داود الهطالي
تساؤل يخطر على ذهن المُسلم المُطبِّق لفرائض الإسلام المُعتقد بجدواها الساعي لرقي الحضارة ورفعتها، ومشرك جاحد بها نافٍ لجدواها. من مقال (فروض العين والكفاية: رؤية جديدة حول الفرائض في الإسلام وعلاقتها بالمصالح الحضارية) للكاتب: وهبة الزحيلي نستخلص أهم الأُسس التي بها بنى مقاله وأثر تلك الفرائض على بناء الفرد والمجتمع والحضارة على حدٍ سواء.
جاء الإسلامُ ليُكمل الفرد بالمُجتمع، ليَربِط الشتات ويُوحِّد الجماعات، حيث ربط الإسلام منهجه ربطًا وثيقاً لا مثيل له في الشرائع السماوية والوضعية الأخرى، من هذا الهدف السامق العالي تأتي الغاية الأساسية من مشروعية الفرائض، حيث إنَّ الحقوق الواجبة على المكلف على ضربين: حقوق الله (العبادات بشتى أنواعها) وحقوق الآدميين( حقوق المعاملات والمعاشرات) وهذان الحقان ينقسمان لقسمين: أحدهما حقوق محدودة شرعًا والآخر غير محدودة شرعًا، المحدودة شرعًا اللازمة لذمة المكلف أي أنَّه واجب في ذمته لا مفر منه بمقداره المطلوب به، والحقوق غير المحدودة شرعاً لازمة ومطلوبة غير أنَّها لا تترتب في ذمته؛ فهو منوط بالاختيار والرغبة والدافعية بحسب الهدف.
فرض العين: هو المطلب الذي طلب الشرع القيام به ولا يجزي قيام مُكلف به عن مكلف آخر، كمثل الصلاة والزكاة والصوم، أي يلزم كل مكلف أن يأتي به ولا يسقُط بفعل البعض دون البعض الآخر، وهدفه بناء الفرد بناءً قوياً لكي يكتمل بناء الأمة به، أما فرض الكفاية فهو ما طالب الشرع به دون أن يكون شاملاً لكل المُكلفين أي أنه يقوم به البعض ويسقط عن الآخرين، مثل الصناعة والزراعة والفلك والطب والإفتاء وصلاة الجنازة ومثل ذلك، بهدف تحقيق المصالح العامة دون تعميم الأمر لكل المُكلفين، وهذا الأخير يصبح فرض عين إذا تحتم إتيانه من قبل شخص واحد أي أنَّه الوحيد الذي يستطيع أن يقوم به. حكمة فرض العين والكفاية بالغة عميقة تدلنا على عمق التشريع الإسلامي.
الإسلام دين هدفه بناء الفرد لكي يكتمل بناء الأمة والدولة والمُجتمع والأسرة، فلم يبق ميدان من ميادين حياة الفرد إلا سلط الضوء عليه وأنار له سبل النجاح والفلاح، ففي زمرة العبادات نجد الصلاة والصيام والزكاة والحج عبادات اجتماعية تغرس الرابطة الأخوية لتخلص الفرد والمجتمع من أمراض مُزمنة إذا أتت عليهم تفشى فيهم الفساد، قال تعالى:﴿يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّياُم كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾ فالصيام يُربي الفرد على القيم الإسلامية ويُذكره بتأوُّهات المُحتاجين وتضوَّر الجوعى المساكين في ربوع الكون، والزكاة توجد مبدأ التَّعاون والتكاتف الاجتماعي بين الموسر والمعسر، والحج مؤتمر التلاقي والتآلف والتآخي بين المُسلمين من شتى البقاع حيث قال تعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ﴾ في الدنيا والآخرة، والأمر مثله في بقية العبادات والمعاملات والمعاشرات. كذلك التشريعات الإسلامية مثل الأحكام والقيود مُتعلقة بهدف مشترك وهو بناء الفرد والأمة، ومن أمثلة ذلك وجوب العلم لمحو الجهل والأمية، فتنقسم العلوم لفرض عين وفرض كفاية. العلوم التي ليست بشرعية تنقسم لقسمين علوم محمودة وهي (فرض كفاية) كل علم لا يستغنى عنه لقضاء المُعاملات كالطب والحساب والصناعة والخياطة، والتعمق فيها فضيلة لا فريضة، وأما المذموم تعلمه علم الحسر والطلسمات والتلبيسات. والعلوم الشرعية المحمودة تنقسم لأربعة أقسام، الأوَّل العلم بالأصول كمصادر التشريع الأربعة، والثاني العلم بالفروع أي ما فهم من الأصول، والثالث العلم بالمُقدمات كالعلم باللغة العربية والنحو(علم الآلة)، والرابع العلم بالمُتممات علوم القرآن والسنة كرجال الحديث وأحوال الرواة، والإسلام رغَّب في طلب العلم وتحصيله حيث قال الرسول- صلى الله عليه وسلم- (طلب العلم فريضة على كل مُسلم) وهذه مفاخرة اجتماعية لطلب العلم والمُقصر فيها يوجب لنفسه التعزير.
