سياسة اللاعنف: المخرج الوعر نحو حضارة إنسانية تنموية

أسماء عبدالله القطيبي

إنَّ الاحتفاء بالشخصيات التي قدَّمت إسهاماتها في أي من مجالات العلوم التي تخدم الإنسانية فعلٌ نبيلٌ، يدلُّ على تقدير الجهود المبذولة، وعلى الرَّغبة في الاستفادة من المنجز الذي قدَّمته هذه الشخصيات.. ولعل هذا ما دفع الباحث محمد أبو رمان في مقاله "تيارات السلم والمصالحة والحكم الصالح في الزمن المعاصر" -والمنشور بمجلة "التفاهم"- لاتخاذ المفكر والباحث الإسلامي جودت سعيد نموذجًا لهذه الدراسة؛ من خلال تسليط الضوء على إسهاماته الفكرية في مجال الفكر الإسلامي.. فمن هو جودت سعيد؟ وما أسباب تجاهل كثير من الباحثين والأكاديميين لمؤلفاته ودراساته؟ وما أهم الأفكار التي نادى بها حتى استحقَّ لقب "غاندي العرب"؟

يُعد جودت سعيد واحدًا من المفكرين المؤمنين بالتغيير السلمي، الذي يبدأ من الإصلاح الداخلي للمجتمعات بعيدا عن العنف. ولعلَّ نشأته وتنقله بين مناطق الصراع في العالم العربي أسهمت في تعزيزه لهذه الأفكار؛ حيث سافر جودت في سنٍّ مبكرة من سوريا إلى مصر لدراسة اللغة العربية في الأزهر. وشهد الصراع بين الإخوان والعسكر في الأربعينيات والخمسينيات، وفي تلك الفترة تعرف على كتابات المفكر الجزائري مالك ابن نبي، وتأثر بها تأثرا كبيرا. ثم كانت عودته لبلده الأم سوريا؛ حيث استشعر جودت أنَّ هناك بوادرَ صراع بين الحركة الإسلامية والسلطة. وخشية أن تشهد بلاده ما شهدته مصر، فقد سارع بتأليف كتابه الأول "مذهب ابن آدم الأول"، الذي لم يحظَ للأسف باهتمام كبير؛ نظرا لكون المناخ العام آنذاك كان مناخًا للثورة والصراع. وحدث في سوريا ما خَشي منه سعيد جودت وحذر منه في كتابه.

كان جودت سعيد مؤمنا بأن الإصلاح في العالم الإسلامي يتمثل في بناء الفرد المسلم، وتأهيله علميا وعمليا، بحيث يكتسب المسؤولية الأخلاقية والمجتمعيه التي هي الأساس الصحيح لأي تغيير في المجتمعات، كما أنَّ جودت كان يؤمن بفكرة "السننية"، والتي تقول بأن المجتمعات كحال الكون والطبيعة، لها قوانين محددة، يتحتم علينا اكتشافها وفهمها، والعمل بها لإنقاذ مجتمعاتنا من الجهل والتخلف. أما الفكرة التي دافع عنها المفكر جودت في كل مقالاته، فهي السلمية في الإصلاح من خلال رفض استخدام السلاح، ورفض التنظيمات السرية أيًّا كانت أهدافها والظروف التي نشأت فيها. وقد نظر في هذه الفكرة وأسهب في الحديث عنها والمدافعه لأجلها حتى أصبحت قضيته الرئيسية، وبسببها لقب بـ"غاندي العرب"، تيمُّنا بغاندي الهند، الذي نقل بلاده عن طريق ثورة اللاعنف إلى حال أفضل.

