«من أجل بورديو».. لمارك جولي

413O+8bI1sL._SX338_BO1,204,203,200_.jpg

سعيد بوكرامي

يُعتبر بيير بورديو (1930-2002) أهم عالم اجتماع في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد شكَّل رُفقة دوركهايم وميشيل فوكو أقانيم الفكر الغربي النقدي للمؤسسات المهيمنة وآليات اشتغالها ومحاولة اجتراح مفاهيم وطرق تحليل لتفكيكها وتغييرها. وقد لاقت نظريات بيير بورديو استقبالا عالميًّا وحفاوة أكاديمية. ويرجع هذا النجاح -بلا شك- إلى طبيعة عمل بيير بورديو المثير للإعجاب والطموح والإمكانيات المنهجية والميدانية التي مثَّلتها بالنسبة لعلوم الإدارة. وبالفعل، فإن مشروع بورديو -الذي يهدف لتحليل ظواهر الإنتاج، وإدانة منطق الهيمنة- سمح بتحديث الآثار العنيفة في بعض الأحيان التي تمارسها الهياكل الاجتماعية على العمال. وبالإضافة إلى العلاقات الاقتصادية بين الطبقات الاجتماعية، يُؤكد أيضًا على أهمية الأبعاد التاريخية والثقافية والرمزية. وعلاوة على ذلك، فإنَّ مشروعه الفكري يبرز منذ الأعمال الأولى حول الجزائر (1958، 1963، 1964) ثم ينتقل إلى المنشورات التجريبية في العام 2000. وبعدها، المنشورات النظرية أو المنشورات النضالية في 2001، وفي خضم هذه الأبحاث يحضر المنهج الاجتماعي النقدي في كل أعماله التي وصلت إلى أكثر من ثلاثين كتابا وحوالي أربعمائة مقال.. كان الهدف منها دائما الكشف عن آليات الهيمنة وتفكيكها.

ومع ذلك، فإنَّ عمله لا يزال غير مفهوم بشكل جيد، خاصة في فرنسا؛ حيث يكون بشكل منتظم موضوع خلافات فكرية جادة أو أيديولوجية. ولإعادة الاعتبار لمنجزه الكامل، وتنوير النقاشات وتعميقها حول هذا المفكر الفذ، يقدم مارك جولي في كتابه الصادر حديثا "من أجل بورديو" عالم بورديو النظري والسجالي على ثلاث مراحل. يبيّن أولاً كيف أن بورديو -ومنذ بداية الستينيات من القرن العشرين- منح نفسه الوسائل المنهجية والتجريبية لتأسيس التقليد السوسيولوجي الأوروبي نظريا مع ضمان حصول علماء الاجتماع على روح علمية مناسبة. ثم في المرحلة الثانية ينتقل المؤلف إلى تفسير قوة الإطار المفاهيمي لـ"بورديو". وعلى ضوء الخصائص التاريخية والمعرفية في علم الاجتماع يضخ بورديو دماء جديدة في العلوم الاجتماعية بامتياز، جاعلا منه "علم العلوم" ومصفوفة جديدة للإنسانية. وأخيرًا في المرحلة الثالثة، يدرس المقاومة النظرية والسياسية التي أثارها باستمرار نهج بورديو العلمي. وبناء عليه، فإن العمل يستند إلى مصادر غير منشورة ويقترح في الوقت نفسه مقدمة أصلية للنظرية الاجتماعية لبيير بورديو وتحليلا لا تنازل فيه لتطوير العلوم الاجتماعية الفرنسية منذ الثمانينيات إلى لحظة رحيل بيير بورديو.

