مباحثات حول مفهوم التنوير

أحمد المكتومي

في منتصف القرن الثامن عشر طرحت مجلة ألمانية على كانط السؤال الشهير: ما هو التنوير؟ وذلك بالتحديد قبل خمس سنوات من الثورة الفرنسية. فكان جوابه معيارا تاريخيا للتفكير في مدارات التنوير التي شهدت تحولا ملحوظا بالحداثة والعقلانية. كشف لنا صالح مصباح في مقالة في مجلة التسامح (مفهوم التنوير في الفكر الفلسفي والنقدي الحديث والمعاصر) مفهوم التنوير وهل انتهى مطلب التنوير وبالتالي لا بد من التأكيد على انتهائه أم أنه مستديم ولازال يضخ أفكاره في دماء العامة.

لقد عرّف كانط التنوير بأنّه خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه وهذا القصور هو عجزه عن استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر، ويجلب الإنسان على نفسه ذنب هذا القصور عندما لا يكون السبب فيه هو الافتقار إلى العقل بل إلى العزم والشجاعة، اللذين يحفزانه على استخدام العقل بغير توجيه من إنسان آخر. لتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك، ذلك هو شعار التنوير. وقد لاحظ ميشال فوكو أن ما عرفه كانط لا يمكن أن يساعد أي مؤرخ على تحليل التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي حصلت في منتهى القرن الثامن. كانط الذي يقدم رؤية أبستمولوجية للتنوير في موضع تشابك نظره النقدي ونظره التاريخي يغفل لسبب أو لآخر الإشارة إلى الرهانات الأخرى للمسألة، بيد أن دارس تاريخ الفلسفة وتاريخ الأفكار لا بد أن يلحظ ذلك.

كانط الذي أعطى مفهوما مختصرا بل ومختزلا لم يدرك تقاليد البحث الفلسفي والتاريخي التي عمدت إلى مراجعة التنوير وجغرافيته؛ ومن هنا يمكن أن نقسم التنوير إلى: أولا، التنوير الراديكالي والذي يتسم بثماني سمات أساسية وهي :

 1. اعتبار العقل الفلسفي معيار الحقيقة والوحيد.

 2.طرح كل القوى الغيبية والسحرية.

3. الإيمان بالمساواة (العرقية والجنسية) بين كل البشر.  

 4. الدفاع عن تسامح شامل وحرية تفكير عمادها التفكير النقدي المستقل.  

 5. اعتبار الجهورية الديمقراطية أكثر أشكال السلطة السياسية شرعية.

ثانيا، التنوير المعتدل وهو الغالب تاريخيا والذي اغتصب مفكروه التسمية والقيم ولونوها بألوانهم، حتى الجذرية ذاتها أصبحت تقاس داخلهم.

 ثالثا، التنوير المضاد، يحدد المفكر برلين أنواعه وأصوله القريبة والبعيدة والتاريخية ونتائجه بطرح مبادئ التنوير الأساسية والموضوعية والعقلية والقدرة المستديمة من استنباط حلول مستحدثة لما يستجد من معضلات الحياة والفكر وقابلية أي مفكر للمعرفة القليلة إذا ما كان يمتلك القدرة على الملاحظة العقلية والمنطق. ولكن برلين عندما يدرج ضمن التنوير المضاد دعاة الثورة المضادة من الفرنسيين فإنه يمارس خروجا من دائرة التحليل المفهومي وابتعادا للتاريخ من المنظور الليبرالي شبيه بما عيب على الماركسيين من قراءة الثورة الفرنسية والتنوير الفرنسي من خلال منظور لقالب الثورة الروسية.

ومع أن هذه الأنواع الثلاثة من التنوير ليس لها أي علاقة بالهجوم على الدين، بحسب ما يراه صالح مصباح، إلا أن بيتر غاي يقول إن أقسام التنوير الثلاثة ما هي إلا دعوى لمحاربة الدين وولادة الوثنية، وإن التنوير الفرنسي كان كله هجوما على الدين، وإن التنوير الإنكليزي أو الألماني كان أقرب إلى الإصلاح الديني. أما الكانطية فليست إلا صيغة معتدلة من التنوير الأوروبي الحديث. وتبعا لذلك يمكن أن نقول إن الحركة التاريخية والنظرية قامت بالهجوم على جذور الحركة الثقافة الأوروبية التقليدية القدسية والسحرية والملكية والهرمية وتفكيكها، وبعلمنة كل المؤسسات والأفكار، وبتقويض شرعية الملوكية والأرستقراطية وخضوع النساء للرجال والسلطة والاستعباد والاستبداد وتعويض ذلك بمبادئ المساواة والديمقراطية.

