«السلوك: بيولوجيا البشر في أفضل وأسوأ حالاتها».. لروبرت سابولسكي

81e6kZSR8uL.jpg

علي الرواحي

مُنذ فترة طويلة والسلوك البشري يشكل لغزاً اختلفت الآراء حول مصدره، ودوافعه، وربما هذا التعدُّد في البحوث والمسارات البشرية المتداخلة بين مختلف العلوم بما فيها علم النفس، وعلم الأعصاب، وعلم الاقتصاد... وغيرها، تمنح هذا اللغز أهمية مختلفة وخاصة. يناقش هذا العمل لعالم الأعصاب الأمريكي الشهير روبرت سابولسكي مصدر السلوك البشري، وهو يتجه بشكلٍ مباشر للبحث في أسباب العنف كما يصرح المؤلف في المقدمة؛ وذلك لإثبات رؤيته ونظريته التي تقوم على أن أسباب السلوك بشكلٍ عام، والسلوك العنيف بشكلٍ محدد مصدره الأعصاب أو الجانب البيولوجي في الإنسان، وليس شيئاً آخر.

يستكشف هذا العمل الدافع البيولوجي للعنف، السلوك التنافسي والعدائي، كما يركز على الفعل الفردي، الجماعي، والدولتي أيضاً، ومتى يكون جيدا، أو سيئًا. إضافة لذلك، فهو يبحث في تلك الطرق التي يؤذي فيها الشخص الآخر، أو عندما يفعل العكس. كما يركز أيضاً على الدروس التي تعلمنا إياها البيولوجيا حول التعاون، والانتماء، والمراجعة، والتقمص، والإيثار (ص:3).

وينطلق العمل -كما يصرح المؤلف- من شراكة بين علم الأعصاب، وعلم القردة العليا أو البريماتولوجيا، بأن جميع الأفعال التي تصدر عن الإنسان لها الكثير من الأسباب وخلفها العديد من الطبقات، حيث أنها تعود إلى الثواني، والدقائق، والساعات، والأيام، والأشهر، والسنوات، وحتى إلى القرون التي سبقت هذا السلوك أو ذاك، والتي تعود بدورها إلى الأصول وانبثاق الأزمنة السحيقة السابقة. فمنذ الاجتياح الملحمي في الأزمنة العتيقة يتساءل المؤلف عن كيفية تفاعل أو تأثر أجسادنا الحيوية مع الحرب والسلام، والعدالة والظلم، والاضطهاد من الجهة الأخرى. وكيف تفاعل الدماغ مع المتغيرات الثقافية على مر السنين. من أجل ذلك يعود في الفصول الأول من هذا العمل إلى الثانية الأولى قبل حدوث الفعل والتي تضعنا أمام تصميم وعمل الدماغ بشكل تفصيلي ومباشر؛ وذلك من خلال الطبقات المختلفة التي يتكون منها، والأعصاب التي تؤثر في السلوكيات البشرية.

وفي الثانية الأولى قبل حدوث الفعل، يتطرق سابولسكي إلى لوزة الدماغ وقشرته، وتحديداً تلك المنطقة أو الفص الحوفي أو الطرفي المسؤول عن الوظائف الانفعالية في الجسم كالتفاعل، والتحفيز، والتعليم، والذاكرة وغيرها من الوظائف المختلفة؛ حيث تعتبر هذه المنطقة نقطة التقاء بين القشرة الدماغية وذلك من خلال ملايين التوصيلات العصبية. ويركز المؤلف على أهمية القشرة الدماغية الأمامية، أو كما يطلق عليها "الحُصين" فهي تقوم بمهام متعددة منها، وربما أهمها: عمل الذاكرة، وتنظيم المعرفة، والتخطيط، وسن القوانين وغيرها من الوظائف في هذا السياق المشابه؛ حيث يضع تعريفاً مهمًّا لهذه المنطقة الحيوية من الدماغ، فهي تجعلنا نقوم بالأفعال الصعبة والحرجة في الوقت المناسب (ص:45). ولأجل ذلك يوضح سابولسكي علاقتها مع الكثير من المناطق الفرعية المختلفة في الدماغ، كما يوضح أيضاً علاقة المناطق الفرعية في الدماغ مع القشرة الأمامية، وعلاقتها المباشرة مع الوعي؛ إذ إنه عن طريق هذه المنطقة يتم تنظيم المهام اليومية؛ فعن طريقها ينتبه المرء لتفاصيل الحياة اليومية المباشرة، كما أنها تُسهم بشكلٍ أساسي في الانتباه لكل الأشياء المحيطة بالإنسان من الجمع، ولفت الانتباه... وغيرها من المهام اليومية. وإضافة لذلك، فإنَّ هذه القشرة الأمامية تُسهم في تنظيم السلوك الاجتماعي كما هي الحال في السلوك الفردي للشخص؛ فعن طريق مراقبة سلوك الآخرين من البشر أو الحيوانات يكتسب المراقب بعض المهارات أو التصرفات التي من شأنها أن تدخل في عملية مقارنة لتفادي الأخطاء، وهذا يحدث في الجبهة الأمامية التي تعتبر من أهم مناطق الدماغ.

