الحروب الداخلية والتماسك المجتمعي

داود الهطالي

إنّ العالم المعاصر يئِن من الجروح الدامية التي تصيبه، فطالما كان الإنسان - منذ القدم - مصدراً لسفك الدماء بهدف السيطرة والنهب بغير الحق، فنشأت منظمات وهيئات للتقليل من وطأة الحالات العدائية بين الشعوب، حيث ذكر أنطوان نصري مسرّة في مقاله (ميثاق الأمم المتحدة تجاه تحديات أمنية غير تقليدية: السلام والعدالة والرحمة في المجال العالمي) أنّ منظمة الأمم المتحدة هي إحدى المنظمات المهتمة بإرساء السلام والأمن الدوليين، لكن هذا المسعى الذي تطرحه الأمم المتحدة وميثاقها ومجلس الأمن الدولي في موضع تشكيك منذ سنوات، فهل لهذا التشكيك أسباب ظاهرة أم دعايات كاذبة؟

نشأت منظمة الأمم المتحدة على أطلال حربين عالميتين، تكبدت فيها الدول خسائر بشرية ومادية، حيث سميت تلك الفترة بالحرب الباردة التي استخدمت فيها وسائل غير مباشرة بين الطرفين الأمريكي والسوفياتي، فكل طرف من الطرفين يسعى لفرض سيطرته على الآخر ولم يبال بالدول الأخرى بل كل جهده تقدمه للأمام، الحرب الباردة لم تستخدم فيها المواجهة المباشرة بل كان السباق نحو التسلح العسكري المتقدم بامتلاك الأسلحة النووية، بهذه الحالة التي شهدتها الفترة من عام 1945م إلى التسعينيات تنامت فيها الحروب الداخلية أي استغلال التباينات الدينية والمذهبية والعرقية واللغوية، وأهداف هذه الحروب قد تكون لمصالح إقليمية ودولية من خلال ترسيخ مصالح سياسية واقتصادية داخلية في الإقليم.

لبنان من الدول التي عانت من الحروب الداخلية فترة من الزمن، حيث قال مندوب الأمم المتحدة في العراق "لقد قلت لأصدقائي في مجلس الحكم وللعراقيين الذين التقيتهم: إنني كنت منهمكاً بعض الشيء في لبنان، وإذا كان هناك من بلد في هذا الجزء من العالم يمكن لأحد أن يتصوره مسرحاً لحرب أهلية فهو لبنان" وكان هذا الخطاب في 2004م، حيث تشهد المنطقة العربية حالات من الحروب الداخلية والإبادة الجماعية والعمليات الإرهابية العابرة للحدود، لكن في ظل هذه الحالات ميثاق الأمم المتحدة يعجز عن الحد من مسار العنف بسبب ممارسة حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي، وهذا ما يشكك في مصداقية ميثاق الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي حيث قال وزير الخارجية الفرنسي:" من الضروري اعتماد شرعية سلوكية يلتزم بموجبها الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن على عدم ممارسة حق الفيتو في حالات الأزمات الإنسانية الخطيرة، حيث مصالحهم الحياتية المباشرة غير مهددة"، إنّ تعديل الإطار القانوني التنظيمي لمنظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي لا يسد الخلل ولا يدمغ الشك و لا يحقق فاعلية كافية لإرساء الأمن والأمان والسلم والسلام في الدول الصغرى وسيادتها. إنّ حق الفيتو يصور حالة من العنف والطغيان في سُلم الممارسة الديموقراطية؛ بحيث إنّ مجلس الأمن الدولي بدأ الانحراف يخلخل كيانه من الداخل. فمنظمة الأمم المتحدة في الأساس نشأت لوقف العنف والطغاة لكن أصبحت اليوم في قبضة دول كبرى هدفها السيطرة وتوجيه القرارات لمصالحها وأهدافها، كما ذكر الكاتب أنّ هذه الدول هي دول مارقة تخترق القوانين الدولية وتهدد السلام خاصة في مجال الإرهاب وتطوير السلاح النووي، حيث اعتمدت هذه الدول على ثلاثة عناصر لاستمرارية سياستها ومنها تحييد العدو من خلال سياسات خاصة لتجنب المقاومة المشروعة، ثانيا استقطاب الدول المجاورة واستبعادها من خلال التحالفات مع قوة إقليمية داعمة، ثالثا إحداث فوضى إقليمية ثم العمل على إيجاد الحلول لوقفها. من خلال هذه الطرق الثلاث يحاول الطغاة السيطرة على الشعوب وإخضاع ثوراتهم لمصالح موجهة. بها تكون الحروب الداخلية مشتعلة إذ يحاول أطراف الحرب الحصول على النصر أو الرضا بالتقسيم كما حدث في كثير من الدول العربية والعالمية، أو أنّ كل شيء يذهب للرابح. ذكر الكاتب أربعة أنواع من الذاكرة الجماعية تسببت في تكرار الحروب الأهلية أو الداخلية، أولها الذاكرة الاتهامية وترتكز هذه على اتهام الآخرين واستغلال التاريخ لاتهامهم وملاحقتهم ولو بعد عشرات السنين، ثانياً الذاكرة النزاعية وتكون تحت ستار علم التاريخ، إذ يقوم المؤرخون بتذكير كل الذين يسعون إلى النسيان بهوية المشاركين في الحرب الداخلية أو الأهلية، ثالثاً الذاكرة المجمدة وهي التي تُبقي الصدمة النفسية التي أحدثتها الحرب، مما يترتب عليها بقاء الشعب منغلقاً سياسياً عن الماضي وعاجزاً عن استكشاف آفاق جديدة، أخيراً ذاكرة التوبة والتضامن ليست بحاجة إلى فتح الجراح والذكريات الأليمة بل عليها التضامن من أجل حل الخلاف ووقف الحرب ونشر السلام، وهذا ما فعله الرئيس دي كليرك عندما أوقف الوسائل العسكرية وباشر مفاوضات سرية مع نيلسون مانديلا أحد قادة المعارضة السوداء، بحيث خرجوا بحل لوقف حرب التمييز العنصري، وهذا الحل هو إنشاء هيئة الحقيقة والمصالحة إطارًا لعملية مصالحة بين القامع والمقموع، الأمر الذي أدى إلى وجود مساحة واسعة في ذكرة الشعب لوحدة الدولة، هذا واحد من الأمثلة الحيّة التي تسعى لوقف العنف ولوحدة الشعب.

إنّ الدول التي مرت بحروب داخلية لم تنج منها إلا بتكاتف شعوبها، ففي البرازيل توجد نصب كثيرة منتشرة في البلاد إلا أنّها عبارة عن ثلاثة رجال من البرونز يرفعون معا حجراً ضخماً؛ وبما أن كلاً من الثلاثة يتميز بثيابه الخاصة، يقتضي الاقتراب من النصب ملاحظة أنّهم هندي وأسود وأبيض وهذا مفاده أنّ بناء البرازيل يعود إلى تضامن ثلاثة أعراق وهم الهنود أو السكان الأصليون والسود القادمون من أفريقيا والبيض القادمون من البرتغال. هذا نموذج من البرازيل وهناك نماذج أخرى من العالم تدل على أنّ الدول لا تقوم إلا بتكاتف شعوبها، وما تحتاجه الدول العربية توحد لمواجهة الخلاف وتماسك مجتمعي لبناء الأمة والدولة، فلم تقم دولة من الدول ولا أمة من الأمم إلا بشعبها ومواطنيها.

 

أخبار ذات صلة