ويقول جودت سعيد في كتابه "مفهوم التغيير": "الأمة الراشدة أهم من الخلافة الراشدة، لأن الأمة الراشدة هي التي تصنع الخليفة الراشد وليس العكس، والأمة غير الراشدة تقتل الخليفة الراشد كما قُتل عمر بن الخطاب؛ لذلك علينا أن نعيد الأمة الراشدة، وبعد ذلك ينتج عنها تلقائيا الخليفة الراشد"، وبالنسبة لي يبدو هذا الكلام طوباوبيا بشكل كبير، فسعيد جودت يجعل الأمر غير ما يبدو عليه في الواقع، مُتجاهلا الظروف السياسية والقوانين الحديثة، والحقوق المدنية والتنظيمات التشريعية...وغيرها من التعقيدات التي حصلتْ في هذا العصر. كما أنه يتجاهل تجارب تاريخيه مهمة كانت المجتمعات الرشيدة فيها ترزح تحت وطأة ظلم الخليفة غير الراشد الذي يتفنن في أساليب الظلم. وحتى ننصف الرجل، فهو لا يعارض استخدام وسائل الثورة السلمية كالاعتصام...وغيرها، حتى لو أوذي المتظاهر فيها وتمَّ سجنه وتعذيبه. فالمفكر جودت سعيد يرى أن تبني سياسة اللاعنف ليس فقط لتجنب الصراعات بين القوى المختلفة، ولا للنأي بالدين عن التلطخ بالدماء، وإنما لإيمانه بأن قيمة الإنسان وحقه في الحياة أولوية، وأن سلطة الفكر يجب أن تكون أقوى من قوة السلاح؛ فالإنسانيَّة أرقى من الصراع البدائي وقانون الغاب الذي يحكم عالم اليوم.

ويعُود رفض جودت سعيد لسرية التنظيمات، خاصة المسلحة منها، إلى كَوْنه يرى مثل هذه التحزبات عائقا أمام التواصل بين كافة الأطراف، وأنَّ منشأها عاطفي وانفعالي، وأن مواجهاتها مع السلطة إنما تكون ردَّات فعل أكثر منها خِططا مدروسة بعيدة المدى، وبالتالي لا تحقق أهدافا تنموية وتوعوية مرجوة منها. وعلى الجانب الآخر فإن جودت سعيد لا يعارض وجود تنظيمات سياسية واضحة ومعلنة؛ فقد انخرط هو نفسه في بعض هذه الجماعات، وشارك بشكل فعال فيها. وهو ما لا يتعارض مع أفكاره في نبذ العنف والمطالبة المشروعة، وبما يجعله مثقفا عضويا بامتياز.

إنَّ الأفكار التي يتبناها جودت سعيد -خاصة تلك التي تتعلق بالإصلاح الثقافي والاجتماعي- جديرة بالوقوف عندها، خاصة بعد تجارب الربيع العربي التي كشفت الكثير حول ثقافة المجتمعات العربية، ومستويات وعيها، وخيبت ظن الكثيرين ممن راهنوا على تلاشي الاستبداد السياسي بمجرد إزاحة رموز السلطة. ولعل محاولات جودت سعيد في الدعوة إلى الإصلاح الداخلي ونبذ العنف هي دعوة لإيجاد طريقة جديدة وخروج ثالث للتعامل مع الأوضاع المزرية للدول العربية، ووضع هذه التجربة الجديدة تحت الاختبار بعد فشل التجارب التي أزهقت فيها الأرواح وسالت على إثرها الدماء، ومما يهم ذكره عند الحديث عند جودت سعيد أن دعواته المستمرة لتقويم السلوك ونبذ الإرهاب لم تكن تنظيرا يمارسه في برج عاجي -كما يفعل كثيرون- فقد رفض الرجل محاولة حكومة بلاده لاستغلاله كمطبِّل للسلطة، مرددا شعاراتها، رغم آرائه التي لا تحبذ الخروج عن سلطة الحاكم. كما أن جودت سعيد يعيش حاليا في قريته الصغيره ببئر عجم يعمل مع إخوته في الفلاحة وتربية النحل، بالإضافة للكتابة؛ مما يجعله صادقا في آرائه، مُطبِّقا لها، رغم وجود خيارات أكثر راحة ورفاهية.

أخبار ذات صلة