عاطفة المسكرية
عندما نخوض في مواضيع مُتعلقة بمشيئة الله من جانب وإرادة الإنسان من جانب آخر ترتبط بها مواضيع أخرى في نفس السياق كموضوع الشرائع الإلهية والقوانين البشرية أو كون الإنسان مسيرًا أم مخيرًا. وهنا نلخص مقالاً للدكتور مصطفى لافي الحرازين بعنوان "الشريعة والقانون والأنثروبولوجيا النسخ والتناسخ" نشره في مجلة التفاهم.
وتكمن الإجابة على هذه المسائل في فهم معادلة التكافؤ بين إرادة الله وإرادة الناس، حيث إنَّ اليقين بعدل الله سبحانه وتعالى يخلق الإقرار بوجود هذا التكافؤ حتى ولو لم يكن يستوعبه كافة الناس بشكل مباشر. ولفهم فكرة التكافؤ في النقطة الأولى المتعلقة بمشيئة الله وإرادة الناس، فلابد من استيعاب أن الأولى هي أشمل وأوسع مدى من الأخيرة. فإرادة الناس تتحقق بمشيئة الله. فلنفترض أن يريد شخص ما تحقيق هدف ما مع الأخذ بكل الأسباب التي يراد منه الأخذ بها لتحقيق هذا الهدف، فيُريد الله له هنا أن يحقق له هذا الأمر أو لا يحققه له، فالسماح أو عدم السماح بتحقيق هذا الهدف هي مشيئة الله – الكل- التي استوعبت إرادة الإنسان - الجزء- وهكذا. أي أنَّ نوع العلاقة هنا ليس علاقة تكاملية أو علاقة تناقضية، وأن وجود الأول لا ينفي وجود الآخر بتاتاً فمشيئة الله تستوعب مشيئة الإنسان وفي قوله تعالى (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) . فعندما يتحقق الهدف الذي أراده الإنسان فإنه لم يتحقق إلا بإرادة الله، ومن هنا ننتقل لمسألة التخيير والتسيير التي سبق وأن تطرقنا لها في مقالات سابقة. حيث نعود مرة أخرى لنقطة التكافؤ وعدل الله مع عباده. فمن المتعارف عليه أن الإنسان يتحمل مسؤولية أعماله ويجازيه الله بناء عليها إما بالجنة أو النار. هذه المسؤولية لم يكن الإنسان سيحملها إن لم يكن مخيرا فكيف يحاسب الإنسان على أمر لم يكن له يد في اختياره. وكيف يحفز نفسه على بذل وعيش حياة لم يقم باختيارها هو! إن غرس هذه العقيدة في الإنسان يضعه موضع المتواكل على ربه المستسلم لأمره دائمًا. وهناك عدة طرق تحادث منطق العقل البشري ومن الممكن الاستدلال بها لتأكيد مسألة تخيير الإنسان. أوامر الله سبحانه وتعالى ونواهيه، كيف يؤمر أو ينهى عن أمر ما من لا خيار له من الأساس! إنما التسيير جاء في بعض الأمور فقط. فالإنسان مثلا غير مُخير في والديه والبيئة التي ولد فيها عدا أنها الأخيَر له، فالخيرة فيما اختاره الله لنا إيمانًا ويقينًا. بعد أن يخير الإنسان في بعض الأمور يسير مرة أخرى إما نحو التكريم وإما نحو العقوبة، وكل ذلك يبنى على اختياره لعمل الخير أو الشر. وهنالك استثناءات برحمة الله الذي يعفو ويغفر لعباده. فلسفة التسيير والتخيير إذا ما تمَّ استيعابها بالشكل الصحيح فإنها تعكس التكافؤ المتمثل في طبيعة الخالق العادل. وأخيرا نتطرق لمسألة الشرائع الإلهية والقوانين البشرية، نجد أن الأخيرة مستمدة عادة من التي قبلها، هنا نعود مرة أخرى لمسألة الجزء والكل، فتنطبق على هذه المسألة كذلك؛ فالشريعة (هي ما شرع الله لعباده من الدين) وقيل إنها تحوي سبل النجاة في الحياة.
تعد الشرائع الإلهية في مستوى أعلى من القوانين التي وضعها البشر. بل إن بعض القوانين الوضعية تستمد من الشريعة في بعض الدول المسلمة إن لم تكن كلها. كان هذا النمط المتعارف عليه في السابق إلا أنه مع ظهور المجددين وتغيير الظروف حدثت تغييرات كثيرة حيث أصبح هناك ميل لإعادة تشكيل الشريعة بطريقة تصب في دعم فكرة الإنسان الإرادوي؛ ففي السابق استطاعوا القضاء على الفساد المتفشي بتطبيق الشرائع الإلهية إلى أن تحسنت أوضاعهم واستطاعوا أن يسودوا العالم. لكن إذا جئنا نتفحص الواقع اليوم نجد أن البعض من هذه الشرائع التي أنزلت في تلك الفترة الزمنية وتحت ظروف معينة لا زالت تطبق حتى يومنا هذا، فيختلف عليها المشرعون والمجددون منهم بين صلاحية تطبيقها في كل زمان ومكان بغض النظر عن الظروف وبين محدوديتها لتتناسب مع ظروف ذلك الزمان فقط. هذا بالنسبة لبعض الشرائع الإلهية أما البعض الآخر فقد ألغي من قاموس التطبيق بتاتًا بغض النظر عن الأسباب. تفشت الجرائم والفساد في هذا الزمن في الكثير من الدول إذا ما نظرنا إلى الصورة العامة، وهذا ما يؤكده الواقع على الرغم من وجود أدوات ردع تم استحداثها مع الأنظمة الجديدة في كافة الدول، تختلف صرامتها وفاعليتها من دولة لأخرى.
إذا ما جئنا نسلط الضوء على الدول الإسلامية تحديدا من جانب الالتزام بالقوانين وتطبيقها نجد أن الانتهاكات واردة جدًا ولكن الأمر يحتاج إلى دراسة ومقارنة بين الفترات التي طبقت فيها الشرائع الإلهية والقوانين الوضعية المستمدة من الدساتير والأنظمة الغربية وما إذا كان ذلك عاملاً أو عنصرا مرتبطاً بهذا الانفلات بشكل مباشر أم لا. فلنفترض أنه وبعد الدراسة المعمقة اتضح أن سبب تفشي الفساد هو عدم تطبيق الشرائع، ويراد من المشرعين العودة إلى وضع القوانين المستمدة من الشرائع الإلهية في كل شاردة وواردة. ستظهر مشاكل أخرى سبق لها وأن ظهرت في ذات السياق مرتبطة بالتركيز على المصالح الخاصة لجماعات محددة تأتي التشريعات لتقننها وتعينهم على تنفيذها، وبالطبع يكافأ المشرع على ذلك أضعاف ما كان يتصوره. وبالطبع لا يُمكن التعميم في هذا الأمر على كل المشرعين. إلا أن ذلك يعيدنا لأحد كتب عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي الذي تحدث عن هذا الأمر في كتابه "وعاظ السلاطين "، فتطرق فيه إلى ازدواجية الشخصية لدى الوعاظ الذين يعظون وفقًا لمصالح السلاطين الذين يوكلون إليهم مهام الوعظ بالطاعة العمياء للسلاطين تارة ونسب كل ما يفعلونه للشرع وربطه برغبتهم في صلاح الأمم والشعوب. وفهم هذا الجانب لهو أمر مهم في سبيل فهم مستجدات الواقع لدى كثير من الدول من حولنا، حيث لا يختلف السيناريو كثيرًا عمَّا تم ذكره هنا.
