عاطفة المسكرية
تعدَّدت الحركات الفكرية في الجانب السياسي والثقافي والديني بتعدُّد العُصُور واختلافِ الفترات الزمنية بينها. ووجدت هذه الحركات صدًى لها عندما بدأت بالانتشار بين بعض الفئات، بينما رفضتها فئات أخرى كحال أي فكرة أو حدث دخيل على المجتمع في بدايته، والذي غالبًا ما يتم مُجابهته بالرفض خوفا من المجهول أو التغيير. واليوم، نجد أنَّ الحال لا تختلف كثيرا إذا ما جِئنا نقارنها بالسابق ؛ فلا تزال معظم الحركات الفكرية الدخيلة على المجتمعات -في أي جانب- تواجه شيئًا من الشكِّ والرفض، ويتم إلصاق التُّهم بمن يحملها بمُعَاداة الفكرة التي بُني عليها الوضع الحالي. وحقيقة، ينقلنا هذا الأمر أيضًا إلى شيء من الواقع المتجلِّي عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي أظهرت أفكارًا لم يكن البعض يعتقد أنَّ أشخاصا يعيشون بينهم يحملونها. فأصبحتْ بعض الحركات الفكرية أكثر ظهورا -كالنسوية، والعلمانية، أو الإلحاد مثلا- إذ يتلقَّى بعض حاملي هذه الأفكار هجومًا ينمُّ عن رفضهم لها. ومن الجدير بالذكر في هذا السياق عدة أمثلة -بغض النظر عمَّا إذا كنا نتفق معها أم نرفضها- أبسطها هو ظهور بعض "النسويات اللاتي يظهرن اتفاقهن مع بعض الأفكار المتفق عليها في الحركة النسوية أو جميعها". إنَّ ظهور هذه الشريحة في مجتمعاتنا واقع لا يُمكن إنكاره، وتقره نماذج عديدة في وسائل التواصل الاجتماعي، ومع ذلك تتم مُهاجمتهن، واعتبارهن فئة ضالة من قبل بعض الفئات في المجتمع، ومن الجنسين معا.
إذا ما جِئنا نُحاول فَهْم أسباب رفض هذه الفكرة أو هذه الحركات الفكرية بشكل عام، نجد أنَّ اعتناقها بما وَرَد فيها من أفكار سيتَعَارض مع بعض المبادئ الدينية. ولستُ هنا في موقع تقييم مَدَى صحة هذه الفكرة من عدمها، إلا أنَّه يجدر بنا توقُّع ظُهُور حركات فكرية كثيرة، وفي مختلف الجوانب، في ظل الزخم المعلوماتي الهائل، بجانب التغيير السريع، وبروز العناصر المثبتة للعولمة، والتي بدَوْرِها تؤدي لسهولة تبادل الأفكار ونشرها دون تمحيصها من قبل الفرد أو خصها بثقافة أو شعب أو ديانة محددة؛ حيث يستوعب بعض الأفراد هذه الأفكار ويعتنقونها دون مراعاة اصطدامها بالأسس التي نشأوا عليها؛ فتحدُث اصطدامات داخلية بين فئات المجتمع نفسه ما بين مؤيد ومعارض. وهذا ينطبقُ على كافة التغيرات؛ من ضمنها: الحركات الفكرية.
فلنأخذ التنوير كنموذج لحركة فلسفية اجتماعية، قبل إقناع الأشخاص بهذه الفكرة، لا بد من الإقرار بأنه لا يشترط أن يكون خصما للدين، والمرونة الفكرية مطلبٌ مُهم في سبيل تقبل هذه الفكرة، وهذا ما أراد السوسيولوجي المغربي عثمان أشقر برهنته، في مقال له جاء بعنوان "التنوير والدين"؛ فبعض مما جيء بالفكر التنويري لا يُعد تعديا على الذات الإلهية، أو معاداة للأديان بذاتها، وإنما هي مسألة إعادة النظر حول وجود رجال الدين، خاصة إذا ما تلبسوا بطريقة أو بأخرى دور الوسيط بين العبد وربه! ولا يُمكننا نَفْي تطبيق هذا الأمر حرفيًّا في بعض الديانات السماوية، في أمور تتعلق بالتوبة مثلا.