لقد اشترك هؤلاء التنويريون (الراديكاليون والمعتدلون والمضادون) في قيم بعضها سلبية مثل مبدأ الاستقلالية الذاتية كما السياسية والأخلاقية للأفراد ومبدأ العلمانية والتسامح. وبعضها الآخر إيجابية مثل مبدأ تقدم الفلسفة التاريخية ومبدأ الإنسانية والسعادة والكونية. هذا عن تاريخ ما عرفه كانط وحدوده في ذلك الموقف؛ أمّا الآن فما هو التنوير في الفكر المعاصر؟ وهل انتهى عصر التنوير أما أننا نعيشه؟

لقد طرح هذا السؤال مراتٍ عدة، وفي كل مرة تختلف الإجابة باختلاف الأحداث. ففي الحرب العالمية الأولى والثانية كان امتحان فكرة التنوير شديدا جدا؛ إذ تراوحت المواقف بين مواصلة الدفاع عن المشروع كما عند العقلانيين والديمقراطيين التقليديين وحتى عند الاشتراكيين والشيوعيين، أو الذين يعتبرون (على خطى نيتشه) أنّ التنوير قد أنهى تاريخيًا حقبة من التفكير الغربي أو الميتافيزيقيا الغربية. وبدت الصورة لنا أنّ هذا القرن يسفه نهائيا جميع الآمال المعبر عنها في الماضي مما دفع الكثيرين إلى الكف عن الانتساب إلى الأنوار وصارت الأفكار التي تتضمنها فاقدة لكل اعتبار.

وبما أننا ورثة الأنوار الغربية أو خصومها أو مجرد اللاحقين لها تاريخيا نعيد تكرار أسئلة التنوير جملة وتفصيلا على نحو مستحدث يجمع بين النظر إليه أولا باعتباره تجربة تاريخية أوروبية-أمريكية وإذا كان كذلك فهل يعني أن تجربة الفكر في أثينا في العصر البريكلاسي المادي والعقلاني السفسطائي أو تجار الهند والصين في العصور الذهبية أو ما أنتجه مسلمو بغداد والقيروان وقرطبة، لا يعتبر تنويرا؟ وإذا نظرنا إليه باعتباره منظومات نظرية أنتجتها الرقعة الجغرافية نفسها، في الزمان نفسه، وتقدم موقفا أو رؤية للكون والإنسان وللمجتمع، فهل حقا نؤمن بأنّ لأوروبا فضلا في إعادة إنتاج واستحداث مفهوم التنوير؟

إذا كانت مستجدات البحث التاريخي والفلسفي تشير إلى أنّ التنوير المستند إلى قيم الحداثة وأسسها هو عبارة عن مجموعة برامج نظرية وعلمية كانت تطلب هدفا مشتركا وهو تحرير الإنسان من كل القيود، فما هي سمات التنوير المنشود؟ لقد رأى البعض سواء من مقام (غربي محافظ) أو من مقام (ثوري عدمي) أن التنوير قد ولّى، فقد كان مطلبا في الحضارة الغربية (أوروبا وأمريكا وروسيا). ويرى المقام الأول أنّ ذلك إنما تم باكتمال العلمنة التي طالت كل أنحاء الحياة وجعلت الناس والمجتمعات يتملكون زمام أمرهم في مجال النظر بأن حققوا تجرأً على حرية التفكير في الرب والكون والعالم والطبيعة والإنسان والمجتمع. أمّا المقام الثاني فيرى أنّ التنوير تحول إلى بربرية كما في كتاب وادرنو الشهير الذي كتب في المنفى الأمريكي غداة الحرب العالمية الثانية.

إنّ الصعوبة الكبرى حال التصدي له هي أنّ التنوير لا يزال مشروعا غير منجز. غير أنّ لوازم هذا القول تحتمل موقفا إيجابيا رائعا هو السعي إلى جعل قيم الأنوار (من عقلانية وديمقراطية وحقوق الإنسان وتسامح وحرية وكرامة وتقدم) تغمر بقايا أنحاء القرية الكونية التي ما تزال معتمة نوعا ما، وذلك بتعميم نموذج التفكير التنويري عن طريق التواصل العالمي معرفيا بالتعليم وإنتاج العلم وبالسياسة بفتح باب المشاركة العالمية للمجتمع في تنظيم أحوال البشرية على نحو ديمقراطي؛ وذلك عن طريق المنتديات العالمية، وبتوسل أدوات التواصل الجديدة، وبمراس الحوار بين الثقافات والأديان.

 

أخبار ذات صلة