أمجد سعيد
يُسطِّر المفكر الفرنسي الكبير إدغار موران في مقال معنون بـ"تعليم التفاهم عند إدغار موران" للباحث التونسي محمد بالراشد -والمنشور بمجلة "التفاهم"- هذه الكلمات لتكُون المدخل لفهم المنظور الفكري للتربية والتعليم عند إدغار موران؛ فيقول: "إن الفهم هو وسيلة وغاية التواصل الإنساني في الوقت نفسه؛ فلا يمكن أن يكون هناك تقدم في مجال العلاقات بين الأفراد والأمم والثقافات دون فهم متبادل. ولفهم الأهمية الحيوية للفهم، يجب إصلاح العقليات، الشيء الذي يستلزم بطريقة متناظرة إصلاح التربية". ويذكُر موران في كتابه الشهير "المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل"، سبعَ مَعارف تتمحور حول أبجديات التربية والتعليم والإصلاح؛ منها: أنواع العمى المعرفي: والخطأ والوهم، ومبادئ من أجل معرفة ملائمة، وتعليم الشرط الإنساني، وتعليم الهوية الأرضية، ومواجهة اللايقينات، وتعليم التفاهم والفهم، وأخيرا أخلاق الجنس البشري، ويعد موران تعليم التفاهم معرفة ضرورية لتربية المستقبل؛ بل هي عنده إحدى الضرورات السبع التي لابد أن تستند إليها تربية المستقبل.
لقد غَدا تعليم التفاهم بين البشر تحديا تربويا. ومن هنا، نظر إدغار موران إلى التربية كتحدٍّ وكهدف يؤدِّي الوصول إليه وتحقيقه إلى انكماش المساحة وتقليصها، والتي كانت بدورها المسرح الأول للاتفاهم، أو هي وسيلة للتغلب على اللاتفاهم؛ ولكنه يقر بأن المسألة ليست بالسهلة، بمعنى أن "مشكلة الفهم والتفاهم صارت مشكلة أساسية بالنسبة للإنسان، وعليه يجب أن يكون هذا المفهوم وهو يشكل المشكلة بحد ذاتها ضمن تربية المستقبل وأهدافها". ولكن الأمر لا يخلو في هذه الحالة من تبسيط يخل بجوهر المسألة؛ لأن "تدريس الرياضيات شيء، والتربية من أجل تدريس فهم الإنسان والتفاهم بين الناس شيء آخر. إن الوظيفة الروحية للتربية هي تدريس التفاهم بين الأشخاص، وإن كان على مستوى العلاقات بين الأقرباء أو على مستوى العلاقات بين الناس والأمم.
ويرى موران أن أرضنا تعيش على مفارقة؛ فالترابطات تضاعفت والتواصل ازدهر؛ إذ تم اختراق الكوكب بشبكات الفاكس والهواتف النقالة والمحطات الصوتية والإنترنت. نعم، لقد تنامى الوعي بضرورة تضامن الناس بعضهم لبعض في حياتهم ومماتهم، لكن رغم ذلك أصبح اللاتفاهم عملية سائدة وطبيعية بين الناس، وبالتأكيد، حصل هنالك بعض التقدم وبأشكال كبيرة ومتنوعة في مجال الفهم؛ ولكن بالقياس مع ذلك يبدو أن اللافهم لا يزال يعرف تقدما ملحوظاً. المفارقة التي يعيشها كوكبنا الأرض هي: بالرغم من تطور وسائل الاتصال الحديثة وتنوعها، فإنها لم تمنع اللاتفاهم أو اللافهم من أن يعرف تقدما طبيعيا؛ فشبكة وسائل الاتصال الحديثة لم تعرف تقدما في تاريخها مثل ما نعيشه اليوم، وسهلت بذلك التواصل والاتصال بين البشر في كل البقاع المختلفة مقلصة من البُعد الزمكاني، فأسهمت من خلال ذلك في دعم تضامن البشر بعضهم ببعض، لا سيما في الكوارث المشتركة أو المماثلة، لكنها مع ذلك لم تستطع أن تمنع اللاتفاهم بين الناس. لقد ألغت هذه المفارقة تلك الحكمة القائلة: "كلما كنا أكثر قربا أصبحنا أكثر فهما".
ويُركز إدغار موران على شرح التمركز والتمحور حول الذات محاولا إبراز خطورته، وهو الشيء الجلي للعيان حول ما أدت إليه نزعة التمركز حول الذات من حروب الدول والأمم ضمن نسيج واحد متماسك. "تؤدي نزعة التمركز حول الذات إلى الكذب على الذات؛ وبالتالي إلى خداعها، وهذا ناتج عن اللجوء إلى التبرير الذاتي، وإلى تزكية الذات والميل نحو جعل الغير مصدرَ الشر؛ سواء أكان هذا الغير عبارة عن غريب أم قريب"، وهنالك بعض العوامل الداخلية العائقة للفهم تتصل برؤية الذات، فتضخيم الذات يجعلها تتعالى على الغير وتهمش الآخر وتصغر منه، ولن يتعدى في نظرها كونه مصدرا للشر. والأمر لا يخلو من خداع؛ لأنه في حالات عديدة يكون ذلك ناجما عن عدم فهمنا لذواتنا، وعدم فهم الذات هو أحد الأسباب الرئيسية لعدم فهم الغير. فنحن نخبئ عن ذواتنا عيوبنا ونقاط ضعفنا، الشيء الذي يجعلنا غير متسامحين مع عيوب الآخر ونقاط ضعفه الجلية. وبلغة مُغايرة، تضخيم الذات والتمركز حولها ليس دليلا على سوء الآخر وقبحه؛ بل هو دليل على عدم فهم الذات. فمن لم يستطع فهم ذاته كيف يستطيع أن يتفهم عيوب الغير وزلاته؟ لقد فتكت نزعة التمركز حول الذات حتى بعالم المثقفين الكتاب منهم أو الأكاديميين، والذي من المفروض أن يكون عالما يحقق تفاهما أكثر، نجده بالمقابل أكثر فسادا بسبب تضخم الذات، والذي تزايد بسبب حاجة المثقف للتقديس والمجد.
... إنَّ العوائق الداخلية لعدم الفهم مبنية بالأساس على تمثل الذات لنفسها، ومستندة إلى حاجات خاصة قد تكون تلبيتها سببًا في إثارة عدم الفهم؛ وذلك شأن المثقفين بمختلف أصنافهم، والذين أفسدت عالمهم الحاجة الملحة للتقديس والتمجيد. لقد صَاروا لا يختلفون في شيء عن السياسيين لا سيما في العالم النامي؛ وبالتالي تبدو الانتقادات التي كثيرا ما يوجهها المثقفون للسياسيين في غير محلها؛ بل إن الرأي العام لا يكون على استعداد لتفهمها اعتبارا لصورة الذات التي رسمها المثقفون لأنفسهم.
إنَّ انتشارَ الفهم والتفاهم بين الأفراد والأمم والثقافات يقتضي إصلاحا في التربية؛ وذلك حتى تكون هذه الأخيرة سبيلًا للتفاهم والتقارب بين الناس، لا سبيلا للفُرقة والحروب بين البشر. ولكي تكون هذه التربية هادفة وواعية ومؤثرة، عليها أن ترتكز على معنى واضح للفهم، وأن تنطلق من تحديد دقيق لعوائق الفهم، ومن بعدها من الوقوف عند أخلاق الفهم ذاته.
