قراءة في ماضي الشرعية وحاضرها ومستقبلها

فاطمة بنت ناصر

ليس للشرعية في الإسلام مفهوم واضح وقاطع يتفقُ عليه المسلمون، بل هناك آراء متعددة وتمثلات مختلفة لها على مر العصور.. وقد استعرض تاريخ مفهوم الشرعية وحاضرها ومآلاتها المستقبلية الكاتب والمفكر رضوان السيد، ونشر ذلك في مجلة "التفاهم" في مقال مطول يقع في 32 صفحة، سأحاول تلخيصه والتعقيب على بعض نقاطه في القادم.

للشرعية مفاهيم وتعاريف تختلف باختلاف من يحاولون تفسيرها؛ فللفقهاء تعاريف مختلفة تختلف باختلاف فرقهم، وللمتكلمين والجغرافيين والمؤرخين مفاهيمهم الخاصة أيضاً، إلا أن جميعها يدور حول ثلاث وحدات يسميها الكاتب هيكل الشرعية التأسيسية؛ وهي: وحدة الأمة، ووحدة الدار، ووحدة السلطة.

ومن أقدم تعريفات الفقهاء لها قول الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت 189هـ: "دار الإسلام هي الدار التي تسود فيها شرعة المسلمين وإمامهم، وأن تكون مستقلة في الشرعة والتخوم عّما يجاورها من دور الكفر والحرب، وأن يكون فيها المسلم والذمي آمنين بالأمان الأول". وهو يتفق مع تعريف الإمام مالك، وهما يعطيان الأولوية لوحدة الأمة وسندها القرآن ووحدة الدار. أما الحنابلة، فقد اهتموا بشكل أساسي بوحدة السلطة أو الإمام. إلا أن هذه المفاهيم واجهت اختلالات كبيرة؛ منها: طريقة الوصول إلى السلطة، وتجاوز حد السلطة من جانب ولي الأمر، وانقسام السلطة أو ظهور السلطات رغم بقاء الجميع من الناحية الشكلية الفقهية تحت ولاية الإمام أمير المؤمنين. مثال على هذا ما نراه من أقوال في ولاية معاوية بن أبي سفيان؛ فحسن البصري كان يراها غير شرعية لأن ولايته قامت بغير الشورى، وولى ابنه بعده واحتكم إلى الهوى والمصالح في الحكم على الدماء والأموال. ولكن أكثر الفقهاء (وليس المتكلمين) قالوا بشرعية حكم معاوية، وأطلق على عام إجماعهم هذا بعام الجماعة 40 هـ. وبالتأكيد، تم تعليل هذه الشرعية بأقوال منها: أنه أنهى الفتنة وحقق الاستقرار..إلخ. وبهذا، نرى أن تجاهل الشورى ورأي أهل الحل والعقد جاء في وقت مبكر وليس ببعيد عن وفاة النبي. وبتمدد دولة الإسلام فرق الفقهاء بين السلطان والخليفة؛ فالماوردي يشدد على ضرورة أن يكون الخليفة من قريش، بينما السلطان يجوز أن يكون من غيرها طالما أن ولاءه معلن لأمير المؤمنين. أما الجويني، فقال إن شرط قرشية الخليفة لم تعد ضرورية وكذلك الخليفة شرعيته تسقط بوجود السلطان طالما أن الخليفة لا يقوم بأمر الأمة بنفسه. وبسقوط غرناطة وغيرها من الإمارات بيد غير المسلمين، نجد رأياً مهمًّا لفقهاء شمال إِفريقية، وأغلبهم من المالكية، وبعض الإباضية الذين أفتوا بضرورة الهجرة إن لم يستطيعوا الجهاد، وأن كل المعاملات وإن كانت إسلامية لا تصح إن كان القائم على الأمر غير مسلم ويرونه "طاغية"، فهم يَرَوْن أن الهجرة لم تنسخ لهذا فهي صالحة لكل زمان واستثنوا من الهجرة المستضعفين والذين لايملكون النفقة.

وقد توالى انكماش الدولة الإسلامية حتى الربع الأول من القرن التاسع عشر الذي اكتملت فيه السيطرة البريطانية على الهند، وبدأت الفتاوى تظهر بأن الهند لم تعد دار إسلام. وقد تأثر فقهاء الهند الأحناف بهذه الآراء المتشددة رغم أنه في البداية كانوا يَرَوْن أنه لا ضير في حكم المستعمر طالما السلطان مسلما والمصالح والمعاملات محفوظة، ولكن كانت للنزعة السلفية المتمثّلة في كتب ابن تيمية وابن القيم اليد العليا التي أدت إلى ثورات أفظعها كان بين 1946 و1947 مات فيها الملايين من المسلمين والهندوس، تلاها انفصال الدولتين عن بعضهما بسبب انعدام التسامح والتعايش لتأثير الفتاوى المتشددة التي أراها حتى اليوم تدغدغ مشاعر الحمية لدى المسلمين دون تقدير لموازين القوى؛ مما تسبب لنا بخيبات وخسائر كثيرة بدءاً من الهند والجزائر والبوسنة وليبيا والسودان، وصولاَ إلى أرض فلسطين التي لم يبق منها سوى الفتات. وفي كل المرات ينتصر رأي الجهاد على رأي الاعتدال بعدم الجهاد طالما المحتل لم يتدخل في العبادات والمعاملات، وهذا رأي الأحناف الذي لم ينتصر في الجزائر أمام رأي الأمير عبدالقادر الذي قاتل وخسر الحرب مع الفرنسيين وتم أسره ونفيه. بعدها علقت الآمال على الخلافة والسلطنة العثمانية بوصفها حكما يقوده مسلم لا يرضخ للكفار.

