أحمد المكتومي
كَتَب أحدُ الفلاسفة من زمنٍ بَعِيد مقالا فلسفيا، أورد فيه التساؤل الاستنكاري حول مفهوم الواجب، ولست أؤمن بأيِّ فيلسوف لم يطرح الموضوع عينه، وإلا من ذا الذي يقول عن نفسه فيلسوفا ولم يُضمِّن تعاليمه قاعدة خلقية تتعلق بمفهوم الواجب؟! يعدُّ إيمانويال كانط فيلسوفَ الواجب بامتياز؛ حيث ناقش فلسفة الواجب في عدد من مُؤلفاته؛ ككتاب "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق"، وكتاب "نقل العقل الخالص العلمي". مُحمَّد الشيخ أطلعنا في مقال بمجلة "التسامح" عنوانه "مفهوم الواجب الأخلاقي لدى كانط" حول مفهوم الواجب وتصنيفاته ودلالته.
الحق أنَّ كانط يعرف ويلخص الواجب بأنه القسر والإكراه والإجبار؛ إذ يقول في موضع من كتابه: "ما من واجب إلا ويُشكل قسرا وإكراها؛ وذلك حتى إن كان من شأن هذا الإكراه أن تنزله الذات بنفسها عن نفسها"، ويشير في سياق آخر إلى أنَّ الواجب قسر أخلاقي يمارسه عقل الذات المشروعة على نفسها. ويضيف في مقام آخر بأن الواجب يتضمَّن قسرا موضوعيا يتم بواسطة القانون، بوصف هذا أمرا قطعيا من شأنه أن يحدَّ من حريتنا. ويؤكد في موضع آخر أنَّ الواجب يُمارسه الفرد على نفسة لغاية لا تتحرى عن طيب قلب. وكان قد عرَّف الواجب في كتابه "تأسيس ميتافيزيقيا الأخلاق" بأنذَه ضرورة إتيان فعل ما احترما للقانون.
إنَّ كلَّ التعاريف السابقة، والتي تشير إلى أن الواجب هو الإلزام، تستدعي بعض الملاحظات؛ كونها تتخذ من الواجب أمرا خارجا عن إرادة النفس والحقيقة، حيث إنَّ الواجب يُمَارس على إرادة حرة بواسطة القانون الذي تضعه النفس لنفسها، وأنَّ القانون هو تشريع داخلي وليس وضعيا بالدلالات المتعارف عليها، وإلا لكان الواجب هو الإكراه البدني إنْ قلنا إنَّه قانون وضعي، وإنَّما الواجب هو قسر معنوي ونفسي وداخلي. ثم إنَّ الواجب ليس مطلوبا للغير، وإنما هو مطلب للذات، فهو بهذا غاية نفسه ولا غاية له إلا ذاته. فمثلا: لئن كان من واجب الإنسان ألا يؤذي نفسه بكثرة الطعام والشراب، فليس مبرر ذلك عند كانط أن يحفظ صحته؛ وذلك طلبا لتحقيق السعادة، وهذا ما يعتقده من قبل المفكرون في مذهب السعادة؛ إذ يقول مفكرو مذهب السعادة إنَّنا نؤدي الواجب طلبا لتحقيق السعادة. إنَّما الذي عند كانط أنَّ شأن الواجب أن يطلب للواجب ذاته وليس لسعادة تغمرنا عند أدائه، فهو ضد مبدأ السعادة، وداعم لمبدأ التشريع الداخلي؛ بمعنى تشريع المرء نفسه بنفسه لا لتحقيق سعادة مفترضة.
الحقُّ أنه ولئن كان الواجب قسرا، فإنه ما كان بالقسر الذي يسري على جميع الكائنات العاقلة كائنة ما كانت، وإنما يقتصر على الإنسان وحده دون سواه؛ فلا واجب للحيوان ولا الملائكة؛ لأن الأول شهوة بلا عقل، والآخر عقل بلا شهوة، ولكن الإنسان اجتمع فيه الاثنان العقل والشهوة؛ حيث يختصر الواجب على كائنات بطبيعتها صيدا للهوى، ونهبا للشهوة، ومدعاة لخرق القانون، ومحلا للفتنة.