بشكلٍ عام، نجد أن النظام العصبي يدور حول التصرفات البشرية الاجتماعية أو غير ذلك؛ فهي تنتظم عن طريق ثلاث ثيمات أو محاور: محور الخوف، والعداء أو العدوانية، ومركز الإثارة في القشرة الدماغية بما يشمل محور المكافآت، أو المشاركات، والتحفيز عن طريق الدوبامين الذي هو عبارة عن مادة كيميائية تؤثر على الأحاسيس والسلوكيات بما فيها التحفيز، والسعادة، والمتعة، والإدمان أيضاً... وغيرها من الوظائف المترابطة.

وفي الفصل المعنون "ما قبل الدقيقة الثانية" (ص:81)، يبدأ سابولسكي بمقولة مهمة؛ وهي "لا شيء يأتي من لا شيء أو من العدم؛ لأنه لا يوجد دماغ بمثابة جزيرة معزولة". فهذا الفصل ينشغل بالإجابة عن طريق أربعة أسئلة مترابطة: ما هي المحفزات أو المنبهات الخارجية أو الحساسات أو القنوات التي تجعل الدماغ ينتبه لعدد معين من الأفعال والتصرفات؟ وهل كنت على علم بالمحفزات البيئية المحيطة بك؟ وما هو المنبه أو المحفز الذي يجعل الدماغ حساساً بشكلٍ خاص؟ وأخيرا ً، ما الذي تقوله لنا هذه الإجابات حول تصرفاتنا السيئة أو الجيدة؟

من الضروري في هذا السياق معرفة أن الكثير من المعلومات التي تصل إلى الدماغ تتحول بسرعة إلى أفعال؛ حيث من الممكن أن نجد ذلك في أنواع مختلفة من الأنواع الحية، غير أن الإشكالية أن البشر يجهلون كثيراً بهذا الخصوص وذلك بسبب أن الحيوانات من الممكن أن تشعر بأشياء لا يشعر بها البشر، أو بأشكال شعورية لا يعرف البشر بوجودها. وهو ما يجعل الاستفادة من سلوك الحيوانات مهماً للغاية في هذا السياق.

وكخلفية تاريخية لهذا النوع من التوجه العلمي، يقوم سابولسكي بتقديم نبذة تاريخية قصيرة عن علم الأخلاق في أوروبا؛ حيث إنَّه جاء كردة فعل على النموذج الأمريكي لعلم النفس؛ وذلك في بداية القرن العشرين. فالسلوكية نجد أنها صعدت مع جون واتسون (1878م-1958م)؛ وذلك بعد أبحاث وإنجازات الأمريكي ب.ف. سكينر (1904م-1990م). يهتم هذا النوع من النظريات بتوحيد مصادر أنماط السلوك لدى جميع الكائنات، لأن الكثير من الأنواع الحية تميل إلى تكرار الكثير من أفعال الآخرين وسلوكياتهم، أو عن طريق شرط إجرائي - وذلك حسب مصطلحات سكينر- يقوم من خلاله تعديل السلوك من خلال دعمه في حالات معينة أو اضعافه في حالاتٍ أخرى. وفي كل الحالات فإن السلوك يأتي كتنبيه أو استجابة لبعض السلوكيات والمحفزات في تلك البيئة. فبحسب هذه النظرية، من الممكن القول بأن كل سلوكيات الكائنات الحية تتوافق مع هذه القاعدة، لأن كل أنواع التجارب قد أجريت على الفئران أو الحمام. فعلماء السلوك كانوا لفترة طويلة محقين فيما يخص السلوك، غير أنهم – يقول سابولسكي – كانوا مخطئين في نقطة مهمة جداً، وهي أنهم لا يتبعون القواعد السلوكية. ففيما يخص الكائنات الحية كالقرد مثلا ً، نجد أن القرد أو الفأر الرضيع يلتصق بالأم المعنفة أو المسيئة في حقه، في حين أن ذلك لا يتوافق مع السلوك البشري.

وفي مقابل ذلك، فإن علم الأخلاق قد ظهر في أوروبا كمقابل للسلوكية ونقيضاً لهاجس التوحيد والعالمية المسيطر على سلوكيات الكائنات الحية؛ فنظرية علم الأخلاق تؤكد على وجود سلوك محدد لكل كائن يتوافق مع موقف محدد، أو ردة فعل أخلاقية محددة. فالسؤال هنا: ما هو هدف هذا السلوك؟ وما الذي أثاره؟ وهل تم اكتساب هذا السلوك؟ وكيف تطور؟ وما هي قيمة تأقلم هذا السلوك مع البيئة المحيطة؟ حيث نجد أيضاً أن الكثير من الباحثين قد استعانوا بنظرية "أثر الفراشة" لفهم هذه السلوكيات المختلفة.

