من الخلافة إلى ما يشبه الملك: تحولات الخطاب في الأزمنة الإسلامية الوسيطة

فاطمة بنت ناصر

يتناول عز الدين العلام أستاذ العلوم السياسية بجامعة الحسن الثاني، في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم"، والذي حمل عنوان "دراسة في خطاب الأدبيات السياسية الإسلامية الوسيطة"، موضوعاً في غاية الأهمية؛ ألا وهو: الخطاب السياسي في الأزمنة الإسلامية الوسيطة، وهي الفترة التي تحوَّلت فيها الخلافة إلى شكل من أشكال الملك المتوارث. وكيف أنَّ هذا الوضع الجديد على المسلمين جَعَل المشتغلين على الخطاب السياسي يتأثرون، ويستقون الكثير من خطاب الممالك العريقة من فرس وعجم. ويقول الكاتب: إنَّ الثقافة السياسية الفلسفية والثقافة السياسة الشرعية المتمثّلة فيما يسمى "كتب الأحكام السلطانية"، قد تأثرت بثلاث مرجعيات أساسية؛ هي: السياسة الفارسية/السياسة الساسانية، والحكم اليونانية الهلنستية، والتجربة العربية الإسلامية.

 

من مظاهر التأثر بالقيم الفارسية واليونانية:

لقد تحوَّل الحكم الإسلامي من الخلافة إلى نظام أشبه بالملك المتوارث خلال فترة ليست بالطويلة بعد وفاة النبي -عليه السلام- وكان لهذا التحول أثر كبير على الخطاب الديني-السياسي، فكما نعلم ليس التحول إلى نظام موروث بالأمر الهين على المسلمين الذين ترسَّخت فكرة أنَّ أمرهم شورى بينهم؛ فنجد من الفقهاء من يُصر على أن السلطان والإسلام لا يجتمعان، ومنهم من قَبِل اجتماع المفهومين حد الشطط والإسفاف. فهل هناك تناقض حقاً بينهما؟ يُصر بعض المفكرين الإسلاميين كالأستاذ رضوان السيد على وجود تناقض أصيل بين الكتابات السلطانية وبين الإسلام.. على سبيل المثال: يرى أن مبدأ "انتهاز الفرص" لا يتلاءم والفكر السياسي الإسلامي، ويرى كذلك أن فكرة الطبقات الاجتماعية الفارسية تصطدم في كثير من الأحيان بالمضامين الإسلامية، ويخالف مبادئ أساسية -كمبدأ أن الناس سواسية كأسنان المشط- غير أنَّ أغلب الباحثين لم يجدوا هذا التناقض؛ بدليل أن النصَّ السياسيَّ السلطويَّ لم يتغير حتى حين كان يستقى من الموروث الإسلامي العربي، كما فعل مثلا ابن الحداد في كتابه "الجوهر النفيس في سياسة الرئيس"، الذي يعتمد على أخلاق المروءة العربية في صياغة خطابه. ونجد أنَّ كل فقهاء الآداب السلطانية مهما اختلف موردهم الذي يستقون منه -التراث الفارسي، اليوناني الهلنستية، أو الموروث الإسلامي العربي- فخطابهم متشابه لا تناقض فيه، ولا زعزعة لسلطوية السياسة. ومؤيدو هذا الرأي كُثر؛ أبرزهم: الباحث إحسان عباس، والأستاذ عبدالمجيد الصغير، وكاتب المقال...وغيرهم كثر. ومن وجهة نظري المتواضعة، أراني أتفق معهم؛ ففي أثناء قراءتي لهذا المقال، تذكرت كيف أنشأ الخليفة عُمر بن الخطاب "ديوان العطاء"؛ حيث خالف به ما كان أبوبكر الصديق يقوم به؛ مثل: تقسيم الأموال على الناس بالتساوي لا فرق ولا تمييز بينهم، بينما اختلف عُمر بن الخطاب عنه، وقيل إنه قال: لا أجعل من قاتل رسول الله كمن قاتل معه، وشرع بحصر الناس ابتداءً بمنازلهم، وبدأ ببني هاشم.

ومن هذا المثال البسيط نُلَاحظ أمرين: اقتباس فكرة الدواوين الفارسية، والأمر الثاني: تقسيم الناس بنظام طبقات ليس فارسياً (كما أراه) وإنما عربي إسلامي؛ قام عمر -رضي الله عنه- بصياغته بنفسه ابتداءً بدرجة القرابة من النبي -صلى عليه وسلم- وأسبقيتهم في الجهاد والإسلام، بل إنه أعطى بعضهم أكثر من غيرهم على أساس محبة النبي له؛ مثل فرضه لعمر بن أبي سلمة 4 آلاف درهم. ونرى أنَّ كلا من أبي بكر وعمر اختلفا في هذا، رغم أن كلًّا منهما استند إلى فهمه للإسلام؛ فأبوبكر رأى أنَّ الناس سواسية كأسنان المشط، وعمر رأى غير ذلك، واعتمد النسب ودرجة القرب من النبي في تقسيم العطايا.

