كيه. تي. حسين
فيلابوراتو عبد الكبير
الهند.. فردوس المسلمين المفقود، مثل الأندلس، كما وصفها الشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- في أحد كتبه، حكَم الملوك المسلمون المغول جزءا كبيرا من شمال الهند ثلاثة قرون تقريبا (1857-1526) يتخذون عاصمتهم آجرا (1648-1598؛1571- 1555؛1540-1526) وفتح بور سيكري (1585-1571) ولاهور (1598-1586) ودلهي شاه جهان باد (1857-1648). وفي العام 1690، كانت مساحتها 1500400000 ميل مربع، وكانت هناك سلطنات غير مغولية في مختلف أنحاء الهند؛ فمثلا كانت البنغال يحكمها الخِلجِيّون التابعون لسلطنة المملوكيين، وبيجابور نجد فيها سلطنة بيجابور، كما نجد في حيدر آباد سلطنة نظام، أما ميسور في جنوب الهند فكان يحكمها السلطان حيدر علي وورثه ابنه السلطان تيبو الذي تحالف مع فرنسا ضد الاستعمار البريطاني، حتى في محافظة "كانور" في كيرالا (شمال مليبار آن ذك) كانت هناك سلطنة صغيرة باسم "اراكال آدي راجا".
وكانت رئاسة بهوبال خلال العام 1926-1819 تحت السلطنة النسوية المعروفة بـ"البيغمات"، مثل قُدسِية بيغام وسِكندرة جهان بيغام، ومن بين الملكات اسم السلطانة رضية أيضا مشهور. ومؤسسو هذه السلطنات أو الدويلات وإن كان بعضهم جاؤوا إلى الهند غزاة لم يتحولوا إلى قوى استعمارية ينهبون ثروات هذا البلد وينقلونها إلى بلدهم الأصلي، ولم يرجعوا إلى بلدهم بعد بل استقروا في هذا الوطن وعاشوا وماتوا فيه جيلا بعد جيل. وكان من بينهم أيضا دعاة وتجار. وكلهم أسهموا في بناء حضارة راقية في الهند وآثارها التاريخية لا تزال موجودة هنا بعد قرون مثل تاج محل في آجرا إحدى العجائب السبع في العالم، والقلعة الحمراء وقطب مينار في دلهي، وحدائق المغول في كشمير، وقلعة جولجوندا ومتحف سالارجنغ في حيدرآباد، والقصر الخشبي لتيبو سلطان في "سري رانكا باتانام" وغيرها كثير. هذه هي الميزة التي يتميز بها حكم المسلمين في الهند عن الحكم البريطاني. لم يكن المسلمون أبدا قوة استعمارية خلافا للاستعمار البريطاني الذي قدم الهند أوّلا يلبس قميص تاجر يتمثل في شركة الهند الشرقية ثم بسط قبضته تدريجيا على سدة الحكم. وميزة الاستعمار هي أنه يتصف بطابعه التخريبي، وفي تحليل دقيق عن السلطنات المسلمة في الهند القديمة تتضح لنا أنها كانت خالية من هذا الطابع التدميري، بله نراها كانت بارزة بعبقرية البناء التي أضافت إلى تراث هذا البلد العريق بإنجازاتها العظيمة المادية منها والروحانية.
إن كان الجيل الأول من المسلمين جاؤوا إلى الهند من الخارج فقوم "آريا" من الهندوس وقوم "درافيدا" أيضا كانوا ممن استوطنوها بعد قدومهم من الخارج. وكلهم أصبحوا فيما بعد أبناء هذه الأرض وظلوا يعيشون فيها متسامحين ومتضامنين بعضهم ببعض. ومن خلال هذا التسامح والتضامن، تم تشكيل خريطة دولة الهند وترعرعت قوميتها المشتركة التي يمكن أن تتصف بقوس قزح التعددية. والعنصر الذي يُميز الهند عن كثير من البلدان الأوروبية والآسيوية هو وجود هذه الألوان من الشعوب والطوائف المختلفة راسخة الجذور في هذه التربة، وثقافاتهم المتبادلة المتنوعة كما يشير إليه مؤلف كتاب "دور المسلمين في تشكيل المجتمع الهندي"، الذي نحن بصدد عرضه.
