كارل زيمر
طلال اليزيدي
هذا الكتاب يقدم واجهة عميقة لما يتم توارثه بين الأجيال، وقد تمكن سابقاً تشارلز داروين من لعب دور هام في نقل الوراثة إلى سؤال علمي، لكنه فشل في الإجابة عن التساؤل الذي طرحه في الأصل. علوم الجينات والوراثة ولدت في بدايات 1900 التي بدورها أجابت عن هذه التساؤلات التي وضعها داروين لمدة عقودٍ طويلة من الزمن، وقام الناس تدريجيا بترجمة أفكارهم القديمة عن التوارث إلى لغة الجينات، فتكنولوجيا دراسة الجينات أصبحت رخيصة إلى حد ما؛ ملايين من الناس طلبوا فحوصات جينية تمكنهم من التوصل إلى أفراد عائلاتهم المفقودة أو إلى سلف بعيد وجد في فترة تاريخية قديمة أو إلى عرق معين من البشر. لكن زيمر في كتابه "هي تملك ضحكة أمها" يجادل أنّ التوارث ليس فقط عما وُرِّث من الوالدين إلى الأبناء، بل إنّ التوارث يستمر أيضا في أجسامنا، حيث إنّ الأجسام تكونت في الأصل من خلية واحدة انقسمت إلى ملايين الخلايا التي كونت الشكل النهائي لأجسامنا. دائما نقول إننا نرث جينات معينة من والدينا، لكننا أيضا نرث أشياء أخرى مهمة جدا في حياتنا، هذه الأشياء تتنوع من الميكروبات إلى التكنولوجيا المستغلة لتبسيط وتيسير حياتنا. نحتاج إلى مفاهيم جديده لتحديد ماهية الوراثة بالفعل، ومن خلال كتاب كارل زيمر الجديد والمروي بطريقة فذة يعيد لنا مفهومنا حول الوراثة.
يعد كارل زيمر أحد أشهر المدوّنين والصحفيين في مجال العلوم، وتتمحور موضوعاته حول التطور والطفيليات. وقد ألف العديد من الكتب ويساهم في مقالات علمية في منشورات مثل نيويورك تايمز، وناشيونال جيوغرافيك وديسكفر، وهو زميل في كلية مورس في جامعة ييل. في هذا الكتاب زيمر حل المآزق الأخلاقية في مجال البحوث البيولوجية المنبثقة من التكنلوجيا الحديثة في مجال الطب الحيوي، وكذلك فك عقدة الافتراض طويل الأمد حول عمن نكون و ما يمكن أن نمرره إلى الأجيال المستقبلية. صنف الكتاب كأكثر الكتب مبيعاً في موقع آمازون لشهر يونيو لعام ٢٠١٨.
وبعد أن تمكنا من معرفة القواعد النيتروجينية والخارطة الجينية للجينوم البشري، الآن أيضا نريد أن نعرف من أين أتينا، لكن الوراثة ليست مجرد نقل الصفات الجينية من الوالدين إلى الأبناء، بل يرى زيمر في كتابه أنّ الأمهات تستقبل خلايا معينة من أولادها، وأنّ العرقيات ليست جزءا من العالم الطبيعي خارجة عن نطاق تجاربنا الاجتماعية، وكذلك أيضا بتقدم التكنولوجيا الجينية فمن الإمكان الآن تقطيع الجينوم واستبدال القطع التي لا نحب، وأيضا معظم المواقع على الجينوم البشري ليس لها تعبير ظاهري مباشر، ففي هذا الكتاب البحثي كارل زيمر بعناء يأخذ نظرة مطولة حول ماهية الوراثة.
