13-17): "أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ". ومن ناحية أخرى، فإن أحكام الإسلام وقواعده تشمل كلَّ جانبٍ من جوانب الحياة البشرية؛ بحيث لا يوجد تمييز بين المجال الديني والدنيوي. إضافة إلى ذلك -ووفقاً للفيلسوف الألماني الفلمنكي ويم فان روي- فإنَّ الإسلام حريص بشكل طبيعي على الخضوع وحافل بعلامات التفوق؛ باعتباره الوحي الأخير والنهائي لله؛ لهذا يرى في الإسلام نظام فكر استبداديا، يماثل، في خطورته، النازية تماما، على حد تصوره.
ووفقاً لفان روي، يمكن أيضاً وصف الثقافة المسيحية اليهودية بالتعطش أو الفضول المعرفي، وهذا ما يفسر سبب قيام المفكرين المسيحيين بالثورة العلمية، ويجيب عن سؤال لماذا حدثت الحداثة في أوروبا الغربية المسيحية، وليس في بغداد أو إسطنبول الإسلاميتين. إن هذا الفضول المعرفي المسيحي ودافعية المعرفة غائبان تماماً عن الإسلام؛ بحيث "لا يوجد تقدم ممكن ولا يوجد تقصٍّ للحقيقة" وهكذا، كما قال الفرنسي إريك زيمور مؤخرًا في صحيفة "دي مورخن" البلجيكية "إنه حلم غربي أن نعتقد أن في الإمكان تكييف الإسلام مع أوروبا".
هذه الحُجج حول الفجوة العميقة بين الإسلام والمسيحية أو الثقافة اليهودية المسيحية -يقول المؤلف- لا قيمة لها إلى حد كبير. إنها مزيج من التأريخ السيئ، والاعتذارات المسيحية وما يسميه في الأوهام المتقدمة "استرجاع عبادة الأصنام": إسقاط الرؤى الحديثة والحساسيات حول النصوص الدينية القديمة.
من النظرة الأولى، تبدو النظرية معقولة، لكن إذا ما قرأت أوائل المفكرين في أوروبا الغربية الحديثة؛ فسترى كيف حاولوا إيجاد مبررات لأفكارهم الجديدة في الكتاب المقدس. ومع ذلك، كان السبب الرئيس هو الضرورة السياسية. فالطريقة الوحيدة لجعل الأفكار الجديدة، حول الأبحاث الحرة والتفكير النقدي، قابلة للحياة في ثقافة دينية خانقة، هي العثور على أدلة في الكتاب المقدس نفسه. هذا هو بالضبط ما فعله العلماء الأوائل مثل غاليليو وفرانسيس بيكون.
وفي هذا السياق التاريخي وبسببه؛ حيث تم "دمج" الأفكار الحديثة في المسيحية، يتشكل انطباع بأن "فرخ" الحداثة كان دائماً في "بيضة" المسيحية، وأنه سيظهر عاجلاً أم آجلاً، وهذا ما يريد اللاهوتيون المسيحيون المعاصرون أن نصدقه، بعد أن تصالحوا مع الحداثة. فلقد قاومت المسيحيةُ الحداثةَ طويلاً، وبضراوة. ونظرت السلطات الدينية إلى البحث العلمي بشك كبير، وأدرج الفاتيكان جميع الأعمال المهمة لعصر النهضة والتنوير المبكر في قائمة الكتب الممنوعة: مكيافيلي، إيراسموس، كوبرنيكوس، بيكون، كبلر، ديكارت، سبينوزا، هيوم، كانط، وديدرو.. وغيرها الكثير.
ويتساءل بودري: إذا كانت المسيحية تحتوي، بشكل طبيعي، بذور الحداثة، فلماذا استغرق الأمر ألفية من الفوضى قبل أن تؤتي ثمارها؟ فمنذ أن أعلن الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس المسيحية ديناً للدولة في عام 380 وحظر جميع الديانات الوثنية، كان للمسيحيين السيادة في أوروبا الغربية. لكن لم يكن هناك، في هذا الوقت كله، أي علامة على ذلك الفضول المعرفي، فقد تم، على العكس، تدمير أجزاء كبيرة من الحضارة اليونانية والرومانية.
ويضيف: في العصور الوسطى المسيحية، تعرض اليهود للاضطهاد والنفي والمذابح بانتظام، بينما كان التسامح مع اليهود، على الطرف المقابل، أعلى بشكل عام في مختلف الإمبراطوريات الإسلامية منه في أوروبا المسيحية. فقد بدت الحضارة الإسلامية، في مرحلة معينة، منافساً أفضل. وفي ظل الخلافة العباسية في بغداد، كان للحضارة الإسلامية تقدم كبير على أوروبا الغربية المسيحية، يوازيه اقتصاد سوق مزدهر، وأدب غني وتقاليد فلسفية. وكانت بغداد في هذا العصر الذهبي، تُعد مكاناً للقاء العلماء من مختلف الثقافات والتقاليد الدينية، وكان الخلاف ممكناً حول قضايا الفلسفة والعلوم بحرية (وفقًا للمعايير). فالتنوير ليس ابتداعاً أوروبياً فريداً في نوعه. إنه نظام من الأفكار التي اشتعلت في أماكن عديدة وفي فترات زمنية مختلفة، ثم خبت للأسف مراراً وتكراراً.