والمصالح العامة واجبة في دائرة الفقه العام ومجال الحفاظ على السلم، لكون الحرب ضرورة علاجية لرد العدوان وإرجاع السلام والأمان، والحفاظ على المُقدسات والحرمات، لكن لابد من الالتزام بمبادئ الإسلام من رحمة وتقوى وسماحة وعفو، فالحرب لا تجر المُسلمين بالأخذ بمبدأ المعاملة بالمثل والإخلال بمبادئ الإسلام دين السلم والسلام، ونلاحظ من الوصايا العشر المعروفة لأبي بكر تطبيقًا لمبدأ الإسلام.
متطلبات الحضارة متجددة بحسب المكان والزمان، لهذا تتحقق النهضة للأمة والبلاد، فالإسلام يمنح الفرد قوة يستطيع بها إكمال نهضة الأمة إذا سيطر على تلك القوة فمن خلالها يستطيع تحريك الأعمال وتخطيط المشاريع وتنفيذها. وقد ذكر الكاتب مجموعة من الأهداف التي يراها مهمة في تكوين دوافع لبناء الأمة ولرفعتها وعلو شأنها:
- المحاسبة: مغزاها تنمية الشعور بالمسؤولية العامة والخاصة عن العمل، من خلالها يتذكر الفرد أنَّه موقوف ومساءل عن عمله يومًا من الأيام ولا تزول قدمه حتي يسأل عن خمسة أشياء كما جاء في الحديث، هذا الشعور يغرس في نفس الفرد مراقبة دائمة لأعماله، ومُعاقبة لنفسه عند تقصيرها، فعقاب الدنيا أهون من عقاب الآخرة، لأجل هذا ينبغي أن تكون للفرد ساعة يُحاسب النفس فيها عن المسؤولية التي كلف بها.
- تقديم المصالح: وجوب تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة لأنَّ في المصلحة العامة فائدة أكبر للمُجتمع، والقاعدة الفقهية تعزز هذا المبدأ( يتحمل الضرر الخاص لدفع ضرر عام).
- الترغيب: الإسلام لم يلزم أفراده في الواجبات العامة بأمر صارم؛ بل إنه رغبهم وحضهم عليه، لكي يكون فعل الخير نابعًا من نفس الفرد لا فرضاً عليه.
- الإحسان إلى الآخرين مرتبة عالية رفيعة، يدل على علوها قوله تعالى: ﴿هَلْ جَزاءُ الإِحْسان إِلا الإِحْسان﴾، مرتبة زائدة عن الحق والعدل دالة على الإخلاص الصادق.
- الاستقامة هي السير في طريق الله التي رسمها لعباده دون أدنى انحراف ﴿فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ﴾ فمن أعظم الكرامة لزوم الاستقامة.
الخلاصة: إنَّ الإسلام الحنيف بفرائضه العينية والكفائية وأحكامه من (عبادات معاملات ومعاشرات وأخلاقيات) أسس لبناء أمة شامخة المجد عالية الرفعة والكرامة تصون أفرادها وتحفظ مجتمعها وتنمي نفسها وتستهلك من إنتاجها وصُنعها، فالنزعة الجماعية هي غاية الإسلام في تشريعاته وهي مُقدمة على النزعة الفردية التي تبني الفرد فيكون فردًا صالحًا ليُحقق الغاية الكبرى وهي بناء الأمة.
