منال المعمرية
إنَّ ما جرى في أوروبا من فصل للدين عن السياسة، كان بسبب تعدُّدية الطوائف واﻷعراق البشرية التي تعيش فيها، وبسبب الاقتتال الذي كان يحصل فيما بين هذه الجماعات انطلاقا من التعصب الديني أو الطائفي أو المذهبي. وفي سبيل الحفاظ على المجتمعات، قامت هذه الدول بفصل الدين عن السياسة، ونتيجة لذلك ظهرت مصطلحات كثيرة من قبيل: حرية الأديان، وحرية الرأي والتعبير، وحرية الفكر... وغيرها، واعتبر هذا بمثابة انتصار على التعصب الديني الذي كاد أن يقضي على مجتمعات بأكملها. وفي دراسة نُشرت في مجلة "التفاهم"، تحت عنوان "السياسة واﻹعلام وأثرهما في الترويج لصراعات اﻷديان"، يقدم الباحث أحمد إبراهيم أحمد رؤية إنثروبولوجية لواقع الإعلام في الوطن العربي، ودوره الرئيسي في تأجيج التعصب والصراع الديني، وذلك من خلال عدد من المباحث المتنوعة.
ويصف جان جاك روسو اﻹنسان بـ"المفترس الطيب" الذي صار عنيفا بالتدريج بسبب تأثير المجتمع المجافي لمقاصد اﻷديان السماوية وغاياتها السامية، والذي يخلق الاختلافات العقدية التي تصبح أرضية للأحقاد والعداءات والحروب التي تغلف خطأً أو تواطؤًا بوشاح من قدسية الدين، ويسمونها تجنيا "الحروب الدينية" كالحرب التي تدور رحاها اليوم بين إسرائيل والعرب والتي -لا شك- ترجع أسبابها الحقيقية للنزاعات السياسية أكثر مما تعود للخلافات العقائدية بين اليهودية واﻹسلام. أو تلك الحروب الأصولية الفظيعة التي عرفتها أوروبا الغربية في القرون السابقة، والتي دامت لعدة قرون بين أتباع الأديان والمذاهب المسيحية المختلفة من كاثوليكية وبروستانتية وأرثوذكسية، والتي انتقلت إلى عصرنا هذا على يد نفس اﻷصولية المسيحية التي ولدت في الولايات المتحدة، وظلت تترعرع فيها حتى أوصلت أحد رجالها اﻷكثر تشددا إلى سدة السلطة وهو جورج بوش، الذي سعى إلى تنفيذ أكثر أطروحات الإنجيليين تعصبا باحتلال العراق وأفغانستان؛ تعبيدا للطريق أمام الحرب الأخيرة التي تشهد عودة المسيح، كما يعتقدون!
فالواقع أن أسباب هذه الصراعات والحروب هي أطماعٌ بشرية وسياسية واجتماعية واقتصادية، صنعها السياسيون باسم الثورة والأيديولوجيا والمذهب والولاء المطلق، وألبسوها لباسَ الدين ليعتاشوا عليها وليكسبوا باسمها ود ضعاف النفوس والعقول الفارغة التي تستجيب إلى حد اعتقادها بأن التضحية في سبيل ذلك إنما هي أمرٌ جليل.
وفي عالمنا العربي، والعراق بصفة خاصة -إذ يتناولها الكاتب كنموذج في دراسته- الذي تتقاذفه اليوم اﻷمواج العاتية من الطائفية والمذهبية، الناتجة عن التدخلات واﻷطماع الخارجية بشكل أساسي، فإن ثمة فكرا ووعيا زائفا، يسعى لنشره اﻹعلام المسيَّس بشتى وسائله، وكيف لا يكون الإعلام مسيَّسا والدولة تمثل اليد العليا فيه؟!
"أعطني إعلاميا بلا ضمير، أعطك شعبا بلا وعي" (المقولة لجوزيف جوبلز، وزير اﻹعلام اﻷلماني الذي كان وزير إعلام هتلر)
إنَّ إصلاح وتحرير قطاع اﻹعلام العام من سيطرة الدولة، مطلب أصيل إذا ما أُريد حدوث أي تطور للإعلام في العراق، الذي كشف عن استمرار تسييس واستغلال هذا اﻹعلام من جانب الحكومة والحزب الحاكم، والتعامل معه كساحة لتضليل الرأي العام وأداة لتصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين، في الحين الذي كان فيه اﻹعلام الخاص الصاعد في العراق هو الفائز الحقيقي، فقد لعبت الصحافة الخاصة الجديدة دورا مهما في تغطيات متنوعة، والتصدي النقدي للقضايا العامة، كما أن القنوات الفضائية الخاصة تميزت بموادها الحيوية والتعددية في الرؤى والتناول.