في لقاء لكارل زيمر لصحيفة النيويورك تايمز سرد القصة الآتية، للديا فيرشايلد كانت في عمر يناهز 27 عاما عندما أصبحت حاملة بابنها الرابع في عام 2003. من أجل أن تكون مقبولة في نظام الضمان الاجتماعي بالولايات المتحدة القانون يتطلب منها أن تثبت بدليل شرعي أن هؤلاء الأولاد فعليا يرتبطون بها اجتماعيا كأم وكذلك يرتبطون بأبيهم جيمي، لذلك لديا خضعت لاختبار الـ DNA. على الرغم من أن نتائج الاختبار توحي بأن جيمي كان الأب للأولاد الثلاثة إلا أنّه لم يكن هنالك أي دليل يشير بأن لديا كانت والدتهم، كان ذلك بمثابة الصدمة للديا، حيث كانت تذكر بطريقة واضحة ومميزة لولادتها لأبنائها الثلاثة!، حيث النتائج والدلائل عن طريق اختبار الـ DNA تشير بأنّها ليست أمهم الفعلية. على الرغم من شهادة مسؤولين في المحكمة على ولادة السيدة لديا لابنها الرابع، وتعد هذه من الحالات النادرة؛ حيث في نهاية المطاف، فإنّ عينات الـDNA التي أخذت من دمها، وعضلاتها، وجلدها لم تكن مشابهة للبصمة الوراثية لأبنائها، ولكن بغرابة، فإنّ عينات أخذت من أعضاء كعنق الرحم كانت مشابهة لنفس البصمة الوراثية للأبناء، فكانت أمهم في أحيان وعمتهم في أحيان أخرى بناء على مصدر العضو الذي أخذت منه عينه الـDNA. .
يقول كارل زيمر في كتابه الطويل المعمق في دراسة تعقيدات الوراثة في البشر "إننا نستشف من كلمات كأخت وعمة على أنّها قوانين صلبة وواضحة في الأحياء، لكن هذه القوانين ليست إلا مجرد تخمين، فتحت الظروف المناسبة لهذه القوانين البيولوجية لتتحطم".
لتوضيح ذلك أكثر ذكر كارل زيمر حالات أخرى لـ chimera عند البشر، وكذلك أمثله لأطفال يمتلكون أعضاء تحتوي على مستعمرة من الخلايا تنتمي لأشخاص آخرين، في العادة لآبائهم وأمهاتهم. علاوة على ذلك، أشار زيمر بأننا لا نرث فقط الجينات من والدينا لكننا كذلك نرث الميكروبات المستعمرة في جوف جهازهم الهضمي، الميكروبات المساعدة لهضم الطعام، وقد أكّد على هذه الميكروبات بوصفه "إننا نأوي حديقة خاصة في أجوافنا". من هذا المنظور بالإمكان أن نرى أنّ الوراثة لا تتبلور فقط في الجينات، لكنّها تتعدى إلى بعض العناصر البيولوجية الأخرى، والثقافية، وكذلك تحدد مستقبلنا، لكننا في الواقع نبسط هذه القوى التي تشكل ماهية الوراثة.
كما تطرق الكتاب حول نظرية ثيدور بورتر حول تعقيدات الوراثة. إعجاب بورتر بالوراثة مرتبط بدراسته المثيرة للدهشة والقلق في آن واحد لدور الأمراض العقلية في تعريف التوارث عند البشر، وقد أوضح أنّ الكثير من خبراء الجينات يؤمنون بأنّ مرض الحماقة الذي صادف اللجوء في القرن الـ19 و الـ20، كان يتوارث بطريقة مباشرة، ولا يمكن القضاء عليه إلا عن طريق تعقيم الأشخاص الحاملين للجين. في دراسات بورتر يشير إلى أنّ الوراثة لم تظهر فقط كعلم مستنبط من إحصاءات أو من اهتمامات تخص الزراعة كتلك التي استمد منها تشارلز داروين نظرياته في الوراثة. لكن دراسات بورتر تحاول تفسير الأمراض العقلية واستخدام ذلك الفهم كأداة تساعدنا على فهم مجتمعنا، وتؤكد البساطة فوق الحقيقة، لكنها تهدد تلك الدراسات الوراثية الأخرى، التي تهتم عادة بالبيولوجيا على حساب الثقافة، والإحصاءات على حساب السياق. بورتر يقول "الجينات والـDNA كانت دائما جزءا من القصة في تفسير الوراثة، ونادرا ما تكون مستقلة عن بعض العوامل الأخرى".