لا نستطيع إحصاء الكتب المخصَّصة لعلم الاجتماع عند بيير بورديو، أو تلك التي حاولت من الكتّاب، بدرجات متفاوتة، تحديد موقفه من علم الاجتماع في إطار مجال العلوم الاجتماعية عامة بين الأمس واليوم. يستحق كتاب مارك جولي، نظرًا لجديته، الاهتمام والمتابعة وإعادة القراءة لاستنباط نتائجه المهمة. كما أن دراسته علمية حقيقية، خصوصا أن المؤلف يعتبر دراسته مشروع كتاب منصف "لبورديو ونوع علم الاجتماع الذي حاول ترسيخه "(ص:9). ولبرهنة تجريبية تدعم هذا التصور، يشرع جولي في "استدعاء المبادئ والقيم الأساسية لمهنة علم الاجتماع" (ص:22)، لدرجة أن عنوان "من أجل بورديو" كان يمكن أن يكون، حسب تصريح جولي، بعنوان "من أجل علم الاجتماع".

لشرح نجاح بيير بورديو والبنيوية البطولية مع "بعض النخب الثقافية الفرنسية" (ص:18)، يبدأ جولي بتحليل "المصادر الفكرية" (ص:25) في سوسيولوجيا بورديو. التي يعتبرها أفكارا من منظور حقل الاحتمالات التي تتهيكل دائما بحسب نظام فكري، من الأصول المعرفية المترابطة، النظرية والعملية لبرنامج الأبحاث لدى بورديو ومن حيث ظروف ظهورها الاجتماعية. وتبدأ من مواقف بورديو وأولئك الذين تعاون معهم، جنبا إلى جنب أو الذين خلقوا ضده جبهات معارضة. ثم يتتبع جذورها في المواقف والعادات التي تكمن وراء كل منهم. يقترح جولي في "فهم بورديو" وهو (عنوان الجزء الأول) دراسة أرشيف بورديو الضخم، الذي عثر عليه في مؤسسات خاصة أو عمومية، وقد مكنت سعة الاطلاع المعرفي المؤلفَ من إنجاز تحليل شمولي لقضايا الفكر الثقافي والعلمي في فرنسا ولفترة ما بعد الحرب.

لا يقتصر فهم بورديو على استيعاب ظروف ظهوره ولكن أيضا على ظروف استقباله. وسنكون أكثر تحفظًا هنا من بعض أجزاء تحليل جولي، بما في ذلك فرضية "بؤس الموقف أو العالم" الذي يؤدي لبعض التشكيك في مفاهيم بورديو. نندهش بشكل خاص من تحليله لنسخة من النظرة العامة للتحليل الذاتي الذي أشار إليه كلود دوبار. وبالنظر إلى أن هذه الشروح لـ"الخاص" الذي يعتبر تمظهرا مزاجيا. ومن هنا، جاءت الهجومات المنهجية والمتكررة على بورديو وجماعته نظرا لخوضهم في حقل أخلاقي (ص:93). إن تحليل جولي الموجز يبدو إشكاليا لسببين على الأقل؛ أولاً: إذا كانت مادة البحث تجريبية، فإن آثارها قليلة وهزيلة لكي يتمكن الباحث من استخلاص الاستنتاج التالي: كان دوبار يشعر بالغيرة. ولكن من المؤسف أيضا أن جولي، الذي يشيد في كتابه بموضوعية علم الاجتماع، يستعير حججه بشأن هذه النقطة من سجل التحليل النفسي أساسا. ويمكن القول إنَّ هذه واحدة من الأفكار القليلة في الكتاب، لحسن الحظ، التي لا يقنع فيها جولي قارئه.

