الهرمنوطيقا.. منهاج نحو التفاهم والتواصل

داود الهطالي

تَخْتَلف الأساليبُ المستخدَمة في فَهْم النص وتأويله من أسلوب لآخر؛ إذ ظهرت الهرمنوطيقا التي تختلف في الأسلوب، وكذلك الأسس التي يخضع لها النص عن الأساليب التقليدية القديمة، وأسلوبها يهتمُّ بثقافة القارئ وشخصيته والظروف التاريخية التي تتمُّ فيها القراءة؛ ففهم النص وتأويله في المقال الكلامي والقول العقدي في الإسلام يتأثر بكونه إمَّا مقالاً حواريًّا، أو دفاعيًّا، أو تناظريًّا يردُّ على القول المخالف له؛ فجوهر القضية الهرمنوطيقة هو محاولة جمع بين المقالات الإسلامية المخالفة من الملل المختلفة مع مقالات المِلَّة الواحدة وإخراجها بلغة واحدة موحدة، وهي لغة الخطاب الديني. ومن هذا المنطلق، كَتَب الباحث عزيز أبو شرع مقاله المعنون "الهرمنوطيقا وعلم الكلام الجديد: محاولة في تجديد الخطاب الكلامي الإسلامي".

بدأ الباحث أوْلَى فقرات مقاله -المنشور بمجلة "التسامح"- بالإشارة لما أسماه سيد الاستشراق الكلامي وهو فان إيس؛ حيث ذكر أنَّ الجانب التاريخي مهم لفهم النص وتأويله، بعيدا عن الوحي المنزَّه عن الزمن، أو بقولنا إن القرآن غير مخلوق، لكن هذا لا يزيل الإشكال عن فَهْم النص؛ فنحن نظل في الزمن، وهذا يدل على ارتباط الإيمان بالتاريخ، وتوسُّط الفهم في استيعاب حقائق الوحي، وهذه توجد إشكالية أخرى في فهم النص، لكنَّ علم الكلام اضطلع على هذه الإشكالية بجعل النص المطلق يدخل في التاريخ فيصير الفهم متلائما مع الوضع الراهن.

علم الكلام يطغى عليه جانبان: الذاتي والتاريخي، هذا يجعله ينخرط تحت مسمى إجماع جوهري أو عصري أو مذهبي ويكون في شكل مدارس، لكنَّ الإسلام لم يعرف شكلا من أشكال التقنين المذهبي الرسمي؛ إذ إنَّ المذاهب الإسلامية هي مجموعة من الآراء والأقوال التي رجحها علماء وضعفها آخرون، فظهر من يتبعهم من العامية فظهرت المذاهب، وهناك إجماع مذهبي بين مذاهب الإسلام ويظهر في صورة عقيدة، فعلم الكلام له حيوية في فهم النص في التأويل والتجديد، وإن سلك علم الكلام سبيلَ التقليد سيعزله عن السياق المعرفي والتاريخي الذي طبعه التجديد والتحديث باستمرار.

إنذَ تجدُّد المعارف والمعطيات له أثر بالغ في علم الكلام على مر العصور؛ فهو في تجدد وإعادة للنظر، بَيْد أنَّ هذا التجدد والتطور جمد وتحول إلى قول تقليدي بعد فترة من مرحلة التجديد، والمثال على هذا ما اتجه له القول عقدي وتحوله من اعتزالية إلى ماتريدية إلى أشعرية نوعا من أنواع إعادة القراءة وإعادة الإنتاج؛ فكلُّ فرقة من هذه الفرق طوَّرت علم الكلام؛ ففي المعتزلة مقالة خلق القرآن، وكذلك خلق العبارات لدى الأشاعرة.

ومن هذا التطوُّر، نمهِّد للقول بمشروعية الكلام الجديد وتطور علم التأويل، كما ذكر الكاتب أنَّ مرحلة ابن تيمية تعدُّ من المراحل المهمة في مراحل تجديد الكلام، فهذا الرجل لم يعادِ الفلسفة والكلام لذاتهما، بل لطبيعة المقال الذي أخرجته المدرستان، فهذه المرحلة مرحلة لا يمكن التجاوز عنها لأنها تعتبر مرحلة التجديد المتأخر لدى اللاحقين لابن تيمية. إنَّ إثبات عملية تجديد وتحديث علم الكلام تاريخيُّا وشرعيًّا لا يعدُّ محرجا ألبتة؛ لأنَّ علم التأويل -علم الكلام- هو عملية الاجتهاد في أصول الدين والعقائد لا من حيث هي، وإنما من حيث طريقة عرضها والاستدلال بها؛ إذ إنَّ معنى الاجتهاد والتجديد في هذا السياق هو الاستفادة من منجزات العقل الإنساني في العلم والفلسفة لإقامة البراهين العقلية الجديدة على صِدق هذه الأصول، مع عدم مجاوزة الثابت منها الذي لا يقبل التجاوز والميل عنه؛ فالتطوُّر والتجديد في المذاهب الإسلامية موجود، غير أنَّ هذا التجديد في الجانب الفقهي العملي أكثر من الجانب العقائدي.