ويؤكد المؤلف أن ما حدث في الهند ليس انسجام جميع العقائد والثقافات الوافدة في تيار واحد حتى تتحول إلى عقيدة وثقافة واحدة. إذا لم يكن كذلك فلم يكن يوجد هذا التنوع من الثقافة الذي يتميز به هذه القارة. وفي نفس الوقت، يقول المؤلف، إنه لا يعني أن كل واحد من هؤلاء الأقوام كانوا مغلقين في مقصوراتهم الضيقة الخاصة بهم دون أن يتأثروا بعضهم ببعض. إنه عزلة ثقافية لا تتوافق مع روح التعددية التي تتصف بها الهند. التعددية هي ليست هذه العزلة كما أنها ليست الاندماج الخالص في ثقافة واحدة. بل هي تبادل ثقافي وتعايش اجتماعي سلمي مع الضمان ببقاء تنوع هويات الجميع. لذا، يقول المؤلف إن مسلمي الهند ليسوا نفس الشريحة من المسلمين الذين ينتمون إلى البلدان الأخرى، لا سيما البلاد العربية، رغم التساوي القائم بينهم في العقائد والممارسات الدينية. الأمة الإسلامية في الهند كيان يحتوي خصائص الهند الجغرافية والثقافية. وخصائص المسلم الهندي هذه قد جعلت الحضارة الإسلامية ثرية مثلما جعلت الحضارة الهندية وثقافتها أيضا ثرية. ويقول المؤلف إن التجربة الهندية للإسلام في الحضارة الإسلامية موضوع خارج هذا الكتاب يستحق أن يُتناول في فصل خاص. ليس هذا هو هدف هذا الكتاب، إنما يبحث هذا الكتاب عن موضوع تأثير الإسلام والمسلمين في تشكيل المجتمع الهندي وإساهماتهم في ثقافته التعددية.
ولهذه الدراسة أهمية خاصة في خلفية الدعاية القوية التي تستهدف هدم التعددية آنفة الذكر، والمحاولات والمخططات الجارية لتقليص الهند في ثقافة واحدة. وبما أنَّ السلاح الذي بأيدي أصحاب المصالح الذاتية هؤلاء هو التاريخ، فإن سلاح مقاومة هذه المحاولة يجب أن يكون هو أيضا التاريخ نفسه. ومن هذا المنطلق يقول الكاتب كيه. تي. حسين إن قراءة التاريخ الإثنية هي التي عتَّمت وشوَّهت دور المسلمين ومشاركتهم في تشكيل المجتمع الهندي في مراحل تاريخ الهند المختلفة. وهذه القراءة التاريخية العنصرية ناتجة عن النظام الطبقي الذي لا يزال في الهند حتى الآن. هي قراءة الطبقة العليا التي يقدودها وعيهم الاستكباري الطبقي العنصري إلى أنهم هم ورثة هذا البلد الحقيقيين، وأن غيرهم يجب أن يكونوا دائما تحت سيادتهم. ومن النتيجة الحتمية لهذه القراءة العنصرية تشكُّل "العدو الآخر". قرأتْ الكولونوليةُ كما قرأت القومية الهندوسية تاريخَ الهند قراءة عنصرية مما ترتب عليها صناعة "المسلم العدو الآخر". وتوجد في الكتاب إشارات إلى السياسة الخفية التي عملت وراء هذه القراءة. يقول الكاتب إن المقاومة الصحيحة والعادلة لمقاومة هذه القراءة التاريخية الفاضحة هي الكشف عن دور المسلمين الحقيقي في تشكيل المجتمع الهندي من خلال دراسة تاريخية غير محايدة دون أن تخضع للشعور الإثني ويدّعي أن هذا الكتاب محاولة متواضعة نحو هذا الاتجاه.