ولا يُمكن أن نُنكر أن كُتاب الآداب السلطانية اقتبسوا من الثقافة الفارسية واليونانية، لكنهم أيضاً لقَّحوها بالتراث الإسلامي لتكون أكثر تجانساً مع واقعهم، وهذه حال الأمم في كل زمان ومكان؛ فلا يُعقل إنكار هذا التبادل بينها. ونلاحظ أن الأدبيات السلطانية زاخرة بالاستشهادات القرآنية في مقابل المقولات الفارسية والحكم اليونانية الهلنستية، دون تفاضل بين ما قاله الله ورسوله، وما قاله حكيم أو ملك فارسي. ومن الأمثلة على ذلك: نرى ابن أبي الربيع في كتابه "سلوك الممالك في تدبير الممالك" يستقي من التراث اليوناني، بينما ابن المقفع والماوردي يُؤسِّسان ما كتباه على التراث الفارسي. أما ابن الحداد وأبوبكر الطرطوشي، فيعتمدان على الموروث الإسلامي العربي؛ فابن الحداد يبني تصوراته على مكارم الأخلاق العربية وقيم المروءة، بينما الطرطوشي يركز على مكارم الأخلاق الإسلامية.

 

العلاقة الطردية بين الشرع والسلطان

يتَّضح أنه كلما زادت مظاهر الملك والسلطان في الخلافة الإسلامية، زادت هيمنة الشرع وعلا صوته. فيقول الكاتب إنَّ العلاقة لا يمكن إنكارها؛ حيث نجد أن غالبية من كتبوا عن السلطان هم الفقهاء، وهم أنفسهم من يفتون في النهار بما أمرت به الشريعة، وفي الليل هم جُلَّاس وسُمَّار السلطان. فالسلطان والشرع في تراثنا الإسلامي وحاضره يبدو أن بقاء كل منهما مرهون بالآخر. فكما قال عبدالله العروي في مفهوم الدولة "السلطان يخدم الشريعة ظاهراً؛ لأنها تخدمه باطناً"، أو كما قال أحد الشعراء: "الملك بالدِّين يبقى... والدين بالملك يقوى".

ورغم هذا التقارب بين السلطان والشرع، يَرَى كاتب المقال أنه لا يُوجد خلط بين المجال السياسي والمجال الديني التشريعي. فأبرز كُتاب الأدب السلطاني كالماوردي وابن الحداد فصَّلوا في كتاباتهم بين أمرين: سياسية الدين وسياسية الدنيا. فسياسية الدين تتعلق بقضاء الفرائض وتطبيق الشريعة من بيوع وأنكحة وطلاق وإيجارات وغيرها. أما سياسية الدنيا، فهي المعنية بشؤون إعمار الأرض كتدبير الحروب وأمن السبل وحفظ الأموال. ويقول الكاتب إنَّ الكُتاب الفقهاء أعطوا أولوية للمجال السياسي؛ لأنه يتعلق بالمصلحة العامة. أما خرق الشريعة الدنيوية ضرره محصور على المذنب أو في محيطه الضيق، على عكس خرق أدب السياسة الذي فيه تخريب لعمارة الأرض وفيه ضرر عام.

 

الأديب السلطاني والخطط الدينية والدنيوية

يُلَاحَظ أنَّ مؤلف الأدب السلطاني رغم صِياغته للخطط الدينية والدنيوية يتشدَّد في الخطط الدنيوية، ويتساهل في الخطط الدينية؛ مثال ذلك: التشدد الكبير في وصف تولية أصحاب الوظائف الدنيوية، وفي المقابل التساهل في أمر تفصيل تولية وظائف الشؤون الدينية ليصبح أمرَ تعيينهم بيد أهل المنطقة نفسها. غير أن هذا التفضيل الضمني لا يَلغي أبداً مقام المفتي، فهو يحول السلطان إلى طالب لها. كما أنَّ دور السلطان فيها -كما يقول الكاتب- "كدور شرطي المرور" يضمن السير دون اضطرابات. ولا يرى الكاتب وجود تعارض بين الدين والسياسة؛ حيث إن شؤون كل منهما تسير دون إعاقة من الأخرى. فالحياة السياسية السلطانية قائمة وكذلك حياة الفقهاء والأئمة؛ فالدين في السياق الإسلامي يتجاوز كونه أداة لأدلجة العقول ليصبح إحدى وسائل السلطان لتنظيم رعاياه، وإبعاد الفتن عن حكمه وترسيخ سلطانه.

أخبار ذات صلة