أحمد المكتومي
إنَّ الأمم لا ترقى إلا بالتفاهم، والتفاهم لا يأتي إلا بالحوار والاعتراف بالاختلاف. أما ما يحدث اليوم من خلافات بين الدول، فهو بسبب ذلك الفراغ الشاسع في التواصل والحوار. يُطلِعنا الكاتب محسن الخوني في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم"، تحت عنوان "الفهم والتفاهم والحوار والاعتراف في فلسفة التواصل بين هابرماس وهونيت"، على المعنى الحقيقي لفلسفة التواصل، وأثر التواصل والحوار بين المجتمعات، وكيف استخدمت المجتمعات الطريقة الفلسفية للتواصل والحوار، وما الفرق بين اللغة والعمل.
كتب هابرماس منذ زمن بعيد برنامجا نظريا أنجزه تحت عنوان "التداولية اللسانية"، يقوم على التصور المعياري للفهم، ويعمل بمزاعم صلاحية يُمكن أن يتوجها نقاش، ويعمل بنظرية عوالم وفق الشكل الذي يسمح التداولية اللسانية بصياغتها، وأيضا يحمل أعمال الكلام إلى شروط قبولها العقلي؛ حيث أدت أسس تلك النظرية أو البرنامج النظري إلى نظرية نقدية للمجتمع، وأفسحت طريقا نحو تصوُّر للأخلاق والحقوق والديمقراطية قائما على أساس الحوار.
إنَّ هذا العمل النظري الضخم الذي أسَّسه هابرماس، والمكون من عناصر مُتعددة تندرج تحت تسمية فلسلفة التواصل، كان سببًا لنشر مصطلح جميل، وهو "التداولية اللسانية"، ولنا أن نسأل ما المقصود بالتداولية اللسانية؟ وما علاقتها بفلسفة هابرماس التواصلية؟
إنَّ المنعرِج التداولي الذي يشير إليه هابرماس أسهم في إحداث عدة أعمال علمية تم إنجازها خلال القرن الماضي، ولعل الريادة في ذلك كانت في النص الذي أصدره أوستين سنة 1962 حول أعمال اللغة؛ حيث يُشير النص إلى أن اللغة تتكون من ملفوظات الاعتقاد في وجود طابع وصفي للجمال، ومفاد ذلك أنَّ اللغة تتكون من ملفوظات خبرية مثل قولنا "المطر ينزل" أو "العصفور فوق الشجرة"، أيضا تتكون من ملفوظات إنجازية لا تصف الواقع بل تؤثر فيه، ولا تخضع لاحتساب الصدقية، بل تخضع لاحتساب النجاح أو الفشل. وبعضها الآخر يرمي إلى المستقبل مثل ما يجري في الأوامر والوعود، ومن ثم يصح القول بأن نتكلم "لنعمل" شيئا ما، وإن الكلام شكل من العمل، وهو يستعمل بأشكال مختلفة لإحداث آثار لدى الآخرين.
ومن الفلاسفة الذين أثروا بعُمق فلسلفة هابرماس، يمكن ذكر جول سيرل بنظريته حول أعمال اللغة، والتي قال فيها: إن اللغة جزء من العمل، ومراد ذلك بوضوح أن الكلام شكل من السلوك الخاضع للقواعد. وإن كان خاضعا لقواعد فهو يمتلك سمات شكلية قابلة لدراسة مستقلة. وهو أيضا يركز على التواصل بدل الدلالة. ونطق اللغة بالنسبة إليه هو إتمام أعمال لغة طبقا للقواعد، ولا تكون القواعد تنظيمية فقط، وإنما هي أيضا تأسيسية.
