أسماء عبدالله القطيبي
ليس من الجديد الحديث عن العلاقة بين الدين والدولة، وطرح الأسئلة حولهما، خاصة في العالم العربي، الذي تدين الغالبية فيه بدين الإسلام، وتتكرر الأسئلة حول مدى أهمية هذه العلاقة، وهل يمكن الفصل الكلي بينهما؟ وهل يستطيع كلاهما المضي جنبا إلى جنب في ركب الحضارة؟ أمّ أنه لابد من تقديم أحدهما لبعض التنازلات؟ وإن كان ولابد، فأي منهما هو الثابت وأيهما المتحول؟ تسعى مقالة "مستقبل العلاقة بين الدين والدولة في العالم العربي" المنشورة في مجلة التفاهم للإجابة عن مثل هذه الأسئلة باستشراف مآل العلاقة بين الدين والدولة في عالمنا العربي، وذلك من خلال استعراض تاريخ هذه العلاقة منذ بداية نشأتها في العصر الإسلامي، مرورا بالدولة العثمانية، وأبرز الأحداث التي فجرت الجدل حول العلاقة بين الدين والدولة في العصر الحديث والتي جعلت من هذه العلاقة مثار جدل وصراع أحيانا، كوصول الإسلاميين للحكم في إيران، وصدام الإخوان المسلمين مع حكومة جمال عبدالناصروغيرها من أحداث، وعلى ضوء هذه الأحداث ونتائجها يقدم الكاتب توقعاته لمستقبل العلاقة بين الدين والدولة في العالم الإسلامي.
قبل ألف وأربعمائة سنة عندما جاء النبي الكريم بالرسالة المحمدية أسس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وكانت سياسات الدولة الناشئة تستقي تعليمها من القائد الوحيد النبي محمد، وقد استطاعت هذه الدولة الوقوف على قدميها. ففي الشأن الداخلي استحدثت أنظمة تحقق الحياة الكريمة لمواطنيها كنظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، والتوزيع العادل للأموال، وإقامة الحدود على كل من يحاول الاعتداء على الغير. أمّا على المستوى الخارجي فقد استطاعت الدولة الإسلامية خلال وقت قصير فرض هيبتها في المنطقة، وتوسعت حدودها في زمن قياسي. ومن الصعب في هذه الفترة الزمنية التمييز بين ما هو (ديني)، وما هو غير ذلك، فقد كانت على سبيل المثال القرارات العسكرية مزيجا من الأوامر الربانية، والحكمة النبوية، والاجتهاد البشري. لذا فقد برزت بعد وفاة النبي عدة إشكاليات تتعلق بـ(الخلافة) بدءا من اختيار خليفة النبي وليس انتهاء بكيفية التعامل مع الخارجين عن الدولة. كما بدأت الدول تتعقد وظهرت إشكاليات كبيرة خاصة في الأمصار البعيدة عن مركز الخلافة، والمختلفة في عاداتها وتعاملتها عن المتعارف عليه في منطقة الجزيرة العربية. وقد حاول بعض الفقهاء تجنب الاختلاف من خلال جعل الإجماع والقياس مراجع معتمدة بعد الكتاب والسنة. وهكذا ظل الدين والدولة يتداخلان ويتباعدان بما يحقق المصلحة العامة، حتى أثار المأمون قضية خلق القرآن، واستدعى العلماء من كافة الأقطار للإقرار بذلك وإلا فالسجن، وقد كان للأمر وقع كبير على كثير من العلماء، ليس للأمر بحد ذاته - أي مسألة خلق القرآن، وإنّما لكون المأمون قد استخدم سلطته السياسية لفرض رأيه الديني وإجبار علماء الدين على التسليم به، وقد جعلت هذه الأزمة كلا الجانبين، السياسي والديني، يعيدان النظر في مسؤوليات كل واحدة منهما بحيث لا يؤدي التداخل إلى تشابك وصدام أو قطيعة، واتُّخذ لذلك عدة قرارات ساعدت في استقرار الوضع.