وينقسم الكتاب إلى سبعة أقسام؛ في القسم الأول يلقي الكاتب الضوء على قدوم المسلمين إلى الهند والتغيرات الناتجة عن مداخلاتهم الدينية والسياسية في المجتمع الهندي. ولا نجد فيه التعريف على حكامهم تفصيلا، بل يركز المؤلف على تحليل التغيرات الإيجابية التي أحدثها حكمهم، خاصة دينهم الإسلامي في الحياة الاجتماعية والثقافية في هذا البلد، مع تعريف حياة هؤلاء الحكام عموما فقط. ويبحث فيه عن مشاكل تأليف التاريخ ومساهمات المسلمين الحضارية ومراحل النهضة الإسلامية في الهند مع تقييم حكم المسلمين بدقة وأمانة. وفي القسم الثاني، يشرح النشاطات الإصلاحية والدعوية والخدمات الاجتماعية والإنسانية الصامتة التي قام بها الدعاة الصوفيون، والتي أحدثت تغيرات هائلة في الحياة الاجتماعية في الهند. ويحوي هذا القسم فصولا عن طابع نشاطات الصوفياء الدعوية وميزتها مع تفصيل حياة كل من الخواجة معين الدين تشيشتي وقطب الدين بختيار كاكي وبابا فريد الدين غنج شكر ونظام الدين أولياء الذين أصبحوا جزءا لا يتجزأ من الثقافة الهندية الشعبية دون أي اختلاف ديني وفرقي.
القسم الثالث هو عن الحركات الإصلاحية ضد الانحرافات العقائدية والخلاعة والميوعة التي طرأت في حياة المسلمين الاجتماعية في العصر الذهبي من حكم المسلمين الذي بلغ من الرقي والازدهار إلى أوجه سياسيا واقتصاديا. ويبحث أيضا في هذا القسم عن النهضة الاجتماعية التي قامت في عهد بدأت فيه عقيدة البلاط المغولي يصيبها السوس. ويتناول الكاتب هنا حركة النهضة التي قادها الشيخ أحمد سرهندي ضد "الدين الإلهي" الدين الجديد الذي تبناه الإمبراطور المغولي أكبر، وحاول أن يفرضه على الشعب لمصالحه السياسية الخاصة، كما يتناول الإصلاحات التي قام بها الإمبراطور أورنغ زيب تحت تأثير نشاطات الشيخ سرهندي إضافة لنشاطات حكيم الهند شاه ولي الله الفكرية النهضوية والاجتهادية. أما القسم الرابع؛ فمحتواه المقاومات المسلحة ضد الاستعمار البريطاني التي برزت في الساحة مستلهمة من النهضة الاجتماعية التي حدثت في عهد أفول الحكم المغولي. نقرأ هنا الحروب التي قادها سلطان ميسور تيبو في جنوب الهند ضد الاستعمار البريطاني وحركة المجاهدين المسلحة ذات الطابع الديني والاجتماعي والسياسي التي قادها أحمد الشهيد والحركة الفرائضية في البنغال بقيادة داتو ميان التي قاومت الإقطاعية والاستعمارية في آن واحد، والحركة المسلحة بقيادة تيتومير معاصر داتو ميان وحركة التمرد التي ظهرت في العام 1857، والتي بدأها الجنود الهنود في الجيش البريطاني، ثم اتسعت حلقته إلى سائر أنحاء البلاد تحت القيادة المشتركة من الملك الأخير من المغول بهادور شاه وملكة جانسي الهندوسية، وهي التي تعد أول حركة استقلالية في الهند.