موروث العلماء السابقين في الوراثة وعلوم الجينات كان محطة قلق أيضا لزيمر، فهؤلاء العلماء ادعوا أنّ الذكاء هديه بيولوجية تنتقل بالوراثة من الآباء إلى الأبناء، هؤلاء العلماء نفسهم كانوا خائفين على مستقبل أمريكا وبريطانيا لأنّهم ادعوا أنّ هذه الأنحاء كانت تدار من قبل مهاجرين وصفوهم بأنهم ليسوا من الطبقة العالية في الذكاء، هؤلاء العلماء كان يشيرون إلى نتائج الـIQ لهؤلاء المهاجرين متجاهلين حقيقة أنّهم كلما أطالوا المكوث داخل هذه الأنحاء التي احتضنتهم كمهاجرين زادت علاماتهم في اختبارات الذكاء. زيمر في كتابه كان مقنعا بطريق حاذقة في فضح هؤلاء العلماء بادعاءاتهم ضد المهاجرين، فمن وجهه نظر زيمر نعم الذكاء بالفعل به نسبة معينة من الوراثة، لكن توارث الذكاء لا يكون بطريقة مباشرة. زيمر يقول "إذا حصلت على درجة متوسطة في اختبار الذكاء، فمن الممكن أن يكبر الأبناء ليصبحوا عباقرة"، وكذلك أشار إلى "أنّه إذا كنت عبقريا، ستكون ذكيا بما فيه الحد لمعرفة أنّ أولادك قد ينشأون مستقبلا بمعدل ذكاء أقل منك".
خذ الطول على سبيل المثال، فالطول أيضا وراثي، لكن فكرة أن الطول يتحكم به جين واحد أو جينان فكرة أشير إليها بأنّها خاطئة حد الضحك، فزيمر يشير في كتابه إلى أنّ الدراسة الحديثة في الوراثة والجينات تشير إلى أنّه على الأقل هناك 800 جين تحدد طولنا كبشر، كل جين منها يؤثر بدرجة طفيفة على أجسادنا، وبمعنى آخر لا يوجد هنالك جين واحد أو مجموعة من الجينات تحدد طولنا.
النقطة المهمة هنا أن كلا من الطول والذكاء بلا أي شك يُتوارثان لكن ليس بالطريقة السهلة والمباشرة، البشر في الوقت الحالي أطول وأذكى مما كانوا عليه قبل قرنٍ من الزمن. فعلى نطاق العالم، الأطفال بالمتوسط يكونون أفضل في اختبارات الذكاء عما كان عليه آباؤهم. هذه الظاهرة تعرف بظاهره فلين سميت على غرار مكتشفها جيمس فلين، وكذلك متوسط طول الأطفال أصبح أطول عما كان عليه آباؤهم، فجينات الآباء والأبناء متشابهة وهذا الاختلاف ليس بسبب اختلاف جيني، لكن السبب الرئيسي في الحقيقة هو الأفضلية في نظام الغذاء، والمسكن، والتعليم وبعض العوامل البيئية والاجتماعية.
يخلق كارل زيمر تاريخًا قابلاً للقراءة للغاية للاستخدامات الجيدة والسيئة للوراثة. إنه يقدم نثرًا مقنعًا منسوجًا من رحلة العلماء الجينيين الذين أتوا بنا إلى حافة الهندسة الوراثية. الأمر مختلف تمامًا عما قد تتوقعه. لقد أعطانا داروين نظرية أنيقة للتطور دون فهم الجينات الوراثية، وتبين أن تكهنات داروين حول شمولية التخلق، كانت خاطئة بشكل مذهل. من المثير للقلق معرفة أنّ النظريات الوراثية كانت تستخدم لعدة قرون من قبل العلماء والعلوم الاجتماعية والباحثين والسياسيين لتبرير العنصرية الرقيقة وعلم تحسين النسل المخيف. ونحن على وشك أن نكون على حافة ثورة في الهندسة الوراثية. إنّ زيمر يعطينا تحذيرا صارما إلى من يسيء استخدام هذه القوة الجديدة.
مثلما قال زيمر "الوراثة ليست حتمية كونية، لكنها عملية بيولوجية ظهرت من مكونات بيولوجية تم تعديلها إلى مظاهر جديده". لذلك رسالة زيمر واضحة في كتابه، بأنه يجب علينا أن نستمتع بعجائب الطبيعة التي خلقت لنا هذه العملية.
هذا الكتاب واسع النطاق ومفتوح للعين عن الطريقة التي تشكل بها الوراثة جنسنا؛ فهو يقدم جولة رائعة من الأسئلة الكبيرة والأفكار الغريبة والإنجازات المبهرة للباحثين الذين يبحثون عن تفسير الميراث والتلاعب به وتغييره.
-----------------------------------------------------------
تفاصيل الكتاب:
اسم الكتاب: لديها ضحكة أمها: القُوى، والانحرافات، وإمكانية الوراثة
المؤلف: كارل زيمر
الناشر: Dutton
اللغة: الإنجليزية
تاريخ الإصدار: 2018
عدد الصفحات: 672