ولأجل اختبار تلك النظريات يعمد سابولسكي للحديث عن المحفزات المثيرة للسلوك لدى بعض الأنواع الحية؛ ففي البداية هناك قنوات سمعية، كما أنها تصدر أصواتا لإثارة الخوف، ولإعلان أشياء كثيرة، ولإغواء بقية الأنواع. كذلك فإن الطيور تغني، والأيائل تهدر، والقرود تعوي، وإنسان الغاب يصدر أصواتاً تواصلية ذات دلالة مسموعة على بعد أميال.

كل ذلك وغيره من السلوكيات يُوحي لنا بأن هناك وبعيداً عن المراقبة أو "الرادار" وعيا وتلقينا لاشعوريا لدى الأنواع الحية؛ فمن السهولة رؤية مشهد السكين، أو سماع صوت ينادي اسما معينا، أو يد تلمس الجسد وترسل تنبيها للدماغ، غير أن هناك أطنانا من المحفزات اللاشعورية تشعرنا قبل وقوع بعض الأحداث أو السلوكيات. وإضافة لذلك، فإنَّ تأثير المعلومات المستقاة من المحفزات البصرية على الدماغ، ما يمكن تسميته بالتعرف على الوجوه حيث أنه يصل إلى سرعة 150 ملي في الثانية.

وينقلنا سابولسكي إلى نقطة مهمة، وهي التأثير اللاواعي للكلمات. فالكلمات تمتلك القوة. فهي من الممكن أن تنقذ، وتشفي، وترفع، وتدمر، وتقتل أيضا. ويورد المؤلف مثاله المفضل والذي كثيراً ما يذكره في محاضراته، وهو حول معضلة السجناء وهي نظرية معروفة تدور حول مدى التعاون بين السجناء في مدة التحقيق؛ حيث يسعى المحقق إلى إثبات وجهة نظر معينة دون امتلاكه أدلة كافية على ذلك، وذلك عن طريق التحقيق المنفصل للمتهمين. في هذا السياق، نجد أن الكلمات تُحدث في الأشخاص الكثير من التأثير اللاواعي، أو عن طريق هذه المعضلة لا يمكن لكل طرف معرفة أقوال أو وصف الطرف الآخر؛ فهي من الممكن أن تنقذهم أو تذهب بهم للمقصلة.

لا يكتفي سابولسكي بهذا النوع من التحليلات فالعمل يتسم بالتعقيد والتعدد؛ لذلك نجد أنه يخرج من محيط الفرد وسلوكه، ليصل بنا إلى اللحظات المؤثرة في الشخص، كما هي الحال في الفصل السابع والذي عنونه بالعودة إلى السرير والعودة إلى الرحم؛ حيث يأخذنا في جولة سياحية علمية في تطور الدماغ بناءً على الفترة العمرية للشخص من الولادة لمدة عامين، ومن عامين إلى سبعة أعوام، وهكذا في كل المراحل الزمنية اللاحقة للفرد... هذا التطور للدماغ متوازٍ مع الوعي وهناك العديد من النظريات المختلفة في هذا الشأن، كما يترافق هذا التطور مع الآثار التي تلحق القيم جراء ذلك.

وفي الفصل العاشر، يأخذنا المؤلف إلى رحلة طويلة يتحدث من خلالها عن التطور التاريخي للسلوك البشري؛ حيث نجد في المرحلة الأولى أن الكثير من الصفات البيولوجية يتم توارثها من قبل الجينات، كما نجد في المرحلة الثانية بأن الطفرة وإعادة تكوين الجينات تنتج اختلافاً في هذه السمات، وثالثاً بعض هذه المتغيرات تصبح أكثر جاهزية. تتأثر هذه المراحل الثلاث بالعديد من العوامل المترابطة وهي تهدف للبقاء، عن طريق إعادة الإنتاج، ونقل النسخ الجينية إلى الجينات اللاحقة. ذلك أن هناك فرقا كبيرا بين البقاء وإعادة الإنتاج وهذا يتضح في وجود الكثير من المظاهر العدائية لبعض هذه الصفات، والتي عن طريقها يتزايد إعادة إنتاج هذه الجاهزية من الحياة الأولى وتتراجع مع امتداد الحياة. وبهذا المعنى، فالسلوك يتم تحديده أو تهذيبه نتيجة لهذا التطور التاريخي الذي يبدو شبه حتمي. هناك الكثر من الأطروحات في هذا الشأن؛ حيث نجد أن نظرية الانتقاء الجماعي لم تعد قادرة على الصمود بحسب سابولسكي؛ لأنَّ نظرية الانتقاء الفردي والتي تعتبر النظرية النقيضة للانتقاء الجماعي تقدم تأويلاً جيداً لتطور السلوك، ففي الانتقاء الجماعي تعبر الكثير من النسخ لجين واحد عن طريق زيادة الإنتاج وتصعيده. وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال أن هذا الانتقاء يحدث للأقارب؛ فالهُويات الثنائية المتشابهة، أو الإخوان تتشابه نسبة الجينات لديهم إلى حدودٍ كبيرة، وهذا يعني أن الكثير من الصفات من الممكن أن تتناقل بين الأقارب أو نشهد على تقارب أو تكرار في الهويات.