وقد برزت - كما يورد الكاتب- في عشرينيات القرن العشرين وما بعده مسألة الحفاظ على الهوية، خوفا من تأثيرات الاستعمار الأجنبي للمنطقة، وقد كان من نتائج هذا التوجه ظهور جماعات تتسم تنظيماتها بطابع ديني، مثل جماعة الإخوان المسلمين التي انتشرت إلى دول شرق آسيا وإيران، ودعت هذه الجماعات إلى العودة للدين لأنه يمثل الهوية، وقد احتشد الناس خلفها ضمن نضالهم للتخلص من الاستعمار، ومع مرور الوقت لم تكتف هذه الجماعات بالدور الثقافي والاجتماعي وحاولت أن تشارك سياسيا، ففشلت في الوصول للحكم في باكستان، وتصادمت في مصر مع السلطة، ونجحت في إقامة دولة إسلامية في إيران. وبين حالات المد والجزر تلك تشكلت جماعات متفرعة مسحلة اتخذ غالبها وضع السرية، مارست القتل والتدمير وترويع العُزل مما أفقد الكثيرين ثقتهم بالتجمعات التي تقدم نفسها على أنها إصلاحية، إسلامية.
ولعلّه من المهم قبل الحديث عن مستقبل العلاقة بين الدين والدولة في العالم العربي أن أعرج هنا على واحدة من أهم التجارب الحديثة التي تضاف لتاريخ هذه العلاقة من أجل دراستها وتقييمها، وهي فوز الإخوان المسلمين في الانتخابات المصرية عقب أحداث الربيع العربي في الانتخابات في مصر، وتعيين محمد مرسي رئيسا لجمهورية مصر العربية. حيث إنّ هذا الأمر له دلالات هامة تكشف عن توجهات الناس وتأثير الدين. فعلى ما يبدو أن العامة من الناس اختاروا التصويت لهذه الجماعة لكونهم يتوقون لدولة عادلة، منصفة، تحقق العيش الكريم للإنسان، كما فعلت الدولة الإسلامية في بداية عهدها، وبالتالي فإنّه يمكن القول إنّ الناس صوتت للدين أكثر من تصويتها (للدولة) وأقصد بالدولة هنا مدى مقدرة المرشح على إدارة شؤون بلاد خارجة من ثورة شعبية، وبتركة ثقيلة من نظام فاسد. وقد عد بعض المحللين فوز جماعة إسلامية فشلا للثورة التي كانت تطالب بدولة مدنية قادرة على احتواء كل الديانات تحت سقف قوانين غير تمييزية، وبداية تراجع يحتمي بغطاء الدين في قراراته ومواقفه، ومؤشرًا على عدم تطور الوعي السياسي لدى المنتخبين. وفي الحقيقة فإنّ الفترة التي قضاها مرسي في الحكم - وهي لا تتجاوز السنة- فترة قصيرة للحكم على نجاح التجربة من عدمها. يرى الكاتب أنّ الأنظمة السياسية في العالم العربي تعاملت مع المؤسسات أو التجمعات الدينية بإحدى هذه الطرق الثلاث، إمّا الجفاء والانتقاص، أو الاستتباع بمعنى أنها سخرت هؤلاء لدعم قراراتهم، وإما الحياد. ولكن مع ظهور الجماعات الإرهابية المتطرفة وجدت الأنظمة السياسية أنفسها مضطرة للتعامل مع المؤسسات الدينية لمواجهة الخطر القادم. وهكذا نرى أنّه من الصعب التنبؤ بمآل العلاقة بين الدين والدولة لأنها تتغير تبعا للمتغيرات، ولأنّ المؤسسة الدينية نفسها تتغير قناعاتها حول ما يجب أن يكون عليه الوضع السياسي، فقد سعت سابقا إلى إعادة الخلافة، ثم إلى تأسيس دول إسلامية خالصة، وأخيرا إلى التعاون مع السلطات السياسية لتحقيق المصلحة المشتركة. لكن من المؤكد أنّ هذا الإرث التاريخي للعلاقة يجعل المؤسستين قادرتين على التوصل إلى صيغة تفاهم سلمية دون الحاجة للجوء إلى أساليب القمع والعنف.
