قيس الجهضمي
إنَّ الوعيَ التاريخيَّ هو من أهم الأسباب في التطور الحضاري والحراك النهضوي في وقتنا المعاصر.. ويتناول الكاتب عبدالرزاق عيد في مقاله "أسئلة الوعي والنهوض والتاريخ في الفكر العربي المعاصر"، والمنشور بمجلة "التفاهم"، الأسباب التي دفعت بالعالم العربي للتأخر عن غيرهم، وعدم قدرتهم على الوصول لمصاف الشعوب المتطورة "الشعوب الغربية"، وتعاملهم مع التاريخ بما يمنحهم وعيا يساعدهم على ذلك. ومن هذه الأسباب، يذكر الكاتب أن المفكر العربي عبدالله العروي جعل أزمة الفكر العربي التاريخي في عدم قدرته على استيعاب العقل الحديث بما يطرحه من عقلانية وموضوعية؛ لذلك كان وعي العرب بالتاريخ هو عبارة عن دخول المستقبل بدلالة الماضي، وكأنها محاولة للتقدم للوراء، وتكمُن هذه الإشكالية في إخفاق القاعدة الاجتماعية العربية في تقبل واستيعاب الدعوة الليبرالية "الحداثة" في المقام الأول، ويرى ياسين الحافظ أن هذه الإشكالية قامت على إخفاق القومية الديمقراطية التي كانت تحتضن الاشتقاقات العلمية والمعرفية والثقافية.
ويذكر العروي أنَّ المؤرخ المعاصر "لا يفسر الوقائع بحسب منطق المشاركين فيها، بل حسب منطق لم يعوه هم ويعيه هو اليوم"؛ لذلك وجب التفريق بين منطق المؤرخ ومنطقية وقوع وارتباط الأحداث والوقائع، ويرى أيضا أن المعيار في الكتابة التاريخية هو بالرجوع إلى النموذج والعنصر الحاسم وهو السيرة النبوية وبقدر الاقتراب والابتعاد منها تكون طريقة الكتابة، وكذلك حسن حنفي يتبنى هذا المعيار ويجعله الفاعلية الوحيدة في التاريخ. ومن هنا، تغيب عن العروي نقطتان مُهمتان: الأولى أن المؤرخ القديم أيضا كان يستخدم الروايات دون أي حكم عليها ولا انتقاد، وقد دخلت أيضا الكثير منها في علوم الدين وتفسير القرآن. والأخرى أنه لم يطرح مسألة كيفية التعامل مع هذه الروايات وتواترها وشروطها وعلم الجرح والتعديل...وغيرها؛ مما يجعل هذه الحيادية لا يمكن الاطمئنان لها موضوعيًّا في هذه الكتابة التاريخية. ويرى عبدالرزاق عيد أن الحيادية هذه تسلَّلت للكتابة التاريخية من المذهب الجبري الذي يقول بعدم تدخل الإنسان في الأحداث، وإنما هي قضاء الله وقدره، لكن لا يمكن أن نتجاهل أيضا موضوعية المؤرخين؛ فهي قائمة على الوحدة الباطنية لديهم التي نشأت من خلال تفاعل العلوم والتيارات الفقهية والكلامية بداخلهم؛ لأن المؤرخين قديما اتَّسموا بالموسوعية، كما يرى عبدالرزاق "أن المنطق الداخلي للتأليف ليس انعكاس المآلات التاريخية على المؤلف وحسب، بل وتسرب الرؤية الجبرية بوصفها العلة الوحيدة لتسلسل الاحداث وتعاقبها حسب المشيئة الربانية".
ويصنف زريق في كتابه "نحن والتاريخ" الأبحاث التاريخية في الوطن العربي إلى أربعة اتجاهات؛ الاتجاه التقليدي: وفيه يكون التاريخ تاريخ الإنسان وتحليل الأحداث ونقدها راجعا للأمر الإلهي، والاتجاه القومي: الذي يعظم فيها الكاتب ماضي جماعة معينة ويُبعدها عن مناهج النقد بينما يمارسه على ماضي الجماعات الأخرى. أما الاتجاه الماركسي والاتجاه الوضعي: فيرى الكاتب أنهما مُتماثلان في الأسلوب والطرائق، غير أن الماركسية أقل شمولية لاكتفائها بعلة واحدة في سير التاريخ، وهي العلة المادية، بينما الوضعية تشمل العوامل الروحية والفردية والاجتماعية والسياسية... إلخ.
ويسُوق العروي تعقيبا على كتاب زريق "نحن والتاريخ"، يذكر فيه أنَّ هناك عنصرا مفصليا يجب على العرب امتلاكه، وهو البُعد الكوني للوعي التاريخي؛ إذ يلخص الكاتب خصائص هذا الوعي في إيجابية الحدث؛ بحيث أن الماضي يفسر ما يحدث في الحاضر، وأيضا أن أصحاب الوقائع مسؤولون عنها، ويمكن الحكم عليهم أي أنهم خارج نطاق الجبرية، وأن التاريخ يتغير بصورة مستمرة وليس وحدة ثابتة.