إنَّ تاريخ مصطلح علم الكلام الجديد بدأ به المفكر الهندي شلبي النعماني الذي ذكره عنوانا لكتابه؛ حيث توالت الكتابات باللغة الفارسية والأردية بهذا الصدد، وكان أول ظهور لهذا المصطلح في العالم العربي لدى الباحث فهمي جدعان، فتختلف تعاريف علم الكلام الجديد من باحث لآخر باختلاف الحيثيات التي يراها الباحث، فتعريف علم الكلام الجديد لا مفر منه لأنه ضرورة لمواجهة الصدمات التي أوجدتها الحداثة في الفكر الإسلامي وما يعانيه اليوم في جميع مجالاته. ولنقف على مفهوم واضح لعلم الكلام، سنذكر أولا دواعي التجديد وأسباب عجز علم الكلام القديم في مسايرة العصر، وأول هذه الأسباب هو هيمنة المنطق الأرسطي؛ فكثيرٌ من الباحثين المتأخرين من الأشاعرة اعتبروا المنطق الأرسطي كمنطق فعلي للكلام وكبديهيات لا محيد عنها، لكن هذا المنطق لا يواكب العصر ولا جدوى من جعله مسلَّمات للمسلم المتجدد المتغير. ثانيا: هذه العلم أظهر البُعد الشاسع بينه وبين الواقع، فاتجه نحو العوالم الخيالية البعيدة عن الواقع ومشكلاته بسبب الحركات السياسية والاجتماعية التي نشأ معها. ثالثا، في هذه المسألة ناقش الباحث قضية الإيمان والعمل والجزاء الأخروي، وأثر الجزاء الأخروي على الحياة الاجتماعية، ومثال ذلك: حكم مُرتكب الكبيرة؛ فبعض المذاهب الإسلامية قالت إنَّ مُرتكب الكبيرة إن كان مُسلما ففي رحمة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، لكن في المقابل هناك مذاهب أخرى رأت أنه في حكم المسلم في الحياة الدنيا لكنه في الآخرة يلحقه العذاب وأنه متوعَّد بالنار، هذه القضية أحدثت إشكالا في العمل والسلوك؛ حيث إنَّ القول الأول يعطي المفسدين مزيداً من المشروعية في الإفساد لضمان النجاة في الآخرة على بعض الأقوال، وهذا الأمر يَفك التلاحم ويزيد الفجوة بين العقيدة والجانب السياسي والاجتماعي. أما رابعاً، فقد تراجع دور العقل والميل إلى التقليد دون البحث والتجديد؛ فالمعتزلة كان لديهم النظر العقلي في الشريعة؛ حتى أخذ عليهم الناس إسرافهم في استعمال العقل، على خلاف الأشعرية التي ساد فكرهم العالم الإسلامي الذي انتصر على المذهب الاعتزالي في شكله التقليدي؛ فالأشاعرة أصبحت لديهم المسألة درسا وتدريسا وحفظا وتقليدا دون البحث والنظر.

وبناءً على ما ذُكِر آنفا، فإنَّ التجديدُ في علم الكلام يحتاج إصلاحات قد تكون عميقة وصعبة لمواجهة التجديد على مستوى المسائل والمناهج والمبادئ؛ فالمطلوب من علم الكلام هو ترك الجانب الدفاعي الذي هدفه فقط إفحام الخصم، إذ الأساس من الكلام الديني هو البناء المعرفي للإيمان؛ فبدلا من محاولة الدفاع عن تعاليم الدين ومهاجمة تعاليم الآخرين، عليه تفهيم تعاليمه للطرف الآخر عن طريق التبيين والاستدلال. إذن، على علم الكلام أن يتبنى سلوك منهاج التفاهم والحوار لا منهاج التصادم والدفاع، وأنْ يكون إنتاج المقال الكلامي الجديد نوعاً من التخاطب مع الآخرين.

أخبار ذات صلة