وفي الجزء الثاني -وهو بعنوان "نقد قارئ"، وهو في الوقت نفسه المحور الذي يعتمد عليه الكتاب، ويحدد أصوله المتمثلة في الإجابة عن المناقشة التي قادها فابياني حول مفاهيم بورديو: مفهوم الحقل، الهابيتيس، رأس المال الرمزي، رأس المال الثقافي، رأس المال الاجتماعي، مفهوم الإستراتيجية، التمييز، العنف الرمزي، الانعكاس، إعادة الإنتاج، الأهلية، وهنا يذكر جولي بالتكوين والفكر، النظري والعملي، في الوقت نفسه الذي يجعل من بيير بورديو عالم اجتماع رائدا. وقد انطلق جولي من العمل الدقيق والمنهجي لفابياني الذي استنبطه جولي -من قراءاته، وتحقيقاته. يرجع جولي في كتابه إلى الالتزامات المتعلقة بالكائن بقدر ما تتعلق بالتقليد المنهجي الذي يناسب مثل هذا المشروع. إنَّ القائمة التي توجه إليها الكتاب والأعمال التي تجنبها فابياني بعناية مذهلة، وأكثر من ذلك، إذا كان أحد يرغب، كما جاء في كتاب فابياني، في إجراء تحليل دقيق للرجل ومفاهيمه. "لن نكررها بما فيه الكفاية: حول بورديو، كما حول أي شخص آخر، يمكننا أن نقول أشياء كثيرة، ويمكننا أن نلقي بعض الضوء...كل ما هو مطلوب هو المضي قدما بطريقة منهجية، لجمع، وترتيب وتصنيف أكبر قدر ممكن من الشهادات والمعلومات" (ص:112-113). هذه الطريقة هي التي تسمح لجولي بإبراز بأن بورديو لم يكن بنيويا ولا بطولياً، وذلك يمكن استعادته من أصل مفاهيمه. علاوة على ذلك، بالنسبة لبورديو: فالحقل هو ثمرة تجريد للواقع، وأداة لنمذجة العالم، وحتى مسألة اختفائه فهي خرقاء؛ فالطبيعية ليست مرادفًا للتنشئة الاجتماعية، ولكنها تشير إلى دمج أنماط التفكير والعمل ووضعها موضع التنفيذ، هذه الأنماط لا يمكن فهمها إلا نتيجة لسلطات محددة. وللوصول إلى نظرية اجتماعية متكاملة ومناقشة جادة لما يسمى انتشارا شاملا لمفهوم رأس المال يتطلب التسلح بالبحوث المنجزة حول هذه القضية. وعلى ضوء عمل جولي، من الواضح أن النظرية ليست منطقية إذا كانت تعمل بشكل جدلي مع ممارسات البحث. وهنا يبرز الجانب التجريبي ضد قارئ فابياني ليجعل فحص الحقائق، وعلم الاجتماع كله الذي يلتزم به جولي يقوم بإجراء "نقد العقل السكولاستيكي"، مُذكِّرا بأن هذا العلم يسمح بفهم الظواهر؛ وبذلك ينبه إلى أن "الأيديولوجية المهنية للمثقفين" ممنوعة على الفلاسفة.

خصَّص المؤلف الجزءَ الأخير لدراسة الوضع المعرفي لعلم الاجتماع، ومن ذلك "الطموح الاجتماعي" (عنوان الجزء الثالث) الذي كرسه خصيصا لكشف بعض الأسباب التي اتهمت مرارا وتكرارا مشروع بورديو السوسيولوجي بالاختزالية. وهنا يسعى جولي جاهدا للإمساك بالعلوم الاجتماعية كحقل للصراع بين التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع. في هذا المجال، يعتبر المؤلف الفلسفة والتاريخ حليفين موضوعيين في المجال الثقافي، لكنهما يتعارضان مع علم الاجتماع، الذي هو أقل حرية وأكثر انتقادا للنظام الاجتماعي. إنه القادر على استيعاب وتفسير شروط بنائه. واستنادا إلى هذه المنطقة المثيرة للجدل، يقودنا جولي إلى تسليط الضوء بمهارة على بعض تناقضات النظام المعرفي. خاصة بالنسبة لفابياني، فإن "مهنة عالم الاجتماع" مطبوعة بروح دوركهايم الحاضر باستمرار. وأخيرا، يناقش جولي غائيات علم الاجتماع ويعتبرها في منتهى الأيديولوجية؛ وبالتالي فنتائجها تكون فقيرة علميًّا، وهي تنتمي في الغالب إلى ' فلسفة العلوم الاجتماعية" (ص:281) التي يمارسها الفلاسفة كل من برونو كارسينتي، الذي يبحث عن مركز مهيمن، لكنه يخفق في تحقيق ذلك.