 

نهاية الخلافة ومحاولة إحيائها:

لقد كان تفتت الإمبراطورية الإسلامية، وتبخر الخلافة، وحلول الاستعمار، ومحاولات التغريب والتحولات الكبيرة التي شهدتها الدول الإسلامية، دافعاً لظهور العديد من أصحاب الدعوات الإصلاحية الذين يريدون لمَّ شمل الأمة لإعادة ما ذهب عنهم. ومن المثير أن نجد دولاً لم تخضع للخلافة العثمانية كالهند مثلاً يظهر من يؤسس لحركة سموها "حركة الخلافة"! ونجد أن رغبة عودة الخلافة بوصفها الأمل المحرر من خيبات كثيرة عّم العالم الإسلامي من شرقه وغربه. فظهرت حركات كثيرة تنادي بعودة الشرعية والخلافة؛ أبرزها تلك التي ظهرت في مصر: كالجمعية الخيرية الإسلامية، والجمعية الشرعية، وجمعية أنصار السنة المحمدية، وجمعية الشبان المسلمين، وأخيراً جمعية الإخوان المسلمين، وهي بالطبع الجمعية الأكثر تأثيراً بينها. وظهرت أسماء بارزة كذلك قادت هذه الحركات وصاغت أبجدياتها كمحمد عبده، وحسن البنّا، وسيد قطب...وغيرهم. وأعتقد أن عمر هذه الجمعيات ارتبط بقدرتها على التعاطي مع الآخر. فمعظم الحركات التي زالت أو تأثيرها ظل محدوداً، كانت ترى أن لا حوار مع الآخر الذي تراه كافراً وخارجاً من الملة إن كان مسلماً ويتعاطى مع الغرب الكافر المستعمر. بينما نجد أن عمر جماعة الإخوان أكثر طولاً لأسباب عديدة أهمها قدرتها على التعاطي مع الآخر والتفاوض معه.

 

مستقبل دعاة الشرعية:

وعلى عكس من يقولون بأن الإسلام السياسي ودعاة تطبيق الشريعة قد فشلوا، ولن تقوم لهم قائمة -من أمثال: أوليفييه روا وجيل كيبيل وسعد الدين إبراهيم وفرانسو بورغا- فإن كاتب المقال الأستاذ رضوان يرى أن له مستقبلا؛ لأربعة أسباب.. هي:

1- تأسيسه على فكرة استعادة الشرعية التي لاقت إعجاباً وسط صفوف الكثيرين ممن يقبعون تحت حكم فرض عليهم فرضاً (كحكم العسكر).

2- حقق نجاحاً باهراً في صناديق الانتخاب؛ الأمر الذي جعلهم يستعيدون الثقة بأنفسهم، رغم أنهم ركبوا الثورة، ولَم يكونوا من أوائل الخارجين أو الداعين للخروج على الحكام في الربيع العربي.

3- قوة وتماسك تنظيماته العقدية، ووجود كاريزما جاذبة للجمهور في أي عصر، وهي كاريزما الشريعة وإقامة الدول الإسلامية.

4- استطاعتْ على مر السنين ترسيخ مفاهيم في عقول العامة يصعب نقاشها وتصحيحها؛ مثل: الإسلام دين ودولة، والدولة ضرورية لصون الدين، والإسلام هو الحل.

وفي الختام، يرى الكاتب أن الحل يكون بالعودة إلى حين كان الفقهاء يَرَوْن الإمامة أو السلطة؛ باعتبارها تدبيرا واجتهادا. فالدولة لا تقيم الدين أو تستنفذه، والدين لا يطمح أن يحل محل النخبة السياسية في إدارة الشأن العام. وهذا لا يشبه العلمانية؛ كونه لا يفصل الدين عن المجتمع وثقافته، بل يحافظ عليها. وأن الإصلاح السياسي مطلوب بتحقيق الحكم الصالح بعيداً عن استبداد العسكر والاستغلال الديني الأصولي.

وأرى أن الكاتب قد أصاب فيما وصل إليه، فالدول الإسلامية لم تنجح حتى الآن في تحقيق مثال يحتذى به؛ فعلى مر السنين هناك إما استغلال عسكري مستبد للسلطة، أو استغلال ديني لعقول العامة، وفي الحالتين لم يتحقق إنصاف المجتمع وتحقيق العدل.

أخبار ذات صلة