وفي هذا السياق العام لتاريخ الفلسفة الغربية المعاصرة الذي هَيْمن عليها براديغم اللغة، يتنزل مشروع هابرماس النظري في التوجه الذي فتحته التداولية التي كتب عنها سنة 1988 "وحده المنعرج الذي حققته يسمح بالتحرر من التجريد البنيوي"، وإننا نراه يتبع في كتاباته الأسلوب نفسه الذي يكتب به فلاسفة اللغة، والقائم على الانتقال من براديغم الوعي الذاتي الذي يسند الأولية إلى المعرفة إلى التداولي الذي يسند أولوية في التحليل إلى العمل (اللغوي)؛ ذلك أن العقل لم يبق كيانا مستقلا يتلحف باللغة كرداء جاهز، وأصبح مجموعة عمليات لا وجود لها إلا داخل اللغة واستعمالاتها بدءا من اللغة الطبيعية.
من نظرية المعرفة إلى نظرية العمل، هذا باختصار معنى النقلة التي أنجزها هابرماس بمشروعه الفلسفي. ومن هنا، يتضح من الأعمال اليومية واليدوية مثل الجري والنجارة. أما دلالة القول، فيحددها انطلاقا من أعمال كلام مثل الأمر والتمني والإثبات. أورد هابرماس المثال الأول كما يلي "عندما أشاهد في الطرف المقابل من الشارع صديقا يجري، فإن لي بالتأكيد إمكانية مماهاة مروره السريع أمامي بعمل"؛ إذ يمكن للمشاهد أن يتعرف على مثل هذا العمل، ولكن ليس بإمكانه أن يصفه على وجه اليقين بأنه خطط لعمل مخصوص، وسبب ذلك ببساطة أنه لا يعرف المقصد المحرك للصديق في هذا الفعل.
وفي مقابل ذلك، ينبِّه هابرماس إلى أعمال القول التي تستجيب الشرط، كما يبينه في المثال: "عندما يقول لي شخص ألقِ سلاحك، فإنني أكون على بينة بالعمل الذي يستوجب القيام به؛ حيث إنه تم إصدار أمر بإلقاء السلاح؛ الأمر يختلف عن الرجاء مثلا أو الاستعطاف". ولا يستدعي عمل مثل هذا تأويلا كمثل فعل جري الصديق في الشارع؛ لأنَّ عمل القول يكشف قصد المتكلم؛ فأعمال القول تؤول نفسها بنفسها بفضل بنيتها الإحالية إلى ذاتها، فمكونة العمل المتضمن في القول تحدد المعنى الذي استعمل فيه البيان.
إجماليًّا.. تتميز أعمال الكلام اليسيرة عن عموم العمال اليسيرة ذات الطابع غير اللساني ليس فقط بخاصيتها التفكيرية التي تجعل تأويلها يتم بإحالتها على ذاتها، وإنما أيضًا بالغايات التي ترمي إليها، وبالنجاح الذي يمكن أن تحصل عليه. وعلى المستوى العام، يُشير هابرماس إلى إمكان تفهم جميع الأعمال سواء كانت كلامية أو لم تكن، على أنها أعمال موجَّهة نحو غايات. ولكن بمجرد أن نبحث عن التفريق بين العمل الموجه نحو التفاهم والعمل الموجه نحو الغايات، يتوجب علينا أن نتنبه إلى أن ألعاب اللغة الغائية التي يتابع الفاعلون غاياتهم داخلها تحقق نجاحات، وتفضي إلى نتائج عمل، وتتخذ داخل نظرية اللغة معنى ليس داخل نظرية العمل؛ فالمفاهيم الأساسية تؤول هنا تأويلات مختلفة.
ويتبيَّن مما سبق أن هابرماس قد استنجد بالأدوات التحليلية التي أمدته بها التداولية للخروج من الأزمة التي وقع فيها الخطاب الحديث والمعاصر جراء انحباسه في فلسفة الوعي الذاتي. فالعقل العملي لم يعد يتحرك داخل نظرية معرفة محكومة بتوهم الذات.. إنها مرآة الطبيعة، وتوجه نحو نظرية أعمال يلعب فيها العقل التواصلي دورا تأسيسيًّا.