ولأنَّ جولي يجعل من كتاب فابياني عن بورديو مرآة عاكسة للأفكار والنتائج، فإنه يأخذ بعين الاعتبار المحددات النظرية، المعرفية والمؤسسية التي سمحت لكتاب فابياني أن يجد استقبالا جيدا من طرف "بعض النخب الثقافية الفرنسية"، كما برهن على ذلك جولي. وقد مكنت دراسته للأسباب التي دفعت الباحثين إلى استهداف بورديو بالنقد والمضايقات، من طرف لوك بولتانسكي، وبرنار لاهير وسيريل يميو، باول فياين... وغيرهم كثير. ورغم تميز هؤلاء الباحثين في دراساتهم ومناقشاتهم بالجدية، إلا أنهم في مواجهتهم لفكر بورديو حملوها لهجة هدامة في كثير من الأحيان. ويعتبر جولي أن عالِم الاجتماع الماهر في التفكيك الدقيق لبيير بورديو مثل فابياني، لن يمنعه سخطه من بعض الزملاء أحيانًا من الاعتراض الموضوعي على انتقاداتهم. وهنا يصرح المؤلف وإن كان بشكل محتشم: بالنسبة لبورديو، كما يقول، ما يميزه هو "جانبه" الملتزم "، وظهوره" ببيانات للرأي العام" (312).

قارئ كتاب جولي يشعر بأنه متضايق في كثير من الأحيان لأنه يخوض بالفعل نقاشا فكريا متوترا بين أخلاقيات التمثيل والميل إلى النقد الطوعي. ولكن مع ذلك، يبقى الكتاب حقيقة تحليلا صادقا، ودقيقا، ومنتظما، تدعمه ترسانة من الملاحظات المثيرة للإعجاب. كتاب "من أجل بورديو" ليس مقنعا فقط، ولكنه مفيد بشكل خاص لعلم الاجتماع الرصين والمتفاعل مع الظواهر الاجتماعية المهيمنة والمهينة للإنسان. لهذا يستحق كتاب جولي دراسات متعددة بل أكثر من ذلك بكثير: فالاهتمام الكبير ببورديو يستهدف السؤال بشكل غير مباشر للقارئ عن معنى الميراث، هذا الأرشيف السيوسيولوجي البورديوي الذي خلفه عالم اجتماع لا يهادن ولا يساوم. ومن الواضح أن القارئ سينزعج من حضور عدد كبير من الانتقادات والاعتراضات لدى مجموعة من الباحثين على دراسات بورديو، المعارضة التي يشتبه بها أن تكون مواقف ايديولوجية مكرسة من طرف مواقع معارضة لمواقف بورديو وتأثيرها الثقافي. وفي السياق عينه يشير جولي أيضا إلى أن فابياني قد أدرك الأمر ووضعه بعين الاعتبار: لو أن بورديو اتخذ وضعية وموقفا جماعيا، وابتعد عن انتقاد النظريات الكبرى والأنظمة المهيمنة، ثم لو أن كتاباته انبثقت نظرياته من إطار مؤسسي مهادن ومتكيّف مع النظام السائد لما توجهت إليه كل هذه الانتقادات.

كتاب جولي يقتحم كل ما يكشف عن ذلك، لأنه يحدد موقع بورديو بين معارضيه ومناصريه، لكن ما زاد تحليل جولي عمقا وثراء ما اعتمد عليه من أفكار لعلماء اجتماع عاصروا بورديو وواكبوا منجزه ونشاطه، مما مكن المؤلف من عقد مقارنات واستخلاص استنتاجات تهم تطوير العلوم الاجتماعية الفرنسية والعالمية.

----------------------

- الكتاب: "من أجل بورديو".

- المؤلف: مارك جولي.

- الناشر: منشورات Cnrs فرنسا، 2018م.

- عدد الصفحات: 300 صفحة.

أخبار ذات صلة