ويلقي القسم الخامس الضوء على النهضة التي تطورت في ساحة التعليم الديني والمادي التي وعي المسلمون أهميتها إثر هزيمة الحركة الاستقلالية المسلحة الأولى ضد الاستعمار البريطاني في العام 1857. ويبحث فيه عن حركة عليكرة التي قادها سر سيد أحمد خان والتي تأسست من نتيجتها جامعة عليكرة الإسلامية وحركة ديوباند التي قام بتأسيسها الشيخ قاسم نانوتوي، والتي أتت بجامعة ديوباند في حيز الوجود، وندوة العلماء في لكهنو التي أسهم في تأسيسها المؤرخ المشهور شبلي النعماني. ونقرأ في القسم السادس تحليلا شاملا دقيقا عن الصحوات الدينية والسياسية والاجتماعية التي تتمثل في حركة الخلافة التي تبناها حزب المؤتمر بقيادة الغاندي تأييدا للخلافة العثمانية ضد بريطانيا، وحركة جمعية علماء الهند، ورابطة المسلمين، وحركة خدائي خدمتكار، وحركة خاكسار، وجماعة التبليغ، والجماعة الإسلامية، والشخصيات المرموقة الذين قادوا هذه الحركات والأحزاب؛ مثل: مولانا محمد علي وأخوه شوكت علي، والشيخ محمود الحسن الديوباندي، ومولانا عبيد الله السندي الذي اعتنق الإسلام تاركا الديانة السيخية، ومولانا أبو الكلام آزاد أحد علماء الهند الكبار وأحد قادة حزب المؤتمر، والمفكر الإسلامي الكبير الأستاذ أبو الأعلى الموودي، ومحمد علي الجناح مؤسس دولة الباكستان، ومولانا إلياس، وأبو الحسن علي الحسن الندوي صاحب مؤلفات كثيرة باللغة العربية. وهذا الجزء من الكتاب إذا انضم إلى الجزء السابق الذي يليه تتكون لدى القارئ صورة واضحة عن الدور العظيم الذي قام به المسلمون في نضال الحركة الاستقلالية.
وفي القسم السابع والأخير يأخذنا الكاتب إلى مرحلة ما بعد استقلال الهند والشخصيات الإسلامية المهمة الذين تولوا قيادة المسلمين في تلك الحقبة؛ أمثال: الدكتور ذاكر حسين ثالث رؤساء الهند، وأبو الليث الإصلاحي أمير الجماعة الإسلامية الأسبق، ومحمد إسماعيل رئيس رابطة المسلمين لعموم الهند وخدماتهم الجليلة.. وهكذا تتختم هذه الرحلة التاريخية الطويلة الممتعة والمفيدة بمعلومات جمة تجعل آفاق نظر القارئ متسعة.
هناك العديد من الدراسات التاريخية عن حضور المسلمين في تاريخ الهند باللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات. ولكن لهذه الدراسة ميزة خاصة تُستثنى من تلك الدراسات التي ألَّفها أصحاب ذوو باع طويل في تأليف التاريخ؛ لأن أولائك الكتاب إنما بذلوا جهودهم في إلقاء الضوء على أخبار المسلمين وحكاياتهم الماضية فقط، أما كيف فكّر عباقرة مسلمي الهند القيادية في مراحل تاريخهم المصيرية فهي ناحية قلما نجدها في مؤلفات كُتاب تاريخ مسلمي الهند المعاصرين.
يحاول هذا الكاتب أن يشرح كيف أن القيادة الإسلامية الهندية فكرت في مراحل تاريخها الخاصة عن الأزمات التي واجهتها في الماضي، وإلى أي مدى ساعدتها مساعيها لتجاوز هذه الأزمات. ولم يستطع هذا الكاتب أن يجد أي كتاب يتناول هذا الموضوع من هذه الناحية ليس في اللغة المالايالامية فحسب، بل في أي لغة محلية هندية أخرى بما فيها اللغة الإنجليزية والأردية. والميزة الثانية التي يجدر ذكرها هي مستوى لغة الكاتب الأكادمية الراقية التي تتناول الموضوع وأسلوبه السلس. يستحق المؤلف أن يفتخر بهذا العطاء القيم الذي يندر مثله في المكتبات في هذا الموضوع.
-------------------------
- الكتاب: "دور المسلمين في تشكيل المجتمع الهندي".
- المؤلف: تي. كيه. حسين.
- الناشر: دار النشر الإسلامي، الهند، 2018، بلغة ملايالام.
- عدد الصفحات: 400 صفحة.