يُبادر كانط إلى تصنيف الكائنات بحسب منظور فلسفة الواجب إلى صنفين: تصنيف أول يميز فيه بين كائن له كل الحقوق وما عليه من واجبات وهو الله، وكائن على الضد من هذه الحال عليه كل الواجبات وما له من حقوق وهو المجرم من بني البشر. وتصنيف ثانٍ يميز فيه أربعة أصناف؛ هي: الصنف الأول له حقوق وما عليه من واجبات (الله)، وصنف ثان له حقوق وعليه واجبات (الإنسان)، وصنف ثالث له من حقوق وما عليه من واجبات إذ ما له من شهوة (الجمادات)، وصنف رابع لا واجبات عليه ولا حقوق له (الحيوانات)، ومهما تعددت التصنيفات فإن الثابت أن ما يميز الإنسان عن الأعلى (الله) وعن الأدنى (الحيوان)، وأنه وحده من ينطبق عليه مفهوم الواجب.
دائماً ما كان يُردِّد كانط أنْ لا واجب على إله؛ إذ شأن الإله أن يوجب ولا يوجب عليه، وشأنه كائن يلزم الجميع وليس له أن يلزم بأي حال من الأحوال، وإنما هو له حقوق علينا، ولا لنا من واجبات عليه، وإنما الله يتضمَّن في مفهومه الحقوق فحسب، ولا يتضمن الواجبات، فليس لله أن يقسر أو يلزم بواجبات وإنما هو يلزم البشر بها.
ولو أتينا من جانب جنيالوجيا الواجب، فإنَّ مفهوم الواجب هذا مفهوم أصلي؛ أي أنه نابع من عُمق عقل الإنسان المحض العملي، فما كان الأصل أن يأخذ من تجربة أو يستمد منها وإنما هو بلغة كانط مفهوم أزلي؛ أي بمعزل عن كل تجربة؛ حيث يقول إنَّ من قلب العمل ينبع مفهوم الواجب. وما كان الأصل في الواجب أمرا تشترعه ذات مشروعة لذات أخرى، فما كان هو بالقانون الوضعي، إنما الواجب قانون تشترعه ذات مشروعة بالأصل -ذات إنسانية- لنفسها وتلزم بهذا القانون نفسها، وليس القانون تشريعا ذاتيا ينبع عن الهوى، وإنما يأتي بمعنى أن الذات تشرع لنفسها وكأنها تشرع لكل الناس؛ فهي لا تفرض قانونها على الناس. حيث يختصر كانط أمر التشريع بأنه كلُّ مشرع لنفسه؛ وذلك ليس بشريعة ذاتية أي فردية وإنما بشريعة ذاتية كونية.
هناك مسألتان دقيقتان عند كانط تخصَّان الصلة بين الواجب والحرية؛ هما: أنه تارة يجعل الواجب أصلا والحرية فرعا، وتارة يقول الضد؛ فهو يؤكد مثلا على أن مفهوم الواجب يتقدم على مفهوم الحرية، لكنه يذهب في منصفه نقد العقل الخالص العملي ليعلن أن الحرية هي شرط القانون الخلقي؛ وبالتالي شرط الواجب الأخلاقي. ولكنْ: هناك تساؤل يدور حول من يشرط من الحرية أم الواجب؟ ومن يُؤسس الآخر؟ الحرية تؤسس الواجب أم أن الواجب يؤسس الحرية؟ المسألة الأخرى هو جَمْعُه ما يبدو على أنه مستعصٍ على الجميع أي جمعه بين قسر القانون وحرية الإرادة في قوله: إن حرية الإنسان هي التي تلزمه على الاستجابة إلى نداء الواجب في أعماقه، وهذا القسر يمارس على الذات بالذات للذات.
ثمَّ يصنف كانط الواجب حسب الجنس والنوع؛ فهي من حيث الجنس جنسان؛ هما: واجبات الحق شأن الالتزام بالعقود، وواجبات الفضيلة شأن واجب حب الآخرين واحترامهم. وأما من حيث النوع؛ فهناك نوعان: واجبات الإنسان نحو الإنسان، والآخر: واجبات الإنسان نحو الكائنات الأخرى.