لكنَّ المؤلف -وهو ينزع قابلية العلم والتنوير عن الإسلام والمسيحية على حد سواء- يستطرد قائلاً: تؤمن كلا الديانتين بأن إلههما كلي العلم، قد كشف عن نفسه في شكل كتاب مقدس معصوم، يحتوي على المعرفة الكلية التي يحتاجها المرء بما لا يفضي حقاً إلى البحث عن معرفة جديدة. وقد عاقبت الديانتان الردة والبدعة الدينية، وكانتا تشكّان في فضول الإنسان المعرفي وتفكيره النقدي؛ لأنهما يصرفان عن الحقيقة الإلهية الأبدية. علاوة على ذلك، فإن كلا الديانتين مرتبطتان تاريخياً ارتباطًا وثيقًا، لكنهما، بطبيعة الحال، ليستا متطابقتين، فقد يبدو الإسلام في بعض النواحي مطاوعاً للحداثة. وتتمثل إحدى نقاط الاختلاف في أن نبي الإسلام كان قائدًا سياسيًا عصياً ناجحًا، حيث صنع رسالته السياسية -لاسيما في المرحلة المدنية- على العكس من يسوع الذي لم يكن قائدًا سياسيًّا، وظل يبشر بشكل أساسي برسالة السلام والإحسان، مثله مثل النبي محمد في بدايات الدعوة الإسلامية.
على أن معظم المسيحيين يميلون إلى اعتبار أن الكتاب المقدس من عمل الأيدي البشرية، وإن يَكُن مستوحًى من الله، بينما يعتقد المسلمون أن القرآن وحي مباشر من الله من الحرف الأول إلى الأخير. بهذا المعنى، تكون للقرآن لدى المسلمين المكانة نفسها التي لشخصية يسوع لدى المسيحيين، أو كما قال الفيلسوف الأخلاقي الفلمنكي باتريك لوبويك: "في المسيحية، أصبحت الكلمة الإلهية جسدًا، بينما بقيت الكلمة في الإسلام نصية" وهذا يتيح مساحة أقل للتفسير الإبداعي.
على أي حال، حتى قبل بضعة قرون، كان المسيحيون، على الأقل، متعصبين وعنيفين وقمعيين مثل المسلمين الأصوليين المتشددين، فكل أشكال الهمجية، تقريباً، التي يمارسونها اليوم في العالم الإسلامي كان لها نظير في تاريخ المسيحية، مثل حرق الهراطقة أحياء، وأحكام الإعدام على التجديف، والقمع الوحشي للمنشقين والإصلاحيين، والحرب المقدسة ضد الكفار. إن المسيحية كانت سيئة بقدر ما ينبغي للإسلام أن يجعلنا متفائلين -يقول المؤلف- وهي لم تختف من على وجه الأرض -بل ما زالت أكبر ديانة في العالم- لكنها فقدت أسنانها، خاصة في العالم الغربي، وما زال الأشخاص الذين يطلقون على أنفسهم مسيحيين يقدمون خدمة شفهية للكتاب المقدس نفسه ويدّعون أنهم يعبدون الله نفسه، لكن بالكاد يكون لأفكارهم علاقة بالمسيحية قبل ثلاثة قرون، فكل المسيحيين المعاصرين تقريباً، في نظر آباء الكنيسة، هم من الزنادقة والمرتدين.
ويُشرع بودري نوافذ التفاؤل بناءً على قراته تاريخ الحداثة بموازاة الأصولية الدينية شرقاً وغرباً، متيقناً من أن هناك صيرورة تاريخية هي التي ستفضي إلى التغيير المرتجى، فقيم الحداثة والتنوير ليست هدفاً سهلاً للأصوليات الدينية وغير الدينية، كما يعتقد المتشائمون.
وفي فضاء التخيل المعرفي، يقترح المؤلف: تخيَّل أن التاريخ قد اتخذ منعطفًا مختلفًا، وأن التنوير قد جذر أولاً خلال فترة الازدهار في بغداد. لنفترض أن مسلمًا متدينًا قد اخترع فن الطباعة، وأن الثورة العلمية حدثت في عهد الخلافة العباسية في بغداد بدلاً من أوروبا الغربية المسيحية. لو حدث ذلك لعرفنا حينئذٍ عالماً مختلفاً تماماً، وربما الإسلام سابقاً سار إلى التنوير قبل المسيحية، في إشارة إلى مفهوم بيم فورتوين حول الدين والتنوير. لكن بودري يعلق بصيغة تفاؤلية أيضًا في هذا السياق: ربما كنا نرى اليوم كيف تعارض أوروبا "المتخلفة" استيراد كل تلك الأفكار الحديثة الخطيرة من الشرق، التي يروّجها المستوطنون العرب هنا.
كتاب مارتن بودري هذا مساهمة فكرية ناضجة في إدارة الجدل حول القضايا الإشكالية المعاصرة والمؤرقة، لكن ما يميزها أنها تناقش الأفكار التشاؤمية مناقشة علمية مستندة إلى وقائع تاريخية ومعاصرة، مُتخذة من الرؤية التفاؤلية إستراتيجية منهجية يصدر عنها المؤلف في بحثه التي لا يندّ عن علميته وموضوعيته، وجرأته أيضاً، في مقاربة الأفكار ذات الحساسية العالية لدى المتلقي الغربي والشرقي على حد سواء.
------------------------
- الكتاب: "لهذا.. ليس العالم على شفا الانهيار".
- المؤلف: مارتن بودري.
- الناشر: بولس، بلجيكا، 2019.
- عدد الصفحات: 288 صفحة.
* باحث زائر في معهد هيغنز للتاريخ الهولندي