إنَّ طرح هذه الفكرة، وما شابهها من أفكار مُتعلقة بالدين، يجيز -بغير حق- للبعض أن يكيل الاتهامات بالكفر والإلحاد أحيانا دون أدنى محاولة لفهم الفكرة!! مع أنَّ هناك فارقا بين الشكاك والربوبي والملحد. بشكل مختصر، فالأول يطرح تساؤلات قد تكون بينه وبين نفسه مع إدراكه أنه لا يزال في مُنتصف الطريق أيًّا كان هذا الطريق. أما الثاني، فهو يُؤمن بوجود خالق لهذا الكون، عدا أنه لا يُحبِّذ الانتماء لأي دين؛ كونه لا يتقبل فكرة الأديان من الأساس. وأخيرا الملحد هو الذي لا يُؤمن بوجود خالق لهذا الكون لأسباب كثيرة؛ منها: نقصان الأدلة التجريبية. وعلى الرغم من ذلك، لا يوجد مَرْجِع أو مدرسة فلسفية في الإلحاد يتفق عليها كل الملحدين. إنَّ التنوير وما يرتبط به من حركات فكرية ومفاهيم كلها تَتَطلب دراسة كيفية تشكل كل منها ابتداءً من الظروف التي أسهمت في تشكيلها، وفي أي عصر من العصور تحديدا. ففي إبان الثورة الفرنسية مثلا، وتحديدا بعد الدور الرئيس الذي كانت تلعبه الكنيسة قبل تلك الفترة، أصبحت فئات كثيرة تميلُ نحو ألوهية العقل والمنطق، والمستخلَص من ذلك -بعيدا عن التعقيدات- أنَّ التطرف أيًّا كان شكله يُولِّد الانفجار؛ حيث إنَّ الثورة الفرنسية لم يكن مُخطَّطا لها بتلك الدقة، بل حدثت وعكست التناقضات التي كانت في المجتمع الفرنسي آنذاك. بجانب هذه الأحداث أيضا، تلك الشخصيات التي تحدَّثت عن التنوير، وما ارتبط به من مفاهيم -أمثال: فولتير ونيوتن- حيث إنَّ الأخير لم يكن فيزيائيًّا فقط، بل كانت لديه اهتمامات لاهوتية أيضًا. فقد كانت هناك توجهات من قبل هؤلاء تنصُّ وتؤمنُ بضرورة عدم فرض الدين لكونه مسألة قلبية بحتة ومرتبطة بضمير الفرد وعلاقته بالله دون وصايا وتوجيهات من طرف ثالث. وعِوَضًا عن الانشغال بالمسائل الدينية المرتبطة بالأفراد، من الأجدر الانشغال بمسألة فصل السياسي والمدني عمَّا هو ديني. وفي مرحلة من المراحل، هاجم فولتير الإسلام ونبي الإسلام معًا، على أنهما نماذج للتطرف، وبسبب تداخل الأديان السماوية، ووجود عناصر مشتركة فيما بينهم، مسَّت هذه الإساءة المسيحية بشكل ما. ولكن لاحقًا -وبعدما قرأ فولتير عن الإسلام بشكل مُعمَّق- أشار إليها على أنَّها الديانة الأقرب للفطرة البشرية، ومن جانب آخر زادتْ إساءاته للمسيحية على أنها ديانة تدعو للتعصُّب والتطرف أكثر من أي شيء آخر، وربما تطوَّرتْ قراءاته بعد ذلك، إما لتتغير هذه الفكرة أو لتظل كما هي، إلا أنَّه ظل يُعرف عن فولتير أنه كان مُؤمنًا بأنَّ الله الرحيم العادل؛ مما يعني إنكاره لفكرة أنْ تمتلك مجموعة مُعينة الحقيقة دون الفئات الأخرى التي سوف يُصبح مصيرها العذاب الأبدي.. فهي لا تتناسب مع الصفات الألوهية.
هذه بعض الدلالات المرتبطة بمفهوم التنوير من الجانب الديني؛ حيث إنَّ بعضها يُحَادث العقل والمنطق؛ فعندما يجد استجابة من قبل أفراد لُقِّنوا الدين ولم يفهموه فهمًا جيدًا، فمن العدل بدلا من إحالة التهم لهم، البحث عن ردود تخاطب المنطق والعقل لمجابهة ما "يعتقدون" أنَّه أفكار تُعَارِض المبادئ الدينية. ولا بد أن يُؤخذ في عين الاعتبار أنَّ الاعتقادات قد تُصيب وتخطئ في كل الأحوال؛ لذلك يُعدُّ الاجتهاد مطلبا في هذا الأمر.