إن التنافس اﻹعلامي يقوم على مبدأ الحرية والاستقلال، وهو اﻷمر الذي لم ولن يتحقق طالما ظلت مؤسسات اﻹعلام العام أشبه بوزارات سيادية لها وظيفة سياسية وأمنية عليا، وفي حماية ومنأى عن المحاسبة والمراقبة المجتمعية، باعتبارها مؤسسات ممولة من المال العام. إن فكرة وجود مؤسسات إعلامية مملوكة للدولة معبرة عن المجتمع وتياراته المتباينة فكرة لها رونقها على المستوى النظري، إلا أنها ترتبط بمشكلات التسييس والتوظيف من جانب النخب المسيطرة على مستوى التطبيق. ولكن هناك سياسات وبرامج من شأنها أن تجعل من اﻹعلام التابع للدولة إعلاما عاما وقوميا بالمعنى الحقيقي. ويكفي في هذا المجال دراسة تجارب بعض المؤسسات اﻹعلامية اﻷوروبية في فرنسا وبريطانيا وألمانيا، ومن أهم هذه التجارب نمط إدارة هيئة اﻹذاعة البريطانية، والتي تتمتع باستقلال كامل عن الدولة وتسير أمورها تسييرا ذاتيا، وفي الوقت نفسه فهي تُعدّ مؤسسة إعلامية عامة. إن وجود مثل هذا النوع من اﻹعلام العام المستقل يُعدّ عاملَ توازن يحتاجه المجتمع في مواجهة أي احتكار مُحتمل للسوق ورأس المال في ملكية وسائل اﻹعلام، ويعطي فرصة لنفاذ اﻷحزاب والتيارات السياسية لوسائط الإعلام، والتي قد يتعذر عليها امتلاك وسائل إعلام خاصة.
وفي العالم العربي الذي تعاني اﻷنظمة السياسية فيه، بصفة عامة ومزمنة، من الافتقار إلى الشرعية السياسية، أو ضعف تلك الشرعية بفعل الإخفاقات المتتالية لمشاريع التحديث وبرامج التنمية، والعجز عن مواجهة الضغوط الخارجية، كان -ولا يزال- احتكار السلطة السياسية لوسائل اﻹعلام وفرض هيمنتها الكاملة على الوسائط الإعلامية المختلفة، أداة رئيسية في الترويج للسياسات الرسمية ومهاجمة الخصوم السياسيين وتشويه صورتهم، وتعبئة وتوجيه الرأي العام وحشده في خدمة أهداف القابضين على السلطة في هذا البلد أو ذاك.
وفي هذه الدراسة، يهدف الكاتب إلى الوقوف على وضعية اﻹعلام المرئي والمسموع، والنظر في فرص إعادة هيكلة هذا القطاع باتجاه تعزيز حرية البث وتفكيك احتكار الدولة لهذا المجال واستغلاله في إثارة النزعات الطائفية والفئوية والعشائرية التي من شأنها أن تفتك بالمجتمع وتدمره بشكل كامل.
مبادرات في سبيل تحرير الإعلام من سلطة الدولة:
وعلى صعيد المبادرات، تبرز وثيقة "الاستقلال الثاني" الصادرة عن المنتدى المدني اﻷول، الموازي للقمة العربية الرابعة المنعقدة بتونس، وشارك فيه ممثلو 52 منظمة في ثلاث عشرة دولة عربية. حملت هذه الوثيقة مطالب لرفع الرقابة عن جميع وسائل اﻹعلام المقروء والمسموع والمرئي، وإطلاق حرية إصدار الصحف وتملك وسائل الإعلام وتداول ونشر المعلومات، وإلزام المؤسسات الدينية حدود سلطاتها وعدم السماح لها بممارسة الرقابة على النشاط السياسي والفكري واﻷدبي والفني، وإصلاح التشريعات العربية خاصة تلك التي تتعارض مع حريات الرأي والتعبير وتداول المعلومات والحق في المعرفة والعمل من أجل إنهاء سيطرة الدولة على جميع وسائل اﻹعلام.
أما بالنسبة للمبادرات العربية شبه الرسمية، فتبرز مبادرة الإسكندرية التي انطلقت عبر مؤتمر قضايا اﻹصلاح العربي، تحت رعاية الحكومة المصرية، وقد أكدت وثيقة اﻹسكندرية الصادرة عن هذا المؤتمر أن الديمقراطية الحقيقية تقتضي كفالة حريات التعبير بجميع صورها، وفي مقدمتها حرية الصحافة ووسائل الإعلام السمعي والبصري واﻹلكتروني، وطالبت بتحرير الصحافة ووسائل اﻹعلام عموما من التأثيرات والهيمنة الحكومية وتطوير القوانين المنظمة لإصدار الصحف وإنشاء محطات البث اﻹذاعي والتليفزيوني بما يضمن الاستقلال في الملكية والإدارة، والشفافية في التمويل، وتحقيق قدرة اﻹعلاميين على تنظيم شئون المهنة وممارستها دون تدخل السلطة.
ويُمكن القول أيضا إنَّ الدعوات الأوروبية واﻷمريكية للدفع باتجاه جعل العالم العربي ديمقراطيا، قد تم الدمج بينها فيما عُرف بمشروع الشرق اﻷوسط الكبير الذي طرحته الولايات المتحدة اﻷمريكية للنقاش مع مجموعة الدول الصناعية الثماني، وقد أكد المشروع على ضرورة حفز الحكومات باتجاه السماح لوسائل اﻹعلام بأن تعمل بحرية ودون مضايقة، كما تبنى المشروع تقديم الدعم للمنظمات غير الحكومية لتعمل على تقييم دوري للجهود المبذولة في مجال تحرير وسائل اﻹعلام، وتعزيز إعادة هيكلة قطاع اﻹعلام السمعي والمرئي بصورة تضمن استقلالية وسائل البث اﻹعلامي وتنوعها، بما يُتيح لها أن تعكس دون قيود تنوع اﻷفكار واﻵراء، وتلبي مختلف احتياجات وميول الجمهور، وتستجيب لحق المواطنين في المعرفة، بعيدا عن التدخلات السياسية والأيديولوجية الدينية التي تخدم طرفا معينا على حساب طرف آخر.