وفي الفصول اللاحقة، يُعالج هذا العمل مسائل بالغة الأهمية، والتشابك، غير أنَّها تنطلق جميعها من منظور بيولوجي وعصبي يسعى لتفسير كل الأشياء من هذه الزاوية؛ ففي مسألة "النحن والهُم" التي يتم معالجتها بطرق شتى، فلسفية واجتماعية ولغوية وغيرها، نجد أن سابولسكي يقدم لنا شروحات معمقة، وتفسيرات عصبية لهذه الظاهرة البشرية؛ لأن قشرة الدماغ تلعب دوراً كبيراً في هذا الشأن، فعن طريقها تتحدد الأعراق البشرية، وهناك مقولات متداولة يوردها سابولسكي بأن جميع البشر ينقسمون إلى قسمين: أولئك الذين يقسمون الأشخاص أو يصنفونهم، وأولئك الذين لا يقومون بذلك. ومن هنا، نستطيع فهم الطبيعة البشرية التي تذهب لتقسيم الأشخاص بناءً على الكثير من المحددات. ثمة أسئلة افتتاحية تقود هذا الفصل، وهي أسئلة طموحة، وبالغة الأهمية، منها: هل هناك أمل أن تنهزم أو تتراجع العشائرية أو الخوف من الغرباء وتصبح هوليود على سبيل المثال تصور لنا بأن البشر والغوريلا يتقاسمون الخبز والمعيشة سوياً؟ من الضروري التفريق هنا بين المشاعر والانطباعات المتولدة عن الآخرين، وأنماط التفكير تجاههم أيضا. فهذه العلاقة يتم تأطيرها عن طريق الوعي المتولد والذي تعمل عليه الثقافة في نفس الوقت؛ فالوعي في الكثير من الحالات يحتاج أن يخلق أعداء له، أو صفات مختلفة عنه ليواصل تبلوره، ويطور من أداوته. كما أن بعض التصرفات الفردية لبعض الأعراق والأشخاص يتم تعميمها وجعلها تنطبق على جميع المنتمين لهذا العرق أو تلك السحنة.

كيف تحدث وتتكون العلاقات العمودية او الهيراركية بين البشر؟ وكيف ومتى يطيع البعض الآخر؟ ومتى يقاوم الشخص الأوامر ويعصي ما يقال له ويستقل برأيه؟ هذه الأسئلة لا يمكن إغفالها في هذا العمل؛ فهي لصيقة إلى درجة كبيرة، بالتصنيف البشري السابق بين النحن والهُم، حيث نجد أننا أمام خارطة معقدة، جدلية، مليئة بالأسئلة وعدم الاتفاق. فبعض الإجابات العنصرية لهذه الأسئلة حاضرة وبقوة في هذا العمل، وهو يناقش إشكالية تاريخية تتلخص في أن التصنيف له جذور اقتصادية واجتماعية.

وفي ختام هذا العمل، يتطرَّق سابولسكي إلى تلك النقاط الأثيرة والمحيرة لعلم النفس وعلماء السلوك الأوائل كالأخلاق والقيم، والحرب والسلام، ونظام العدالة والإجرام والإرادة الحرة؛ حيث إنَّ هذه المواضيع شكلت مواضيع جدل، ونقاش بين علماء النفس والفيزياء في العقود الماضية، كما هي الحال في المناظرة الشهيرة بين سيجموند فرويد واينشتاين. ونجد أن هناك الكثير من الأشخاص يستثارون بمجرد رؤيتهم لأعراق مختلفة، الأمر الذي يؤثر بدوره على التركيبة العصبية للأفراد، والنفسية كذلك.

--------------------------

- الكتاب: "السلوك: بيولوجيا البشر في أفضل وأسوأ حالاتها".

- المؤلف: روبرت سابولسكي.

- الناشر: VINTAGE Books - 2018.

- عدد الصفحات: 800 صفحة.

أخبار ذات صلة