ويذكُر الكاتب أن الوعي التاريخي يتجاور مع الوعي الليبرالي للعصر الحديث والوعي الكوني أيضا بالرجوع إلى مصفوفة ياسين الحافظ؛ إذ إنَّ النظام الرأسمالي العالمي جعل من الأمة العربية أمة مفوتة، وفرض عليها لدخول الوعي التاريخي بأن تحصل على إدراك جدل الخاص المحلي "التقليد" مع العام "الحداثة أو الليبرالية"، فنحن الآن نعيش في مكان واحد بما فرضته علينا التقنية والعولمة. أما زمنيا فنحن نعيش في الماضي في "برزخ الفوات"؛ لذا فالوعي التاريخي هو وعي بهذا الفوات والبحث في أسبابه لإنتاج وعي قادر على العيش في الواقع المعاصر والزمن المعاصر؛ إذ إن الأمم العصرية هي التي يتطابق فيها الوعي الكوني والوعي القومي.
إنَّ ظهور الثقافة الوطنية يعزو للتشابك بين الوعي المحلي والثقافة الغربية الليبرالية "الحداثة"، وتجلت هذه الليبرالية في الفكر العربي بصيغتين؛ الأولى: كونها سبيلا للمصالحة بين الدين والواقع المعاصر، أما الصيغة الثانية: فظهرت في سبيل الأمثولة التي ترى أن الواقع المعاصر هو الذي يصنع التاريخ، وكان الليبراليون العرب الأوائل يتطلعون من خلالها للخروج من حالة الانحطاط، بينما يرى العروي أن هؤلاء الليبراليين أخذوا الليبرالية كشعار ولم يتجاوزوه للمفاهيم الفلسفية بما تخدم الواقع. إذن، فالليبرالية -وفق منظومة العروي- هي "تجسيد موضوعي عقلاني لمستوى التطور التاريخي الذي حققه المجتمع". أما ياسين الحافظ، فيرى أن الليبرالية "أنتجت وعيا تاريخيا كونيا مطابقا بحاجات المجتمع العربي"، وقد حضرت الليبرالية في الفكر العربي في مستويات ثلاثة: الوعي الحديث، والوعي الكوني، والوعي التاريخي، وإن أكثر ما ميَّز الليبراليون العرب هو الدفاع عن حرية الخصوم وتأصيل الحرية في المجتمع والتاريخ الإسلاميين.
وتناول الكاتب رئيف خوري في كتابه "معالم الوعي القومي" تحليلا للخطاب الموجود في كتاب زريق "الوعي القومي"، وقال إنه تظهر في هذا الخطاب القومي الكثير من المشاعر والأهواء الداخلية، وإن هذا الخطاب يُشير دائمًا للداخل والجواهر الثابتة كسيادة الجنس العربي مثلا، كما يرى أنه قائم على أحكام القيمة لا أحكام الواقع. ومن هذا، اتخذ خوري في تحليله للوعي القومي على أنه نتاج فعل الواقع، ويتكشف لدى تحليله للوعي القومي على أنه قائم على إعلاء الداخل والجوهر ولا علاقة له بالعقلانية أو الموضوعية، ويذكر أن نشوء فكر النهضة في الثقافة الوطنية كان نتيجة اصطدام الداخل المحلي في الكوني بسبب التوسع الاستعماري؛ فقد كان يشغل خوري القيم العقلية في الفكر النهضوي الغربي، وكيفية استيعابها في الداخل المحلي لصناعة الوعي المطابق، ومن خلال الوعي المطابق نستطيع الوصول للتقدم والنهضة.
وقد ظهرتْ في تسعينيات القرن الماضي مرحلة بدأ الانتقال فيها من دعوة رفض الأنا للآخر إلى إدانة الآخر بأنه هو من يرفض الأنا، وقد وَجد في العديد من الأعمال المهمة للمفكرين العرب استنكار على الآخر الغربي بعدم فهمه الظالم للأنا "العربي المسلم"، وهي استمرارية لروح النقد للاستشراق، ويطرح عبدالرزاق عيد في نهاية المقال سؤالًا: "أليس الانكباب على الماضي بوصفه الإشكالية المركزية المطروحة على مستقبل العرب شكل من أشكال الرضا بقسمة الغرب، وهي أن يستحوذ الغرب على التاريخ ويترك لنا نحن العرب المسلمين البحث في مطاوي التراث، وبوصف هذه الخصوصية طبيعة ثابتة جوهرانية؟"، وأرى أنه لكي تنمو الحركة النهضوية في الفكر العربي المعاصر نحو المعاصرة والتقدم ينبغي التركيز على القيم العلمية والفكرية المشتركة بين الداخل القومي المحلي في التاريخ الخاص وبين الخارج الكوني الإنساني العام لصنع منظومة تستطيع المضي في قيم الحداثة، والمشاركة بفاعلية في النظام العالمي مع بقاء هوية الداخل.
